آخر الأخبار

القانون والمجتمع في بلاد مابين النهرين

تمهيد
بلاد ما بين النهرين هي تلك البلاد التي تقع ما بين نهري دجلة والفرات، والتي تعرف اليوم باسم العراق.

وحضارة بلاد ما بين النهرين هي حضارة قديمة أسوة بالحضارة المصرية، حيث تمتد جذورها التاريخية إلى العصر الحجري . على أنه بينما أتسمت الحضارة المصرية بالعزلة، فإن بلاد ما بين النهرين قد ارتبطت بالشعوب المجاورة بروابط متعددة خاصة في مجال التجارة.

كان سكان بلاد ما بين النهرين ينتمون أساسا إلى جنسين: السومريون، وهم سكان غير ساميين يتوطنون في جنوب البلاد، والأكاديون في الشمال وهم من الساميين. وكانت " أكاد " التي ينتمي إليها هؤلاء الأخيرين تقع في شمال " سومر ".

ولا يعرف العلماء على وجه التحديد الأصل التاريخي للسومريين أو الجنس الذي ينتمون إليه. وإن أعتقد البعض أن موطنهم الأصلي مرتفعات فارس أو المنطقة التي تقع وراء الخليج العربي .

إذن، بلاد أكاد وسومر هي بلاد ما بين النهرين، وقد عُرفت أيضا باسم بابل، باب إيل أي باب الله.

كانت بلاد ما بين النهرين مقسمة إلى دويلات يحكم كل منها ملك أو أمير، مما أعاق حركة تقدمها، بل وكان سببا أساسيا في حروب متعددة بين هذه الدويلات حتى استطاع الملك "حمو رابي" (١٧٤٨- ١٦٨٦ ق. م.) توحيد البلاد وجعل من اللغة الأكادية اللغة الرسمية للدولة الموحدة، وبذلك توحدت البلاد سياسيا وتشريعيا في عهد البابليين، وهو ما استمر أيضا في عهد الآشوريين، وهم من الأقوام السامية التي تركت موطنها الأصلي في الجزيرة العربية وتوطنت في بلاد ما بين النهرين.

وقد وصل سلاطين وملوك آشور إلى كل منطقة الهلال الخصيب ودمشق وفلسطين حتى منطقة الدلتا بمصر السفلى. إلا أن بطش الحكام الآشوريين قد آلب عليهم أعداءهم فولّت دولتهم وانتقل السلطان مرة أخرى إلى الدولة البابلية الجديدة التي استمرت حتى استولى الفرس عليها عام ٥٤٩ ق. م. التي أصبحت بذلك جزءا من الإمبراطورية الفارسية حتى عام ٣٣١ ق. م.، حيث استولى الاسكندر الأكبر على بلاد ما بين النهرين التي غدت جزءا من إمبراطوريته.

وقبل أن نعرض النظم القانونية التي سادت في بلاد ما بين النهرين، فلعله من الضروري أن نتصدى أولا للأوضاع السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة في هذه البلاد.

الأوضاع السياسية

نشأت بلاد ما بين النهرين ما بين النهرين في شكل دويلات متعددة تتكون كل منها من مدينة معينة وما يحيط بها من أراضي. وهكذا قامت دول المدن كما أسماها المؤرخون.

وعلى هذا النحو كانت المدينة هي الخلية الأساسية في التنظيم السياسي. وكان تأسيس المدينة عملا إلهيا يتم بناءها على أوامر الآلهة بوصفها مركزا للعبادة.

أما الملك فكان الوسيط بين الآلهة والبشر، أو نقطة التلاقي بين السماء والأرض. فلم يكن وضع ملوك بلاد ما بين النهرين مماثل لفراعنة مصر مثلا، حيث كان الملك نفسه هو الإله وليس مجرد وسيط بين الآلهة والناس.

ولما كان الملك هو الوسيط بين الآلهة والبشر، فهو إذن الذي يتلقى القوانين من الآلهة ليحكم بمقتضاها بين الناس. فهو القاضي الأعلى، وهو من تجب طاعته على الجميع.

ومن جهة أخرى فقد كان الملك هو الكاهن الأكبر للديانة، وهو الذي يدير أموال الآلهة. ولقد كان للملك أمواله الخاصة، فهو لم يدع في يوم من الأيام أنه المالك الوحيد لأراضي البلاد جميعها كما أدعى الفراعنة في مصر مثلا.

واعتبار الملك وسيطا بين الآلهة والبشر قد جعل مسؤوليته مباشرة أمام الآلهة إذا لم يحقق الخير للجماعة ولم يكفل العدالة بين الناس .

وكانت الملكة، زوجة الملك، هي التي تساعده في إدارة البلاد، ويساعدها "النوباندا" أي المشرف العام، وهو أمين خزانة الملك والمشرف على المشاريع والشؤون الزراعية، وحاجب القصر ومسجل العقود.

وتشير الوثائق إلى وجود عدد من "النوباندا" يختص كل منهم بالإشراف على قطاع أو عمل معين. ويتبع كل منهم عدد من الموظفين.

كما تشير الوثائق التاريخية إلى أن ملوك بلاد ما بين النهرين قد استعانوا بالوزراء لمساعدتهم على إدارة البلاد، وعلى رأس هؤلاء الوزير الأول المسؤول مباشرة أمام الملك.

ولعبت المعابد دورا هاما في الحياة الاقتصادية للبلاد، حيث كان للآلهة أملاكهم الخاصة ومخازن غلالهم وعبيدهم، وهي أملاك تتبع المعابد التي تتصرف في ريعها. وقد تكونت هذه الأملاك مما كان يقطعه كبار الملاك للمعابد أو ما يقدمونه إليها من أملاك طلبا لرضاء الآلهة وتجنبا لغضبهم .

وقد كان من المحظور التصرف في أموال المعابد على أي نحو ما عدا إيجار الأراضي الذي سمح به على أن تستعمل الأجرة لصالح المعبد.

