أكثر المثقفين يعلمون قصة فتح العرب للأندلس سنة اثنتين وتسعين للهجرة على يد طارق بن زياد وموسى بن نصير وما رافقها من وصف وأقوال. ويعلمون أيضاً، بشكل عام، مجريات العهود المختلفة التي مرت بها بلاد الأندلس في ظل الحكم العربي الإسلامي منذ الفتح حتى آخر عهود ملوك الطوائف حيث انطفأت شمس الدولة الأموية هناك وبقي إشعاع حضارتها ماثلاً إلى اليوم.
ويهمنا في حديثنا إليكم بيان الأثر المشرقي الشامي الذي تجلَّى في هذه الدولة الأموية الشامية التي قامت في شبه الجزيرة الإيبيرية والتي عُرفت بـالأندلس حيث زهت حضارتها في عصر كانت الظلمات تلف أوروبة وأكثر بلاد العالم آنذاك.
هذا الأثر المشرقي الشامي يبدأ منذ عهد الولاة وقبل دخول عبد الرحمن الداخل. صحيح أن إسبانيا المسلمة قد أدركت حدودها النهائية بعد أن أتمَّ الفتحَ القائدان المسلمان طارق بن زياد، وهو بربري الأصل، وموسى بن نصير، العربي الأصل، وبعد أن التقيا في طليطلة ثم قفلا عائدَيْن إلى الشرق بعد أن استدعاهما الخليفةُ الوليد بن عبد الملك، صحيح كل ذلك... إلاّ أن الأثر الشامي لم يبدأ إلاّ بعد أن جاءت حملة بلج بن بشر إلى الأندلس لتهدئة الشقاق الذي حدث بين المسلمين من جراء ثورات البربر ضد العرب في الأندلس وكانت هذه الثورات صدىً للثورات الدامية التي حدثت في المغرب ضد الشاميين والمصريين فيها مما حمل الخليفة هشام بن عبد الملك على أن يرسل نجدات إلى إفريقية وبلاد الأندلس، وكان من بينها نجدة الجند السوريين تحت قيادة بلج بن بشر الذي استطاع أن يخمد ثوراتهم في إسبانيا. ونحبُّ أن نذكر هنا أن الاضطرابات في ذلك العهد لم تكن قائمة بين العرب والبربر فقط بل كانت أيضاً قائمة بين العرب أنفسهم الذين حملوا معهم خلافاتهم القبلية ومنها الخلافات بين القيسية واليمانية.
ومهما يكن من أمر فإن هؤلاء الجندَ الشاميين هم أول من لعب دوراً هاماً في تأسيس الدولة الأموية في الأندلس، وهم أول من نقل إليها النظم الشامية والتقاليد العسكرية التي كانت سائدةً في الشام والتي ستبقى من مميزات الدولة الأموية في الأندلس.
ونتساءل هنا هل كان عبد الرحمن الداخل عندما فرَّ إلى شمال إفريقية هارباً من بطش العباسيين، هل كان يتطلّع إلى إعادة تأسيس دولته الأموية في إفريقية الشمالية؟ قد يكون هذا التصور ممكناً لكثرة البربر فيها وحمايتهم له لأن أمَّه بربرية. ولكن في الحقيقة إن الأرض المواتية لطموحه السياسي ما كانت إلا الأندلس ـ لأنها كانت تضمّ نواةً أموية شامية عربية هي جند بلج بن بشر. ولهذا استطاع بعد أن هام على وجهه في شمال إفريقية مدة أربع سنوات، أن يستثمر لصالحه الخاص المنازعات القبلية بين القيسية واليمانية وأن يؤسس دولته الأموية فيها، وقد استعمل في سبيل تحقيق هذا الهدف كثيراً من الحذق السياسي.
