هذا المبدأ لا يزال يحتفظ بقيمته ودلالته لكن الذي تغير هو تنامي القدرة على إساءة توظيف وإستغلال الحقيقة. من وجوه هذا الاستغلال أن تقال الحقيقة متأخرة. عندما يكون اصلاح نتائج إخفائها متعذرا". ويتضخم سوء الإستغلال هذا عندما يكون الاعلان عن الحقيقة هادفا" لتوريط جهات إضافية ولو بعد حين. الرئيس السابق للموساد الإسرائيلي يؤلف كتابا" بعنوان " جواسيس جدعون / التاريخ السري للموساد" يزعم فيه إعلان أسرار وحقائق خافية. ومنها عدم مسؤولية ليبيا عن حادثة لوكربي وإتهام ايران بهذه الحادثة. لكننا وأمام مخابراتي من هذا العيار نسأل عما اذا كانت ايران هي الفاعل الحقيقي بعد ثبوت البراءة الليبية؟. أم أنها كذبة أخرى تقال على شكل حقيقة.
بغض النظر عن إساءات توظيف الحقائق فإن الكتاب يستحق الوقوف عنده وقراءته بالحذر اللازم. وسنعرض أدناه لقراءتنا لهذا الكتاب.
في كتابه "جواسيس جدعون... التاريخ السري للموساد" يقول ضابط الموساد السابق غوردون توماس بأن طائرة البان ام، التي تفجرت فوق لوكربي، كانت تضم بين ركابها ضباطاً من وكالة الاستخبارات الأميركية. حيث وجدت احدى حقائبهم فارغة تماماً! وتبين فيما بعد أن الموساد وبمساعدة المخابرات الانكليزية قامت بسرقة محتويات هذه الحقيبة. وكانت عبارة عـن مستندات تؤكد تورط إسرائيل في تجارة المخدرات في الشرق الأوسط وأخرى تتعلق بصفقات أسلحة إسرائيلية سرية .
وتأتي هذه المعلومات لتضاف إلى أخرى شبيهة تراكم الدلائل على السبـل التي تعتمدها اسرائيل في محاولاتها للاستغناء عن
الدعم الأميركي لاقتصادها. وذلك تحسباً لمحاولات تقنين هذا الدعم بعد نهاية الحرب الباردة، حيث ارتفعت أصوات أميركية تطالب بوضع استراتيجية ملائمة للمصالح الأميركية لما بعد هذه الحرب. ومنها تقليص الدعم الأميركي الموجه أساساً لمواجهة الشيوعية والذي لم يعد مبرراً بعد سقوطها.
ولقد تبين لغاية الآن عجز اسرائيل عن تحقيق استقلاليتها الاقتصادية بالأساليب المشروعة، خصوصاً عندما نأخذ في الاعتبار أن متوسط الدخل الفردي في اسرائيل يصل إلى حدود 16 الف دولار سنوياً. وهو يعادل مثيله في بعض الدول الأوروبية الكبرى. ومن أمثلة الكسب الاسرائيلي اللامشروع المدعومة بالأدلة نذكر:
ـ التورط في تجارة المخدرات في المنطقة وفي العالم ولكن مع التركيز على اختراق الدول العربية المجاورة بهذه التجارة. وهو اختراق يجمع بين الكسب المادي وبين التخريب المعنوي والانساني لهذه الدول.
ـ صفقات الأسلحة السرية مع جهات متعددة.
ـ بيع الأسرار التكنولوجية- العسكرية (أميركية في أغلبها وتحصل عليها اسرائيل عن طريق التجسس والعلماء اليهود الأميركيين). وبرزت من هذه الصفقات في العام 1999 تلك التي أبرمتها اسرائيل مع الصين. وظهرت شكوك جديدة في نيسان/أبريل 2000 حول صفقة اسرائيلية لبيع طائرات الأواكس إلى الصين.
ـ حماية أثرياء اليهود المطلوبين من العدالة الدولية واستقطاب ثرواتهم، وهؤلاء المجرمون يتحولون إلى مواطنين اسرائيليين فور وصولهم الى اسرائيل. وذلك وفق قانون العودة اليهودي.
ـ العلاقات مع الجريمة العالمية المنظمة. وهي علاقات متعددة الصعد. وقد تكشفت من أساليبها الآتية.