ورغبة في حماية أموال المعابد، فقد كان أي اعتداء على هذه الأموال بالسرقة، أو غيرها يعرض مرتكبه لعقوبة الإعدام.

الأوضاع الاجتماعية

تميز مجتمع بلاد ما بين الرافدين بكونه مجتمعا طبقيا، فقد انقسم هذا المجتمع إلى ثلاث طبقات: طبقة الأحرار، وطبقة متوسطة تسمى طبقة الموشكينو أو طبقة المتواضعين، وطبقة العبيد في أسفل السلم.

على أن التقسيم السابق للمجتمع لا شأن له بطبقة الملوك ورجال الدين. فهؤلاء هم الطبقة الحاكمة التي تحتل القمة ولا تدخل في التدرج الطبقي سالف البيان.

وقد مضت الإشارة إلى أن مجموعة شرائع حمو رابي هي التي أشارت إلى وجود هذا التدرج الطبقي في بلاد ما بين النهرين.

وكانت طبقة الأحرار، وهي الطبقة المتميزة بعد الطبقة الحاكمة، تتكون من الملاك الزراعيين والتجار وأصحاب الحرف.

وكان أفراد هذه الطبقة يشتركون في المجالس البلدية للبلاد، وهي المجالس التي تنبعث منها كافة التنظيمات الإدارية والقضائية للدولة.

أما طبقة الموشكينو، والتي تحتل مكانا متوسطا بين طبقة الأحرار وطبقة العبيد، فقد أختلف في شأنها العلماء. فمنهم من ركز على الأصل اللغوي لكلمة موشكينو التي تقابلها في العربية "المساكين" مما يفيد أن أفراد هذه الطبقة كانوا من المتواضعين.

ومن العلماء من فضل عدم التورط في البحث اللغوي لأصل الكلمة مفضلا الأخذ ببساطة بالمعنى الوارد للكلمة بمدونة حمو رابي وكذلك القوانين السابقة واللاحقة عليه. فهي طبقة تتكون من أنصاف الأحرار من أرقاء الأرض والعتقاء والفقراء والمساكين وصغار الجنود.

ويرى البعض أن طبقة الموشكينو هي طبقة "العامة"، أي الأرقاء القدماء أو الأحرار الذين أُبعدوا عن طبقتهم الاجتماعية باعتبارهم من الأجانب .

وأيا كان الأمر فقد اتفق الجميع على أن طبقة الموشكينو كانت في وضع أدنى من طبقة الأحرار، إلا أن أفرادها يتمتعون بالشخصية القانونية أسوة بغيرهم من غير الأرقاء.

وبهذه المثابة يستطيع كل فرد من أفراد هذه الطبقة أن يتعاقد ويتملك الأموال بكافة أنواعها بما في ذلك العبيد. كما كان له أن يتزوج مكونا أسرة شرعية.

وقد حرصت شرائع حمو رابي على وضع النصوص القانونية التي توفر الحماية القانونية المتطلبة لأموال الموشكينو. ويرى البعض أن "نصوص الحماية هذه لا تعني أن القانون قد تدخل بقصد حماية الموشكينو ولكنها تعني أن وضع الموشكينو الأدنى يحتاج إلى تدخل تشريعي لتحديد هذا المركز بمقارنته بحالة الأحرار التي تكون الحالة الطبيعية للأوضاع الاجتماعية والقانونية في صلب التشريع" .

وقد أعطانا قانون حمو رابي عدة أمثلة توضح المركز المتوسط لطبقة الموشكينو فيما بين كل من طبقتي الأحرار من ناحية والعبيد من ناحية أخرى. فبينما لم يكن للعبد حق تطليق زوجته، فقد كان يحق للموشكينو على العكس أن يطلقها أسوة بالأحرار. على أنه بينما كان القانون يفرض على الزوج من الأحرار أن يدفع للزوجة في هذه الحالة مبلغا من النقود (مينة كاملة من الفضة)، فان الزوج من طبقة الموشكينو لم يكن ملزما إلا بأداء ثلث هذا المبلغ.

كذلك فإذا فقأ احد عين أحد العبيد أو كسر عضوا من أعضائه فعليه أن يدفع تعويضا هو نصف مينة فضية، بينما يجب على المعتدي أن يؤدي ضعف هذا القدر فيما لو تم الاعتداء على أحد الموشكينو. أما لو كان الاعتداء قد تم على أحد الأحرار فإن المعتدي يعامل طبقا لقانون القصاص العقوباتي، أي العين بالعين والسن بالسن.

وأخيرا، في قاع التدرج الطبقي لبلاد ما بين النهرين، توجد طبقة العبيد أو طبقة الأرقاء. وهي طبقة تمتعت بأهمية خاصة في بلاد ما بين النهرين تميزها عن طبقة العبيد في أغلب المجتمعات القديمة.

ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن طبقة العبيد في بلاد ما بين النهرين كانت تتكون من سكان البلاد الوطنيين بالإضافة إلى القليل من الأجانب. والجدير بالذكر إن الرقيق في بلاد ما بين النهرين كان يتبع أمه دون أبيه. فابن الحرة حر ولو كان أبوه رقيقا، وابن الرقيقة يكون رقيقا ولو كان أبوه حرا.

وقد أشار قانون حمو رابي إلى أن الأطفال الذين يولدون من جارية السيد يعتقون بقوة القانون هم وأمهم بعد وفاة أبيهم. أما الأطفال الذين يولدون من أبوين رقيقين فيصبحون مثلهم.

هذا عن الرق بالولادة، أما عن الرق لأسباب لاحقة على الولادة فإن قانون بلاد ما بين النهرين قد اعتبر الحرب أهم هذه الأسباب أسوة بغالبية الشرائع القديمة. فالأسير يصبح عبدا لمن أسره من الجيش المنتصر.

بل أن الأباء كثيرا ما كانوا يبيعون أولادهم في سوق الرقيق نتيجة للفقر وحاجتهم للمال. كذلك فقد كانت الأحكام الجنائية سببا في وقوع المحكوم عليهم رقيقا.