لهذا ما إن وطأت قَدَما عبد الرحمن الداخل أرض الأندلس حتى استقبل استقبالاً فاق حدَّ خياله، ودانت له الأندلس وأصبح أميرها ولقب بالداخل لدخوله إياها ولقبه أبو جعفر المنصور بـصقر قريش، وكان دخوله قرطبة سنة مائة وتسع وثلاثين للهجرة، فقطع الخطبة عن بني العباس ودُعي له على المنابر وبنى المسجد الجامع في قرطبة واختطَّ مدينة الرصافة في شمالها على مثال رُصافة الشام لجدِّه هشام وتأسست منذ ذلك العهد الدولةُ الأموية التي ابتدأت بعهد الإمارة. ولم يكن عهد الإمارة سوى عهد طويل لتعزيز السلطة الأموية في الغرب الإسلامي، وكان يجب علينا أن ننتظر عهد خلافة عبد الرحمن الثالث الملقب بالناصر لتتمركز هذه السلطة نهائياً سنة ثلاثمائة وست عشرة للهجرة.
بعد ذلك أخذت الأمور في التدهور حتى جاءت عهود ملوك الطوائف، ومع هذا بقيت الحضارة العربية التي بلغت أوجها في عهد عبد الرحمن الناصر تشعُّ، بل ازداد اشعاعها وازدهارها في نواحٍ مختلفة مع تقدّم الزمن الأندلسي الذي دام أكثر من ثمانية قرون.
وليس همي أن أستعيد الصورة التاريخية للأندلس بتفاصيلها ولا صورة مأساتها نتيجة تناحر حكامها واستعانة بعضهم بالأجنبي على بعضهم الآخر، فالمأساة قائمة ـ مع الأسف ـ حتى اليوم نشاهد صوراً مشابهة لها في تاريخنا المعاصر القريب، ولكن همي أن أعرض عليكم بعض مظاهر المجد الأندلسي الذي تجلَّى في الأثر الشامي الإسلامي الذي كان يطبع الحضارة الأندلسية. وهذا الأثر سأوجز بعض ملامحه في أمرين يتضح من خلالهما الأثر الشامي المشرقي، أولاً في المنحى السياسي والاجتماعي وثانياً في المنحى الفكري والأدبي والفني.
المنحى السياسي والاجتماعي:
اتخذ شكل الحكم في الأندلس الأسلوب المتبع في المشرق، وإذا كانت الدولة الأموية في الأندلس هي محاولة لإعادة الدولة الأموية المشرقية فمن الطبيعي أن تأتي على شاكلتها وعلى شاكلة الحكم الذي كان متزامناً أيضاً معها.
إن مختلف العناصر التي كانت تكوّن جماعة السكان في بلاد الأندلس قد لعبت دوراً هاماً في تشكيل منحى الحكم والسياسة في الدولة. ولهذا يحسن أن نعلم أن بلاد الأندلس لم تكن متجانسة في السكان بل كانت خليطاً من مختلف العناصر والأجناس، فهناك أولاً السكان الأصليون من قوط وبقايا الرومان ثم جاء الفاتحون وهم من العرب والبربر، وكان البربر يمثلون الأكثرية المسلمة في عملية الفتح، وقد سببوا عدداً من الثورات إلى أن جاءت حملة بلج العربية الشامية فقضت على غلوائهم كما أشرنا. ثم هناك عنصر آخر وهم الصقالبة وقد جاؤوا من أوروبة وكانوا رقيقاً شروا بالمال ونشأوا نشأة عسكرية وتكوَّن منهم الحرس الخاص للأمير والخليفة. وهناك إلى جانب ذلك عناصر مذهبية ولاسيما اليهود.
وهكذا نرى أن إسبانيا كانت بعد الفتح مزدحمة بالعناصر والأجناس المتعددة المتضاربة، وكان ذلك نقطة ضعف كبرى في تاريخ الدولة الأندلسية. وإذا كان النظام في العصور الحديثة يرمي إلى صهر العناصر المختلفة فإن النظام في القرون الوسطى لم يكن قد ارتقى إلى هذا الحد من التفكير والعقل السياسي، ولهذا فقد ظلّت العناصر تتناحر فيما بينها في أغلب الأحيان حتى كانت العامل الرئيس في القضاء على الدولة الأموية الأندلسية.