أ ـ المشاركة اليهودية في الجريمة المنظمة، حيث تحول بعضهم الى الصفوف الأولى فيها. ومنهم المافياوي الروسي بيريزينوفيسكي الذي تحكم بالكرملين طـوال عهد يلتسين والذي لايزال نافذاً في عهد خلفه بوتين. والأمثلة عصية على الحصر.
ب ـ مشاركة اسرائيلية عن طريق ضباط متقاعدين يقومون بأدوار تدريبية واستشارية لتجار المخدرات (في كولومبيا خصوصاً).
ج ـ التسهيلات التي تقدمها اسرائيل بصورة مموهة لزعماء الجريمة المنظمة ولمصالحهم.
د ـ المشاركة الاسرائيلية النشطة في تجارة الأسلحة وتهريبها. حيث نجد بصمات اسرائيلية في مناطق الفوضى الديموغرافية في العالم كافة.
ه ـ تهريب البضائع الاسرائيلية الى الدول العربية بكل الوسائل الاحتيالية المتاحة. بما في ذلك تزوير شهادات المنشأ وإعادة التصدير عبر قبرص أو عبر الدول العربية المتاخمة لاسرائيل.
و ـ المشاركة في عمليات تبييض(غسيل) الأموال القذرة. ومنها ما تبين عن دور الموساد في فضيحة غسيل الأموال الروسية في الولايات المتحدة(1999) والتي تسببت بأزمة دبلوماسية أميركية - روسية. حتى أن بعضهم ربط بينها وبين استقالة يلتسين في 1/1/2000 .
ز ـ دفن النفايات النووية والكيميائية في أراض عربية محتلة أو متاخمة لحدود الدول العربية.
ح ـ وجود أصابع يهودية في الكوارث الاقتصادية العالمية كافة. فقد كان اليهودي بيريزينوفيسكي مسؤولاً عن الإنهيار الاقتصادي الروسي واليهودي جورج شوروش كان مسؤولاً عن انهيار النمور الآسيوية... الخ.
ط ـ بيع المعلومات الجاسوسية. وما خفي منها أكثر مما هو معلن. والأمر يحتاج إلى بضع سنوات كي تتضح هذه الأسرار.
ك ـ ابتزاز العالم تحت ستار الهولوكوست وصولاً لابتزاز الفاتيكان نفسه (تبدى في زيارة البابا الأخيرة لاسرائيل) وصولاً الى مطالبة المصارف السويسرية بكميات هائلة من الذهب بحجة أنها مسروقات نازية من أموال اليهود.
ل ـ التدخل في الشؤون الداخلية للعديد من الدول ومحاولـة ابتزازها بصور مختلفة. وأحدث الأمثلة على ذلك، تلك الضجة التي أثارتها اسرائيل حول النمسا بعد انتخاب هايدر اليميني. حيث لا تزال اسرائيل تحاول تحقيق المكاسب مقابل تخفيف الضغوطات على النمسا.
هذه هي النماذج التي تحاول اسرائيل عبرها تحقيق كفايتها الاقتصادية ومع ذلك فهي تحافظ على وضعية دولية مثالية اذ تتمتع بـ :
أ ـ أعلى نسبة من المساعدات الخارجية الاميركية.
ب ـ اعتبارها دولة نظيفة من الارهاب ومن دعمه بالرغم من تحديها المتكرر للقرارات الدولية.
ج ـ اعتبارها واحة ديمقراطية في المنطقة.بما في ذلك من تجاهل كونها مجتمعاً عسكرياً يحكمه جنرالات ويقررون مصيره.
د ـ دولة تحترم مبادئ حقوق الانسان (بالرغم من التقارير المخالفة).
هـ ـ تحتكر تمثيل المصالح الأميركية والغربية في المنطقة حتى بعد زوال الخطر الشيوعي.
لهذه الأسباب مجتمعة يتهيب الاعلاميون والمفكرون الغربيون التعامل الواقعي مع حقائق الشرق الأوسط والتجاوزات الاسرائيلية. حتى لا يلقوا النبذ والعقاب اللذين لاقاهما زملاء لهم تجرأؤا على ذلك. وعوملوا وفق المبادئ الرومانية (الصهيونية) الجاهزة لتجاهل الليبرالية في مثل هذه الحالات.