ومن جهة أخرى فقد أشارت وثائق الأشوريين إلى أن عدم الوفاء بالدين يعد سببا من أسباب الرق. فإذا حل موعد استحقاق الدَيْن ولم يقم المدين بالسداد يصبح عبدا لدائنه. بل وكان في قدر الدائن أن يبيع زوجة المدين وأولاده كعبيد لمدة معلومة حددها قانون حمو رابي بثلاث سنوات .

وأيا ما كان الأمر فقد أُختلف المركز القانوني للعبد في بلاد ما بين النهرين عنه في الشرائع القديمة الأخرى. حقا أن العبد كان يعتبر في البداية على الأقل، في مركز الأشياء أو الحيوانات، إذ كان يعد في حكم الأشياء النفيسة، إلا أن تطور النظام القانوني لبلاد ما بين النهرين قد سمح للعبد بممارسة بعض الحقوق التي تجعل من مركزه القانوني مركزا يختلف عن وضع العبيد في القانون الروماني في مرحلة تاريخية لاحقة.

فقد خوّل قانون بلاد ما بين النهرين للعبد أن يعترض على ثمن بيعه أمام القضاء. كما كان بائع العبد ملتزما أمام المشتري بضمان العيوب الخفية بالنسبة للعبد. وقد حدد حمو رابي مدة الضمان بشهر واحد.

ومن جهة أخرى فقد حرص القانون على حماية السيد بتوقيع عقوبة الإعدام على كل من يأوي عبدا هاربا من سيده.

على أن المركز الأدنى للعبد لم يصل إلى حد إلغاء كافة مظاهر شخصيته القانونية. فقد كان في إمكان العبد في القانون البابلي أن يكوّن أسرة، وبالتالي أن يعقد زواجا شرعيا. وكان يمكن له أن يتزوج من حرة ويكون أولاده في هذه الحالة من الأحرار.

بل وكان يجوز للعبد أن يتملك الأموال التي تمثل بالنسبة له حوزة مالية خاصة، وهو ما سُمح له بالتقاضي أمام المحاكم. كذلك فقد كان للعبد أن يمارس الحرف التي تتفق مع قدراته وأن يضم إليه عددا من العبيد يعملون لحسابه.

وحرص القانون البابلي على إضفاء حماية خاصة على الرقيقة التي تنجب من سيدها، فحرم بيعها وإن كان قد سمح برهنها أسوة بالزوجة الشرعية. ومثل هذه الرقيقة كانت تعتق بقوة القانون فور وفاة سيدها.

ويشير قانون حمو رابي إلى حالة خاصة تتعلق بالجندي الذي يقع أسيرا في خارج البلاد، ومن ثم يصبح عبدا لسيد أجنبي. فإذا عاد هذا الجندي إلى وطنه بعد أن أفتداه أحد التجار، فإنه يعود حرا بشرط أن يقدم فدية إلى من افتداه. فإن لم يتمكن من أداء الفدية جاز للقصر أو للمعبد أداء الفدية المتطلبة.

أما بالنسبة لحالات عتق العبد، فقد كان يجوز للسيد بإرادته أن يعتق عبده وذلك بموجب عقد خاص أو أمام القضاء. ويشير قانون حمو رابي إلى أن حفلة دينية خاصة كانت تقام لإعلان عتق العبد حيث يقرر السيد أنه لم يعد له أو لأولاده من بعده أي حق على العبد.

ويشير البعض مع ذلك إلى أن المعتق يظل مرتبطا ببعض الالتزامات صوب سيده القديم أثناء حياته.

ومن جهة أخرى فقد كان يجوز للعبد أن يشتري حريته بماله، ما دمنا قد رأينا إن كان يتملك الأموال، كما كان يمكن له أن يستدين من الغير لشراء حريته، على أن يسدد دينه لدائنه بعد ذلك.

وأخيرا فقد كان العتق يتم أيضا كمنحة من المشرع، وذلك في الحالات الآتية:

١ - الأطفال يولدون من علاقة رجل حر بإحدى رفيقاته. إذ يعتق هؤلاء بقوة القانون فور وفاة الأب.

٢ - زوجة المدين وأولاده الذين يباعون أو يرهنون. إذ يعتق هؤلاء تلقائيا بعد ثلاث سنوات.

٣ - المواطن الذي يقع في الرق في بلد أجنبي ثم يتم افتداؤه بواسطة شخص آخر ويعوج إلى أرض بابل. إذ يصبح حرا بمجرد عودته.

النظم القانونية
مقدمة

نعرض في هذا القسم كل نظام الأسرة، ونظام الأموال، ونظام العقود والالتزامات، وعلى ذلك نقسم الدراسة في هذا القسم إلى ثلاثة أقسام.

نظام الأسرة

الزواج

لم يكن النظام القانوني لبلاد ما بين النهرين يسمح للرجل إلا بزوجة شرعية واحدة، وإن كان له أن يتخذ أكثر من جارية إذا أراد. بل وكان يمكن للجارية أن ترقى إلى مرتبة الزوجة الشرعية إذا أعلن ذلك الزوج أمام شهود وفي وثيقة رسمية.

ومن جهة أخرى فقد انتشرت في ذلك الوقت فكرة الزوجة من الدرجة الثانية (الشقتوم). ويكون من حق الزوج أن يتخذ لنفسه زوجة ثانية على هذا النحو إذا أصاب زوجته مرضا جسيما دون أن يكون من حقه طلاق زوجته الأولى.

وتشير مجموعة حمو رابي إلى المركز الأدنى للزوجة الثانية التي يتعين عليها احترام الزوجة الرئيسة وغسل قدميها.

ويرى البعض أنه كان من حق الزوج أيضا أن يتخذ زوجة ثانية في حال عدم إنجابه من زوجته الأولى أو من إحدى جارياته.

ومع ذلك فلم يكن من حق الزوج الزواج ثانية في هذه الحالة إذا قدمت له زوجته الأولى حاظية قادرة على الإنجاب.