وكما كان الحكم في المشرق بيد الأمير أو الخليفة فإن السلطة العليا في الأندلس، في مختلف العهود السياسية، كانت أيضاً بيد الأمير أو الخليفة. وكان الولاة في أول الفتح يرسَلون من قبل الخلافة الأموية بـدمشق أو من قبل الولاة في شمال إفريقية ، وكانوا عرباً قيسيين أو يمانيين، بمعنى أن العنصر العربي هو القابض على زمام الأمر. وهكذا نرى أن النمط الشامي في الخلافة كان سائداً في الأندلس ولاسيما في العهود الأولى من الحكم الإسلامي فيها. فالتشابه واحد من هذه الناحية في الأندلس والمشرق.
وكان للخليفة في الأندلس بلاط كما كان للخلفاء الأمويين والعباسيين في المشرق. وكان له قصر كبير بجوار الجامع، وحاشية كبيرة. وكثيراً ما كان يبني الخلفاء في الأندلس قصوراً أخرى حتى تصبح مدناً صغيرة كما فعل عبد الرحمن الناصر فبنى الزهراء بالقرب من قرطبة حتى صارت مدينة ملكية لها مسجدها ولها كل ما يتصل بحياة المدينة من حدائق ومجالس ومماليك ومخازن للسلاح.
وإذا كانت الخلافة هي الوظيفةَ الكبرى في الدولة فقد جاءت متأخرة في الأندلس، وقبل ذلك وُجدت الإمارة منذ أوائل الفتح سنة 95 هجرية حتى قامت الخلافة فيها سنة 316 هجرية زمن عبد الرحمن الناصر، وكانت تشبه الخلافة المشرقية التي سادت في دمشق ثم في بغداد.
وحياة الخلفاء في الأندلس تشبه حياة الخلفاء في بغداد وحياة الخلفاء الفاطميين في القاهرة. فالبلاط تحدث فيه المآسي والمهازل وتدبر فيه الدسائس والمكائد والمؤامرات، وكثيراً ما تشترك فيها النساء. ويحدث أن يقتل الخليفةُ الخليفةَ أو الأميرُ الأمير ويعزلَ ويولِّي غيره. فالصورة واحدةٌ سواء أكانت في المشرق أو في المغرب.
وكان يساعد الأمير أو الخليفة ما يمكن أن نشبهه بهيئة الوزارة في العصر الحديث. يقول ابن خلدون في مقدمته عن الحجابة والوزارة في الأندلس:
«أما دولة بني أمية في الأندلس فأبقوا اسم الوزير في مدلوله أول الدولة، ثم قسموا خطته أصنافاً وأفردوا لكل صنف وزيراً، فجعلوا لحسبان المال وزيراً، وللترسيل وزيراً، وللنظر في حوائج المتظلمين وزيراً، وللنظر في أحوال الثغور وزيراً، وجُعل لهم بيت يجلسون فيه على فرش منضَّدة لهم ينفذون أمر السلطان هناك كلٌّ فيما جُعل له. وأُفرد للتردد بينهم وبين الخليفة واحدٌ منهم ارتفع عنهم بمباشرة السلطان في كل وقت، فارتفع مجلسه عن مجالسهم وخصُّوه باسم الحاجب».
وهكذا نلاحظ أن أمور الدولة كانت تدار بما يشبه الوزارة اليوم، وهذا نمط أُخذ عن المشرق أيضاً.
وقد استبد بعض الحجّاب في الأندلس بالخلفاء كما فعل الحاجب المنصور، وكثيراً ما كان يتسابق ملوك الطوائف إلى أخذ هذا اللقب.
