آخر الأخبار

الأدب

الأدب يا سادتي، أو ما ينتسب شرعا أو زورا للأدب، يمكن أن نقسمه لقسمين:

القسم الأول: هو الأدب كما تحبه العربان: و نعطيكم مثالا: الشاعر سليمان العيسى...
للأسف لست قادرا على إيراد أن مقتطف من أشعاره ذلك أن ذاكرتي تتمرد علي حين أحاول! و لكن لنقل أن اشعار سليمان العيسى كانت من نوع:
"يعيش الشعب العربي و يا! يلعن أبو إسرائيل و يل!" أو أسوأ من ذلك بقليل...
الواقعية الإشتراكية أيضا هو "أدب" تحبه العربان: أليس الطيبون جميعا حلوين و في ريعان الشباب و القامة مشنوقة (أم لعلها "ممشوقة")؟، في حين أن الأشرار جميعا بشعين و أنفهم يسيل و لا يغسلون أيديهم قبل الدخول إلى المرحاض و بعده...

طبعا الأدب الحقيقي لا علاقة له بهذه الجحشنة العربية... الأدب الحقيقي و هو القسم الثاني مما ذكرناه أعلاه، يرسم صورة الواقع المعاش كما هي، بتنوع ألوانها، و كما في الواقع فإن معظم "الطيبين" يكونون بشعين و أنوفهم تسيل، أما الأشرار فهم مشنوقي القامة شلولخ: ليست هنا المشكلة...

فحتى لو كره الكارهون، فشكسبير أديب عظيم، و مسرحياته تنتمي للأدب الحقيقي، و ليس للدعايات الرخيصة لحزب البعث... و كما شكسبير، كما دستويفسكي، كما ياروسلاف هاشيك، كافة الأدباء العظام يعلمون أن الجمال ليس بأثواب تزيننا...

و كمثال عن الأدب العظيم سنقدم لكم كتاب موبي ديك... فاستجمع شجاعتك أيها القارئ الكريم و اتبعني فالطريق طويلة لكن الهدف يلوح في الأفق!

موبي ديك، و هي رواية للكاتب الأمريكي هرمان ملفل، و هو الكتاب الذي سبق لي و وصفته بأنه الكتاب المقدس الوحيد، موبي ديك تروي قصة رحلة القبطان آخاب لمطاردة الحوت الأبيض، موبي ديك...
راوي القصة، اسماعيل، هو أحد البحارة على السفينة -و هو الوحيد الذي يبقى على قيد الحياة في نهاية القصة حين يقوم الحوت الأبيض بإغراق السفينة بمن فيها... و منذ بداية القصة، منذ أن يعلن القبطان آخاب للبحارة أنه يريد قتل موبي ديك، يصبح اسماعيل -مثله في ذلك مثل كل البحارة- مؤيدا متحمسا للقبطان آخاب: الموت لموبي ديك! الموت لموبي ديك!
و تتوالى القصة فصولا فيضع آخاب كل علمه و خبرته لمطاردة الحوت اللعين عبر المحيطات و البحار، حتى يقع على أثره و تدور المعركة بينهما، معركة ملحمية تستمر ثلاثة أيام، و تنتهي بانقضاض الحوت الأبيض على السفينة و تحطيمها و إغراقها كأنها لم تغن بالأمس...

خلال القصة بأكملها يكون من الواضح لإسماعيل أن القبطان آخاب هو ممثل الإنسانية، المدنية، الحضارة المتمدنة، في مواجهة موبي ديك الذي يمثل الوحشية، الطبيعة المتوحشة... و بالتالي فالحق هو بجانب آخاب... أم أنه؟

لاك يعني عن جد: أم أنه؟

يعني من قال أن المدنية هي الحق و الوحشية هي الباطل؟ من؟ المتمدنون بالطبع! لكن شهادتهم منحازة!

أوليس من الممكن أن يكون آخاب نفسه -ممثل المدنية- هو رسول الشر و أن الخير و الجمال هما في جانب الطبيعة، حتى و لو كانت وحشية؟

طبعا كلامي أعلاه هو مختصر شديد الإختصار -حتى لنقول أنه إساءة لهذا الكتاب العظيم! من أراد أن يعرف موبي ديك فعليه أن يقرأ موبي ديك (أما في ما يخصني فأول نسخة التي قرأتها من موبي ديك فكانت مسروقة -إحم، عفوا: مستعارة! من المكتبة الشخصية للشاعر أدونيس ما غيرو، هع هع هع)...

نلاحظ أن هرمان ملفيل لم يحاول أن يصف آخاب بأنه بشع و أنفه يسيل، لا، و لا هو حاول أن يصف موبي ديك بأنه "و إغاثة الملهوف"، و لهذا تحديدا أعتبر موبي ديك من أعظم روايات العالم....

-و من أحب أن يستلخص حكمة مما سبق، فنقترح عليه أن ينظر لآخاب كممثل لأمريكا بجبروتها و علمها و فتوتها و قد انطلقت لتحضّر العالم البربري المتوحش، و هو ما يمثله موبي ديك...

هذا هو الأدب الحقيقي يا سادتي، و سنعود إذن لشكسبير...

فشكسبير يا سادتي كان كاتبا عظيما، و هذا بحد ذاته يكفينا للإقتناع أنه ما كان متدينا ورعا، لا و لا كان رفيقا بعثيا ملتزما...
لا! شكسبير لا كان بعثيا و لا خونجيا، حاشا للثريا أن تقارب الثرى!

شكسبير كتب أدبا رائعا يستحق أن يقرأ كما هو، لا من خلال عدسات العقيدة البعثية أو الإيديولوجيا الإسلامية...

لشكسبير مسرحيات رائعة عديدة! منها "عطيل"، و منها "كوميديا الأخطاء"، و منها "روميو و جولييت"... فلم وقع اختيار واضع المنهاج المدرسي على "تاجر البندقية"؟

يا سيدي على الأغلب لأنه حمار: يعني هو يقرأ من خلال عدساته الإيديولوجية فيرفض عطيل لأن "الشرير" فيها عربي، و يرفض "روميو و جولييت" لأنها تتحدث عن الحب، إي شو نحنا فاضيين للحب؟ نحن نريد إنشاء جيل عقائدي، جيل عاجز عن التفكير و قادر فقط على ترديد الجعير الذي نلقنه إياه! و لنفس السبب نرفض "كوميديا الأخطاء"... يعني نحن نرفض أن نعلم الشباب السوري الضحك!

"يا بني، انظر للحياة من منظار أسود!" (حكمة لفؤاد المهندس في مسرحية "حقا إنها عائلة محترمة"، و المبدأ الأساسي في نظريات البعثيين و الخونجية و ملحقاتهم)

أما "تاجر البندقية" فيا سلام!!! يعني حين نقرأها بغباء -خصوصا بمساعدة مدرسين كتلك التي ذكرتها أعلاه في قصتي الحقيقية و الممتعة و ذات المغزى- يعني يمكننا و بكل بلاهة أن نستنتج أنها مسرحية تهاجم اليهود...

طبعا حين نقرأ المسرحية بما يليق بها، نجد أنها تصف مجتمع إيطاليا في القرن السادس عشر كما هو، و بالتالي، فيما يخص اليهود، فهي توضح مدى حقارة و انحطاط و نفاق هذا المجتمع القذر... و ضحيته اليهود!

و لكن كما قلنا، فلإدراك ذلك يجب التمتع بحد أدنى من العقل يتجاوز بما لا يقاس عقل بعض واضعي المنهاج المدرسي السوري، و الكثير من المدرسين السوريين، و معظم الطلاب الدارسين لديهم!