اما عن مناسبة استحضار هذه المعطيات فهي متشعبة ومنها مأزق المسار اللبناني - السوري الذي تحاول اسرائيل اختراقه على طريقة الكوزانوسترا (المافيا). حيث تقوم بتهديد وابتزاز الأطراف كافة وتصر على وجود طرف يقدم لها مكاسب مالية(الولايات المتحدة في هذه الحالة). لكن مناسبة مميزة من جملة مناسبات دعتنا لاستحضار هذه الحقائق وهي تتعلق بالمستقبل. والمناسبة هي دراسة قدمتها باحثة من جامعة بن غوريون الاسرائيلية تشير الى نموطبقة من مليونيرات المخدرات الاسرائيليين . والى وجود علاقات وثيقة بينهم وبيـن
بعض كبار ضباط الشرطة الاسرائيليين الذين يحصلون، نتيجة هذه العلاقة، على مبالغ طائلة تحول إلى حساباتهم المصرفية في الولايات المتحدة. كما تشير هذه الدراسة الى أن هؤلاء التجار بدأوا يلجأون إلى حلول عملية تخفض تكلفة بضاعتهم، وخصوصاً البانجو(مخدر رخيص ورائج). حيث تفتق ذهنهم عن تصدير شتول هذا المخدر الى الدول العربية، التي تقيم علاقات مع اسرائيل لزراعتها هناك. وفي ذلك توفير مهم في التكاليف واعتماد عصري لمبدأ الشركة العملاقة. حيث يطاول التوفير عناصر عديدة، منها رخص الأراضي واليد العاملة وتوفير تكاليف ومخاطر التهريب. ثم، وهذا هو الأهم، هنالك مكسب السبق الذي يحققه التجار الإسرائيليون في ما يتعلق بمستقبل تجارة المخدرات في المنطقة. وهكذا فإنهم يفكرون دائماً في المستقبل ويحسبون الحسابات لمختلف الاحتمالات!
ولقد وصلت القضية الى الكنيست الإسرائيلي حيث أثارها عضو ينتمي الى حزب العمل الحاكم، مؤكداً أنه يملك الوثائق التي تدين التجـار وضباط الشرطة معاً. إلا أننا نتساءل عما إذا كان يمكن للجهتين معاً أن يعملا بعيداً
عن أعين أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية والأميركية معاً؟ وعن مدى تورط هذه الأجهزة مع هؤلاء؟ وعن إمكانية التدخل الفاعل لمنع هذا المدخول الإضافي للخزينة الاسرائيلية؟ وعن هذا السؤال الأخير أجابنا مؤلف "جواسيس جدعون " المدعو " غوردون توماس ". ولكن من يجيبنا عن سؤال منع هذه الزراعات في لبنان بهدف اتمام حصاره الاقتصادي الضاغط وليس لأسباب أخلاقية أو انسانية؟ وكيف تصنع هذه الأخلاقيات والانسانيات وتطبق على الجميع لتستثني منها اسرائيل؟ وهل يعني ذلك أن من شروط السلام احتكار اسرائيل لتجارة المخدرات حتى تكفل لنفسها دخلاً يعوضها من خفض المساعدات الأميركية لها ويؤمن لها مستقبلها؟ أم أنها سياسة التطبيع عن طريق البانجو (وغيره من مواد الادمان) بأسعار في متناول الأيدي الفقيرة؟. لقد يئست اسرائيل من كل أساليب التطبيع (الهادفة لتحويل الأغيار من أبناء اسماعيـل _ العـرب إلى مجرد أسماك ملونة في حوض يتفرج عليه الاسرائيليون ويتحكمون بمياهه ونظافته وغذائه) وها هي تلجأ الى أسلوب التطبيع البانجو. فهل يتحرك مكتب المخدرات في الأمم المتحدة: وهل يمكن لأحد أن يخبرنا بالحصة الاسرائيلية في سوق المخدرات العالمي المسموح بها أميركياً؟ وكلها أسئلة فرعية لأن السؤال الرئيسي يبقى: من يحمينا من الارهاب الاسرائيلي في صورته هذه كما في صوره الأخرى؟.