ويبقى القضاء في الأندلس من المناصب الكبرى في الدولة، وقد كان مستقلاً في إدارته، ولم يسرِ هذا الاستقلال على الحجابة أو الوزارة لأنها كانت من توابع الخليفة.
وتختلف وظيفة القضاء في الدولة العباسية عنها في الأندلس، فقد كان قاضي القضاة له الرئاسة على القضاة في الدولة العباسية، بينما في الأندلس فقد كان قاضي الجماعة في قرطبة ليس له سلطة إلا فيها وحدها. ولم يكن له الرياسة على باقي قضاة الأقاليم، بل كان لكل إقليم قاضٍ مستقل.
إلى جانب القضاء هناك وظيفة أخرى هامة هي (صاحب الشرطة) الذي ينظر في المسائل السياسية والجرائم وغيرها، وكان يتولّى حفظ الأمن وتنفيذ الأحكام التي يُصدرها القاضي. وكان ينتقى من كبار القادة أو عظماء الخاصة وكان يتمتع بسلطة واسعة.
وقد تنوعت وظيفة صاحب الشرطة في الأندلس بحسب طبقات الناس فيها، فصاحب الشرطة العليا يختص بأمور الخاصة وله الحكم عل أهل المراتب السلطانية والموظفين والضرب على أيديهم، أما صاحب الشرطة الصغرى فكان مخصوصاً بالعامة.
وتأتي وظيفة (المحتسب) في الأندلس في درجة هامة. كما كانت قائمةً في دمشق الأموية. وكانت نوعاً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحمل الناس على لزوم الصالح العام بالقوة إذا لزم الأمر. ولم يكن له مجلس يؤتى إليه بل كان يتنقل في الأسواق ويراقبها، كما كان له أن يدخل المدارس والمكاتب ليمنع المعلمين من المغالاة في الضرب. وكان يُختار عادةً من الرجال الأفاضل ذوي النزاهة.
أما (صاحب المظالم) فكان يشبه قاضي الاستئناف اليومَ فإذا ظُلِم أحدٌ من المحتسب أو القاضي شكا إليه، وله أن يقرَّ الحكم السابق أو يغيره.
بمثل هذه المناصب المعروفة في المشرق كانت تدار الأندلس.
وإلى جانب هذه الإدارة كانت القوة الحربية ممثلةً في الجيش، وكان تنظيم الجيش في الأندلس مستمداً في الأصل من الشرق لأن العرب عندما دخلوا الأندلس نقلوا معهم تقاليدهم العسكرية ثم جاءت حملة بلج فدعمت هذه التقاليد. وكان النظام العسكري هناك نظاماً أموياً عربياً في أول عهده ثم أخذوا يعتمدون على البربر وعلى الصقالبة في تكوينه.
لم يكن في البدء أسطول للدولة الأموية في الأندلس، ونحن نعلم أن العرب انتقلوا أيام الفتح على سفن يليان صاحب سبتة، ولكن لما هاجم النورمان سواحل الأندلس في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن الأوسط رأى ضرورة تكوين أسطولٍ لصدّهم. ومما دفع على تقوية الأسطول الأندلسي قيام الدولة الفاطمية في شمال إفريقية، وكان لها أسطول وكانت على عداء مع الدولة الأموية في الأندلس.
وقد أصبح للأسطول الأندلسي قواعدُ في إشبيلية التي كانت تدخلها السفن من المحيط في نهر الوادي الكبير وفي المرية على ساحل البحر الأبيض المتوسط. ومع ذلك فإن الأندلسيين قد استعملوا قواهم البرية أكثر من قواهم البحرية.
تلك هي أنماط النظم السياسية والإدارية في بلاد الأندلس وكانت مطبوعة في أكثرها بالطابع المشرقي والأموي الدمشقي بشكل خاص.