وقد حرص القانون البابلي على حث الأزواج على عدم الزواج بزوجة ثانية وذلك لصعوبة إقامة العدل بين الزوجات.

وهكذا فإن الأصل في القانون البابلي هو الزواج الفردي. أما تعدد الزوجات فهو وضع استثنائي في بلاد ما بين الرافدين.

وقد أكد قانون حمو رابي على حظر زواج الأب بابنته أو بين الابن وأمه أو زوجته أبيه الثانية. على أن القانون الآشوري قد أجاز للرجل الزواج من أخت زوجته التي عقد عليها وذلك إذا ماتت قبل أن يدخل بها .

وأخيرا فلم يكن الاختلاف في المركز الاجتماعي أو في الطبقة الاجتماعية حائلا يمنع الزواج بين أفراد ينتمون إلى مراكز اجتماعية مختلفة، وذلك خلافا لما كان عليه الحال في مصر الفرعونية مثلا حيث كان الزواج محرما بين الطبقات المختلفة.

كيفية إبرام الزواج

كان قانون بلاد ما بين النهرين يشترط لصحة الزواج رضاء والدي العروسين. ويستشف ذلك مما جرت عليه العادة في ذلك الوقت من أن يقوم الأب والأم بتقديم الزوجة إلى زوجها.

وليس معنى ما تقدّم أن الزوج لم يكن له حق اختيار زوجة، وإنما كان رضاء الوالدين يؤخذ في الاعتبار.

بل وتشير مجموعة حمو رابي إلى أن المرأة المطلقة أو الأرملة كانت تختار زوجها بمحض إرادتها.

وتسبق الزواج عادة الخطبة. وكانت خطبة الزوجة تتم سواء من جانب الزوج أو أقاربه. ويتم ذلك باتفاق ذوي الشأن، حيث يقدم الخطيب الهدايا إلى عروسه ثم يعقب ذلك بأداء ما كان يسمى ب "التيرهاتو"، وهو مبلغ من المال يدفعه زوج المستقبل، ولم يكن أداء هذا المبلغ إجباريا، وإن جرت العادة على أدائه.

ويرى البعض أن هذا المبلغ هو ثمن شراء الزوج لزوجته، بينما يؤكد البعض الآخر أن الزواج لم يكن يتم في بلاد ما بين النهرين في صورة بيع المرأة.

وبجانب "التيرهاتو" فقد كان الزوج يقوم بدفع "النودوتو" لزوجته، وهو عبارة عن بعض الأغراض المنزلية أو بعض العقارات لتأمين حياة الزوجة وأولادها عند وفاة الزوج. ولم يكن للزوجة حق ملكية على "النودوتو"، والذي كان يثبت عادة في عقد مكتوب، وإنما كانت ملكيته للأولاد أصحاب المصلحة الحقيقية. أما الزوجة فلم تكن لها عليه إلا حق الانتفاع .

وبالإضافة إلى ما تقدم فقد كان يشترط لصحة الزواج أن يتم في وثيقة مكتوبة يوقعها الزوج حتى يلتزم بكافة الالتزامات المنصوص عليها في العقد وأن يؤدي لزوجته حقوقها في حالة الطلاق. وكان يشترط على الزوجة عدم الخيانة ويحدد العقد العقوبات التي توقع عليها إذا أقدمت على خيانة زوجها.

مكانة المرأة في المجتمع

تمتعت المرأة في بلاد ما بين النهرين بمركز مرموق. فقد كانت أولا تتمتع بالشخصية القانونية الكاملة، فكانت لها أموالها الخاصة، كما كانت تتمتع بحق الشهادة الكاملة كالرجل تماما، كما كان يحق لها أن تتصرف في أموالها كيفما تشاء.

وقد ترتب على ذلك أنها كانت تتمتع بحق التقاضي، بل وكان يجوز لها أيضا أن تعمل بالتجارة وتمارس الوظائف الإدارية المختلفة.

على أنه، ومن ناحية أخرى، فقد كان للزوج بمقتضى سلطته الزوجية أن يرهن زوجته لدى دائنه حتى سداد الدين. ويشترط في هذه الحالة ألا تتجاوز فترة رهنها ثلاث سنوات. بل كان يجوز للزوج أن يبيع زوجته على سبيل العقاب في حالة خيانتها له.

الطلاق

فرق القانون البابلي بين الزوج والزوجة بالنسبة للحق في الطلاق.

فبالنسبة للزوج، فقد كان القانون البابلي يسمح له بطلاق زوجته بناء على أسباب متعددة أهمها:

١ - عند ارتكاب الزوجة خطأ جسيما، حيث يحق للزوج طلاقها دون أن يكون من حقها الحصول على أي تعويض، كما كان بحق الزوج في هذه الحالة أن يستبقي زوجته عنده كعبدة.

٢ - في حالة ما إذا كانت الزوجة عاقر، حيث يحق لزوجها طلاقها على أن يمنحها مبلغ من النقود لمواجهة حياتها الجديدة.

٣ - عند مرض الزوجة بمرض خطير فقد كان من حق الزوج أن يتزوج أخرى مع إبقاء زوجته الأولى التي تتمتع بامتياز خاص. أما إذا هجرت الزوجة المريضة منزل الزوجية وعادت إلى بيت أهلها بموافقة الزوج، اعتبر ذلك بمثابة إعلان لنيته في تطليقها بسبب المرض ووجب على الزوج أن يرد للزوجة أموالها وأن يتولى الإنفاق عليها.

أما بالنسبة للزوجة فقد كان من حقها الالتجاء إلى القضاء لتطالب بتطليق زوجها إذا ما ارتكب أخطاء جسيمة في حقها مثل الخيانة الزوجية.

أما إذا رغبت في ترك زوجها دون سبب مقبول فهي تعاقب بالموت، لان إقدامها على ذلك يعد بمثابة إثم لا يغتفر في القانون البابلي.