أما الحياة الاجتماعية فقد كانت متأثرة بالحياة الجديدة التي عاشها الأندلسيون ولكنها لم تتخل عن أصولها المشرقية. وقد اتصف المجتمع الأندلسي بصفتين متناقضتين هما: التعصب من ناحية والتساهل والحرية من ناحية ثانية. وقد ساعد الفقهاء على تقوية صفة التعصب لما لهم من نفوذ ديني.
وإلى جانب هذا التعصب كنتَ ترى حياة الدعة والتساهل منتشرة. فقد كانت الحياة الخاصة متعةً متصلةَ الحلقات. وكنت ترى الأندلسي يتهتك دون وازع وانغمس أكثر الشعراء في حمأة هذا التهتك، وانتشرت الخلاعة وعمت مجالس اللهو وامتدت إلى قصور الأمراء والخلفاء. وقد ساعد الغنى وخِصبُ البلاد على انصراف الناس إلى اللهو والملذات، وظهر في بعضهم ميلٌ إلى التزوج أو التسرّي بالقوطيات (الإسبانيات) اللواتي أضعفن روح العروبة في أبنائهن. وقد انتشرت في الأندلس روح الفتوة التي سادت في الوقت نفسه بين الإسبانيين والغربيين قاطبة. وقد بقيت الفروسية الأندلسية عصوراً تجذب الأنظار إليها. وكثر الشغف بالفروسية في زمن دولة بني الأحمر وكانت مبارياتها وحفلاتها من أجمل المباهج العامة التي تجري في غرناطة والتي كان فيها اختلاط الجنسين شائعاً.
هذه نظرة عامة وسريعة على المنحى السياسي والاجتماعي وقد طبعته الحياة الجديدة بطابعها ولاسيما في المنحى الاجتماعي، ولكن بقيت في رواسبه المشرقية.
فما هو المنحى الثاني في الفكر والأدب والفن؟
ليست الأندلس كلُّها لهواً وطرباً، فقد سطعت فيها شمس العلم والأدب والفن وعرفت بلاد الأندلس في مختلف عهودها طائفةً من أعظم المفكرين والأدباء والشعراء والفنانين الذين أسهموا في بناء الحضارة العربية. وإذا كانت الأندلس قد طمحت إلى الاستقلال السياسي عن المشرق منذ بدء تاريخها فإنها لم تستطع أن تفلت من الخضوع له. بل كانت تنظر إليه في المجال الأدبي والثقافي متأثرةً أيضاً بالجو الجديد الذي عاشته. وبقي المشرق قبلة الأندلسيين، وكانت الرحلة إلى الشرق في طلب العلم ولقاء الشيوخ أمنيةً يرجوها كل مثقف أندلسي، حتى إذا ما رحل إلى الشرق عاد لينشر في الأندلس ما حمله من معارف وما أخذه من شيوخ المشرق.
ولقد عرفت الحياة الحضارية والفكرية تطورات مختلفة متبعة تطور تاريخ الأندلس السياسي، فقد وصلت هذه الحياة ذروة القوة في عهد الخلافة الأموية أيام حكم عبد الرحمن الناصر وولده الحكم ولكنها لم تصل إلى ذروة نضجها الفكري. ولما انهارت الخلافة الأموية وسادت الفوضى أرجاءَ الأندلس في عهد الفتنة ذوت الحضارة الأندلسية وخبت مظاهرها العمرانية والفكرية حتى جاءت دول الطوائف فاستطاعت على رغم تطاحنها أن تعيد بهاء الحضارة الأندلسية في قصورها ومنشآتها ومجتمعاتها. وعرفت الأندلس في هذه الحقبة المضطربة من تاريخها طائفة من أعظم مفكريها وأدبائها وشعرائها أمثال الفيلسوف ابن حزم (-456هـ) والمؤرخ ابن حيان (-469هـ) والشاعر ابن زيدون (-462هـ) والشاعر الأديب ابن عبدون (-520هـ) وغيرهم. بل إن ملوك الطوائف أنفسهم كانوا في طليعة الأدباء والشعراء كالعالم عمر بن الأفطس صاحب بطليوس، والمعتضد والمعتمد صاحبي إشبيلية، والمعتصم بن صمادح صاحب المرية.