وأخيرا فقد أشارت النصوص إلى حالة خاصة هي حالة الزوج الذي أسره الأعداء. فإذا كان الأسير قد ترك لزوجته ما يكفي من الأموال لإعالتها فلا يحق لها أن تعاشر سواه وإلا اعتبرت زانية. أما إذا لم يترك لها ما يكفي لإعالتها فيكون من حقها الزواج في غيابه. ومتى عاد إليها تعود إليه تاركة زوجها الثاني وكذلك أولادها منه.

التبني

عرف قانون بلاد ما بين النهرين التبني. وكان الهدف الأساسي من التبني هو معالجة انعدام الذرية. ومع ذلك فقد لجأت بعض الأسر إلى التبني رغم وجود الأطفال.

ويتم التبني قانونا بمقتضى عقد مكتوب بين الأهل الجدد (الأب أو الأم) وبين ذوي الشأن بالنسبة للمتبني، أي أهله الأصليين، وهم عادة أب الطفل أو سيده إذا كان عبدا. بل كان من المتصور أن يتم عقد التبني مع المتبنى نفسه إذا لم يكن له أسرة ينتمي إليها.

وتشير مجموعة حمو رابي إلى أن عقد التبني كان يتم في الشكل المألوف لغيره من العقود حيث يشترط الرضاء وعدم الإكراه.

ويترتب على العقد أن يصبح المتبنى ابنا شرعيا للمتبني الذي تنتقل إليه السلطة الأبوية. كما يكون للابن المتبنى حق الإرث من والده المتبني، وهو ما يفيد انتهاء حقوقه الارثية صوب أسرته القديمة.

وقد رتب القانون ضمانا للمتبنى في حالة تخلت عنه أسرته الجديدة. فقد نصت المادة ۱۹۱من قانون حمو رابي على منح المتبنى إذا أُستبعد من أسرته الجديدة ثلث نصيب الولد الحقيقي من مال الأب، أي كما لو كان قد ظل موجودا في أسرة متبنية.

ومن جهة أخرى فإذا تنكر الولد المتبنى إلى أهله الجدد أو كان عاقا فقد كان عقابه أن يوثق بالأغلال ويباع كالعبيد، ويقطع لسانه، أو تفقأ عينه إذا كان أهله الأصليون ممن يمارسون الدعارة .

وأيا ما كان الأمر فقد كان يلجأ أحيانا إلى التبني في بلاد ما بين النهرين لعتق الرقيق أو الإقرار ببنوة الأبناء غير الشرعيين.

الميراث

اتسمت القواعد الخاصة بالإرث في بلاد ما بين النهرين بالدقة والعدل إلى حد بعيد.

والقاعدة الأساسية التي أشار إليها قانون حمو رابي هي أن أموال المتوفي تؤول إلى أولاده الذكور بالتساوي دون أن يكون هناك أي امتياز للابن الأكبر في هذا الصدد وخلافا للكثير من الشرائع القديمة.

أما السبب في أيلولة التركة إلى الأولاد الذكور دون الإناث، فهو أن هؤلاء هم الذين يعتبرون امتدادا لشخصية والدهم المتوفي، وهم الذين يقيمون الشعائر الدينية في إطار عبادة الأسلاف.

ولم يكن من حق الأب أن يجرد أولاده خلال حياته من حقهم في الميراث. وإنما كان له ذلك فقط فيما لو ارتكبوا أخطاء جسيمة وبشرط خضوع هذه المسألة لرقابة القضاء الذي له وحده الرأي النهائي.

ومن جهة أخرى فلم يكن الابن بحاجة إلى إعلان قبول التركة بعد وفاة والده. وإنما كان للابن فقط أن يتقدم برغبته عند تزاحم الورثة من الأخوة وبهدف تحديد أنصبة كل منهم.

وقد سكت قانون حمو رابي عن التحدث عن الحقوق الارثية للبنات مما يفيد استبعادهن من الميراث لكون الأولاد من الذكور هم وحدهم بتعليل أن المهر الذي يدفع للبنت أثناء زواجها كان يعوضها عن حرمانها من الميراث من أموال أبيها، خاصة وان الزوجة تظل محتفظة بملكية المهر والأموال الأخرى التي كانت تقدم لها بمناسبة الزواج.

وليس معنى ما تقدم حرمان البنت كلية من الميراث وفي جميع الأحوال. إذ تشير الوثائق إلى أن البنت كانت ترث عند عدم وجود أبناء ذكور للمتوفي. وإن لم توجد أي ذرية للمتوفي انتقلت التركة إلى أخوته ثم لأقربائه المقربين من بعدهم.

ومن جهة أخرى لم يكن للأرملة نصيب في تركة زوجها المتوفي، إذ أن حقها يتمثل في البقاء في منزل الزوجية وتعيش بما تدره أموال المهر والنودوتو عليها من فوائد، إذ أن أموال الزوجة لم تكن قابلة إلى الانتقال بل تبقى ملكا خالصا للزوجة على نحو ما رأينا من قبل .

وإذا رأينا أن الأصل هو تقسيم التركة بين أولاد المتوفي من الذكور بالتساوي، فإن قانون بلاد ما بين الرافدين لم يفرق في هذا الصدد بين الأبناء ولو انتسبوا إلى زوجات شرعيات متعددات.

ومع ذلك فان المساواة لا تنعقد بين أبناء العبده والأبناء الذين ولدوا من زوجة شرعية، اللهم إلا إذا قام الأب أثناء حياته بتبني الأولاد غير الشرعيين.

ونشير أخيرا إلى أن الأحفاد الذكور كانوا يرثون من تركة جدهم بدلا من أبائهم عن طريق الإنابة وذلك في حال وفاة الآباء قبل أبنائهم. إذ تنتقل هنا حصة الابن المتوفي قبل أبيه لأولاده.

والقواعد سالفة البيان تطبق أيضا بالنسبة لتركة الزوجة المتوفاة إذا كان لها أولاد، أما إذا لم يكن لها أولاد فتعود ثروتها إلى أهلها بعد أن يقوم الزوج بخصم "التيرهاتو" الذي سبق أن أداه عند الزواج.

نظام الأموال
الاهتمام الخاص بالملكية الزراعية

كانت الأرض في العصر السومري مملوكة لآله المدينة. ومع ذلك فقد أدى التطور الاقتصادي في بلاد ما بين النهرين، خاصة في مجال الزراعة والتجارة ،إلى الاعتراف بالملكية الفردية سواء بالنسبة للعقارات أو بالنسبة للمنقولات.

وعلى هذا النحو وجدت الملكية الخاصة مع ملكية المعابد وملكية القصر. بل ويشير بعض الفقهاء إلى أن القانون البابلي قد عرف أيضا ملكية الأسرة .

على أن انتشار الزراعة وأهميتها قد دفع المشرع إلى التركيز على ملكية الأراضي الزراعية ووضعها محل رعاية خاصة. إذ تشير الوثائق إلى نماذج متعددة لعقود بيع وإيجار ورهن الأراضي الزراعية المملوكة للأفراد، مع ملاحظة اختلاط فكرة الملكية بالحيازة في قانون بلاد ما بين النهرين أسوة بغالبية الشرائع القديمة. فإذا ما أراد الشخص أن ينقل شيء في إطار هذا المفهوم عن الملكية فإن الشيء ذاته وليس الحق المترتب عليه هو الذي ينتقل من شخص إلى آخر.

وقد جاء في مجموعة حمو رابي، كما ذكرنا من قبل، العديد من النصوص التي تنظم المسائل المتعلقة بالزراعة، مثل عقد المزارعة وعقد إيجار الأراضي الزراعية والعلاقة بين المالك والفلاحين أو الرعاة الذين يعملون في خدمته.

وكانت الملكية الفردية في هذا المجال تشمل الأراضي الزراعية والعقارات والحيوانات والعبيد والمواد الزراعية والمعادن. وكانت ملكية الأرض تشمل ما عليها من أدوات ومن عليها من عبيد، حيث كان هؤلاء ينتقلون مع الأرض بيعا ورهنا.

وقد حرصت الدولة في ذلك الوقت على تثبيت ملكية الأفراد للأراضي الزراعية بمنحهم وثيقة على شكل لوحة فخارية يحدد بها اسم المالك وحدود الأرض المملوكة له. ويختص موظف عام عرف باسم "ناشي" بالتحقق من صحة ملكية الأفراد للأراضي ثلاث مرات شهريا، وذلك من خلال مثول الملاك أمامه ومعهم الألواح المثبتة ملكيتهم. ويختص "الناشي" وكذلك القضاة بالفصل في أي منازعة تتعلق بالأراضي الزراعية .

نظام العقود والالتزامات

تنوع العقود مع غياب نظرية عامة للالتزام

رغم تعدد العقود في بلاد ما بين النهرين وممارسة الأفراد في معاملاتهم لنماذجها المختلفة، إلا أن النظام القانوني السائد في ذلك الوقت لم يصل إلى تحديد الفكرة المجردة للعقد، كما لم يستطع أن يقيم نظرية عامة متماسكة للالتزامات على نحو ما توصل إليه الرومان فيما بعد.

بل أن الباحثين لم يتوصلوا إلى مستقر نهائي في شأن مدى اعتناق النظام القانوني لبلاد ما بين النهرين لأي من مبدأي الرضائية من ناحية أو الشكلية من ناحية أخرى. هل يكفي أن تلتقي إرادة طرفي العقد حتى ينتج آثاره، أم يتعين صبه في قالب شكلي حتى يرتب الاتفاق آثاره القانونية؟ أن أحدا من المؤرخين لم يستطع حتى الآن أن يجيب على هذا التساؤل الهام إجابة ثانية.

ومع ذلك فان ما يعنينا في هذا المقام هو أن نؤكد أن الحياة العملية لبلاد ما بين النهرين قد عرفت شتى العقود المألوفة في العصر الحديث. ويرجع ذلك إلى الموقع الجغرافي المتميز لهذه البلاد وما أدى إليه من ازدهار التجارة والمعاملات نتيجة للانفتاح على العالم الخارجي.

وتشير الوثائق إلى قيام نظام مصرفي ومالي يشهد بالتقدم الذي وصلت إليه بلاد ما بين النهرين. فقد عرف القرض بالفائدة الذي كان يسري على المحاصيل الزراعية والنقود على السواء. وقد حدد القانون الفائدة بالنسبة للمحاصيل بمقدار ٪٣٣ وبالنسبة للنقود بمقدار ٪٢٠، وهي نسبة قد تتفاوت تبعا لظروف القرض وشروطه.

ومن جهة أخرى فقد عرف قانون بلاد ما بين النهرين عقد الإيجار والوديعة والرهن والشركة وغير ذلك من العقود المرتبطة بالتعامل التجاري.

وتيسيرا للتعامل فقد استعمل سكان البلاد العملة مثل "الشاقل" و "المينة" التي حلت محل الشعير الذي كان أساسا للتعامل في البداية ثم تلاه المعدن. وقد استعمل من المعادن كوحدة نقدية النحاس ثم الرصاص ثم الذهب لا سيما في المعاملات الخارجية .

عقد البيع

رغم أهمية عقد البيع من الناحية العملية إلا انه لم يحظ باهتمام النصوص التشريعية إلا بالنسبة لبعض المسائل الجزئية أو التفصيلية التي كانت محلا للخلاف أو الغموض في التفسير.

أما ما تبقى من مسائل أساسية فقد ترك حكمها للأعراف السائدة في ذلك الوقت والتي يصعب على الباحثين التوصل إلى مضمونها الحقيقي.

ومع ذلك فقد توصل العلماء إلى آلاف التصرفات القانونية المسجلة باللوحات التي عثر عليها في بلاد ما بين النهرين في أزمنة وأماكن مختلفة.

وقد اتخذت اللوحات البابلية نمطا مشتركا تحدد فيه عناصر الاتفاق في تسلسل واضح. ففي أعلى اللوحة يتحدد مكان التصرف ثم أسماء أطراف العقد ثم نبذة عن مضمون التصرف (بيع مثلا) ووصف موضوعه، ثم يذكر الشهود وتاريخ العقد.

ويرى البعض إن هذا الشكل للوحة لا يعني على الإطلاق خضوع التصرف لمبدأ الشكلية. إذ لم يكن وجود اللوحة لازما لصحة التصرف المدون بها، وإنما الهدف من اللوحة هو مجرد إثبات التصرف الذي تتضمنه. ولا يختلف الأمر بالنسبة للشهود الذين يختلف عددهم من تصرف لآخر. فالشهود هم مجرد وسيلة للإثبات وعدم وجودهم لا يبطل التصرف. وحينما شاع استخدام الكتابة فلم يكن الهدف منها سوى اعتبارها وسيلة فعالة في الإثبات تفوق الاتفاقات الشفهية.

ويشير الفقهاء إلى أن أركان البيع في ذلك الوقت كانت ثلاثة: أولها الاتفاق بين البائع والمشتري، وثانيها الشيء المبيع ماديا كان أو معنويا منقولا أو عقارا، وثالثها الثمن، وهو يتخذ عادة صورة قدر من النقود محددا بالأوزان المتعارف عليها، وهو ما يميز البيع عن المقايضة.

أما عن آثار ونتائج عقد البيع فنرى:

١ - انتقال الملكية من البائع إلى المشتري مقابل أداء الثمن. وكان البيع في بلاد ما بين النهرين ناجز الثمن، ومن ثم فان أداء الثمن، وليس تسليم الشيء المبيع، هو الشرط الأساسي لانتقال الملكية.

٢ - ضمان الاستحقاق، وهو التزام أشارت إليه نصوص مجموعة حمو رابي.

٣ - ضمان العيوب الخفية، وقد جاء النص على هذا الالتزام في مجموعة حمو رابي أيضا وفي مناسبة بيع الرقيق، حيث خول القانون لمشتري العبد أن يعيده إلى بائعه إذا أصابه داء الصرع خلال الشهر التالي للبيع.

وتشير اللوحات المسجلة لوقائع البيع في ذلك الوقت إلى أن المتعاقدين يتوجهان عادة صوب معبد الإله بهدف إضفاء القدسية على تصرفهما حيث يقسمان باسم إله المدينة ثم باسم الملك على الالتزام بتصرفهما ويستنزلان اللعنات على من يخالف نصوص الاتفاق.

مرحلة تدوين القانون
التدوين ليس مرحلة مستقلة من مراحل تكوين الشرائع

أن القاعدة القانونية قد اكتملت خصائصها منذ عصر التقاليد الدينية. كما أنها، أي القاعدة القانونية، قد انفصلت عن الدين واتسمت بكيانها المستقل منذ مرحلة التقاليد العرفية.

إن مرحلة التدوين في دراستنا هذه لا شأن لها بالتطور الذي مرت به القاعدة القانونية منذ نشأتها البدائية في عصر القوة إلى اكتمال خصائصها في عصر التقاليد الدينية، ثم إلى قيامها المستقل في مرحلة التقاليد العرفية. كل ما في الأمر إن الشعوب التي اهتدت إلى الكتابة قد سارعت بتدوين أوجه نشاطها الحضارية المختلفة ومن بينها القانون. واكتشاف الكتابة وإن كان حدثا هاما في حياة البشرية نقلها من عصر ما قبل التاريخ إلى العصور التاريخية إلا أن ظروف المجتمع الاقتصادية والاجتماعية لم يجد فيها جديد يغير من طبيعة وخصائص القاعدة القانونية. فالظروف التي سادت قبل التدوين هي بعينها التي استمرت قائمة أثناء التدوين وبعده .

وإذا كان تدوين القانون ظاهرة لم تقتصر على شعب دون آخر سواء في الشرق أو الغرب، فإن الملاحظ مع ذلك أن اكتشاف الكتابة قد اقترن بدرجة النمو الحضاري لكل شعب. وبعض الشعوب وصلت إلى هذه الدرجة من الحضارة في الوقت الذي استقرت فيها قوانينها في صورة تقاليد دينية، ومن ثم عبرت مدوناتها القانونية عن هذا الواقع فكانت تقنينا لتقاليدها الدينية. وهذا هو شأن الهنود واليهود.

أما الشعوب التي اكتشفت الكتابة بعد أن توصلت إلى مرحلة التقاليد العرفية، فقد جاءت مدوناتها القانونية معبرة عن الأعراف السائدة في مجتمعاتها. وهذا هو شأن المدونات القانونية الأولى التي صدرت في روما وبابل وآشور.

وأيا كان الأمر فان الملاحظ إن بعض الشعوب التي دونت قوانينها قد أصدرتها في صورة تشريعات. وهذه هي المدونات الرسمية التي صدرت في روما وبلاد اليونان وبابل.

أما شعوب أخرى فقد دونت قوانينها في سجلات من وضع الأفراد المهتمين بالقانون دون أن تصدر بها تشريعات من السلطة الحاكمة وهذه هي السجلات العرفية التي عرفها الآشوريين والحيثيين. وهي سجلات غير رسمية أطلق عليها الباحثون مع ذلك تعبير مدونة وإن وصفوها بالعرفية تمييزا لها عن المدونات الرسمية.

وهكذا ارتبط التدوين بالكتابة. وهو قد يحدث عن طريق التشريع أو عن غير طريقه. والتشريع وإن ارتبط في الأذهان بالكتابة، أي بصدوره من السلطة العامة في صورة قانون مكتوب، إلا أن هذا الارتباط غير حقيقي. إذ قد يتصور وجود التشريع، كمصدر للقانون، قبل ظهور الكتابة. وهذا ما حدث بالفعل في المجتمعات الأولى في صورة أوامر صادرة من رؤساء الجماعة. فالتشريع كمصدر للقانون يرتبط إذن بوجود التنظيم السياسي في المجتمع وليس الكتابة.

ونخلص بذلك إلى أن مرحلة التدوين ليست مرحلة مستقلة من مراحل تكوين الشرائع. والتدوين على هذا النحو يرتبط بظهور الكتابة. وهو قد يكون عن طريق التشريع أو عن غير طريقة، لأنه لا ارتباط بين الكتابة وبين التشريع بوصفه مصدرا للقاعدة القانونية.

أسباب التدوين
تعددت الأسباب التي دفعت الإنسان إلى تدوين قانونه. فهناك أولا سبب جغرافي هو اتساع رقعة الدولة وازدياد عدد السكان على نحو يتعذر معه انفراد شخص واحد بمهمة القضاء. وإذا تعدد القضاة فلا بد من تطبيقهم لقانون موحد. وأيسر سبل التوحيد هي التدوين. ولعل مدونة حمو رابي خير شاهد على سلامة هذا الطرح. فقد أصدر حمورابي مدونته لتوحيد القانون الواجب التطبيق بعد اندماج دويلات ما بين النهرين في دولة واحدة هي دولة بابل.

ومن ناحية أخرى فإن التدوين يحفظ القواعد القانونية من الضياع أو التحريف. فهو وسيلة أكثر فاعلية في هذا السبيل من مجرد الاعتماد على ذاكرة شيوخ الجماعة كما كان الحال قديما.

بل أن التدوين هو الذي ييسر على القاضي تطبيق القانون وتفسيره، بدلا من قيام الجدل حول وجود القاعدة العرفية وتفسيرها.

ضف إلى ذلك أن التدوين هو الوسيلة الطبيعية لنشر القانون بين الناس حتى لا يتأثر احدهم بالعلم وأحكامه، مما ييسر على طبقات معينة تفسيره وفقا لأهوائها. وقد كان هذا الاعتبار بصفة عامة هو الدافع لتدوين القانون لدى الرومان والإغريق.

أهمية المدونات القديمة وخصائصها
يتوقع من المدونات القانونية القديمة أن تُظهر صورة أمينة وصادقة للحياة السياسية والاجتماعية للمجتمع الذي ظهرت فيه. وتاريخ صدورها يكشف عن الزمن الذي وصل فيه هذا المجتمع إلى هذه الدرجة من الحضارة.

وقد تميزت المدونات القانونية القديمة بعدة خصائص سواء من حيث الصياغة، أو من حيث المضمون، أو من حيث مدى احترام الناس لها.

فمن حيث الصياغة تميزت المدونات القديمة بأسلوبها الموجز الذي يكاد أن يكون شعرا منثورا. كما تتميز هذه المدونات أيضا باهتمامها بالفروع والجزئيات أكثر من الأصول والعموميات. وأخيرا فقد اتبعت هذه المدونات ترتيبا وتبويبا يختلف كثيرا عن المألوف في وقتنا هذا.

ولعل السبب في ذلك يرجع إلى عدم إسهام الفقه في تدوينها، ولهذا صيغت بمقتضاها التقاليد الدينية أو العرفية بالحالة التي كانت عليها، أي في صورة أحكام قضائية فردية ذات أصل ديني أو عرفي أو في صورة أقوال مأثورة يرجع أصلها غالبا إلى رجال الدين.

أما من حيث المضمون فقد اختلفت المدونات القديمة تبعا لحالة المجتمع الذي ظهرت فيه. فمنها ما اقتصر على القواعد القانونية دون تعرض لقواعد الدين أو الأخلاق، لان المجتمع الذي نشأت في رحابه قد وصل عند التدوين إلى مرحلة انفصال القانون عن الدين، وهذا هو شأن المدونات الرومانية والإغريقية مثلا. ومنها ما ضم خليطا من قواعد القانون وقواعد الدين والأخلاق، لان التدوين تم في وقت كان المجتمع فيه يعيش في رحاب التقاليد الدينية. وهذا هو شأن المدونات الهندية واليهودية.

ومن جهة أخرى فإن بعض المدونات لم تتضمن تقنينا شاملا لكل القواعد القانونية السائدة وقت وضعها، بل اقتصرت على تدوين ما غمض من قواعد القانون تاركة قواعده المستقرة والواضحة التي لا خلاف حولها إلى العرف، مثل قانون الألواح الاثني عشر عند الرومان. بينما اشتملت بعض المدونات الأخرى على كافة قواعد السلوك في المجتمع منذ ميلاد الإنسان إلى وفاته. وهذا هو شأن قانون مانو الهندي.

وقد اهتمت المدونات القديمة بصفة عامة بإجراءات التقاضي ونظم القانون الجنائي.

وإذا كانت بعض المدونات القانونية تعد تسجيلا للتقاليد الدينية أو العرفية التي كانت سائدة وقت وضعها، فان بعضها قد تضمن أحكاما جديدة أو معدلة حرص المشرعون على إدراجها لتغيير الأوضاع القائمة.

وأخيرا فقد تميزت المدونات القديمة باكتسابها احترام الناس إلى حد بعيد، لا خوفا من الجزاء المقرر منذ مخالفة أحكامها فقط، وإنما بصفة خاصة نتيجة للظروف التي أحاطت بصدورها. فبعض هذه المدونات صدر عن الإله (قانون مانو الهندي)، وبعضها صدر عن مصلح اجتماعي مشهور (مدونة حمورابي) كما صدر بعضها نتيجة أحداث سياسية واجتماعية هامة، مما دفع الشعب إلى احترامها والحفاظ عليها (الألواح الاثني عشر).

وقد ترتب على الاحترام الشديد الذي حرص الناس على إبدائه لهذه المدونات القديمة أن حرص المشرعون اللاحقون على نسبة ما يصدرونه من تشريعات جديدة إلى تلك المدونات السابقة على وقتهم، حتى تكتسب تشريعاتهم ذات القدر من الاحترام.

بل إن الشُرّاح والفقهاء قد حرصوا على نسبة ما يجد من قواعد نتيجة لتطور العرف أو نتيجة لاجتهادات فقهية أو قضائية إلى هذه المدونات وذلك تحت ستار التفسير.