ولكن هذه النهضة الفكرية والأدبية ما عتمت أن توقفت عقب استيلاء المرابطين على الأندلس سنة 484هـ. إذ كان هؤلاء المرابطون شديدي التعصب، قساةً غلاظاً، ألفوا الحرب والخشونة فلم تجد دولة الفكر والأدب في ظلّهم مرتعاً خصباً. ومع هذا فقد تألقت في عهدهم القصير بعض الأسماء أمثال الفيلسوف ابن باجة والفتح بن خاقان وابن بسام صاحب كتاب (الذخيرة) وابن قزمان صاحب الأزجال الشهيرة. ولكنَّ ظهورهم وأضرابهم في هذه الفترة لم يكن إلاّ امتداداً للنهضة الفكرية التي ازدهرت في عهد ملوك الطوائف.
ثم جاءت دولة الموحدين فانتعشت الحضارة الأندلسية ونشطت حركة التفكير لأن الموحدين كانوا أكثر انفتاحاً على الفكر من المرابطين. فأُفرج عن كتب الغزالي وغيره من مفكري المشرق، وظهرت في هذه الفترة أي في أواخر القرن السادس الهجري أسماء لامعة في الأندلس أمثال ابن الطفيل الإشبيلي (-571هـ) صاحب رسالة حي بن يقظان والفيلسوف ابن رشد القرطبي (-594هـ) كما ظهر عدد من أعلام الشعر والأدب مثل أبي القاسم خلف بن بشكوال (-578هـ) وابن بدرون المتوفي في فاتحة القرن السابع وهو شارح قصيدة ابن عبدون الشهيرة في رثاء بني الأفطس. وازدهرت المعاهد العلمية في أيام الموحدين بالمغرب والأندلس، وكانت المعاهد الأندلسية في إشبيلية وقرطبة وغرناطة وبلنسية ومرسية يومئذ مجمعَ العلوم والمعارف ومقصِدَ الطلاب من كل فج.
ولما اضحملَّ شأن الموحدين وضعف أمرهم بالمغرب والأندلس في أوائل القرن السابع الهجري وبدأت قواعد الأندلس تسقط تباعاً في أيدي الإسبان شُغلت الأندلس بمحنتها وانكمشت فنون السلم واضطربت دولة التفكير والأدب. وقد أثّرت المحنة في نفوس الشعراء فأذكت عواطفهم بشعر اللوعة والأسى. وغادر الأندلس في هذه الفترة كثير من الكتّاب والعلماء والفقهاء الذين توقعوا سوء المصير مثل الشيخ محي الدين بن عربي شيخ المتصوفة الكبير الذي قصد دمشق وابن البيطار المالقي وابن الأبار القضاعي.
وانجلت الفتن الداخلية وانجلى الصراع بين إسبانيا المسلمة وإسبانيا النصرانية عن سقوط معظم القواعد الأندلسية بيد الإسبان، وانكمشت الدولة الأندلسية في مملكة غرناطة الصغيرة. وفي ظل هذه المملكة الصغيرة التي قاومت قرنين من الزمن انتعشت الحركة الأدبية بعد أن آنست جواً من الطمأنينة والهدوء. ولكن طابع هذه الحركة اقتصر على الشعر والأدب وبقيت الحياة العقلية في حالة من الركود.
ونحب أن نشير في النهاية إلى أن الحياة الفكرية والأدبية في الأندلس قد أثّر فيها الاختلاط العنصري تأثيراً كبيراً، ولئن كان الأندلسيون قد تأثروا بالحياة الجديدة فقد بقوا مقلدين في آدابهم للمشارقة إلاّ في بعض الفنون الشعرية كظهور فن الموشحات الذي نشأ في الأندلس وكان نموذجاً جديداً في الشعر العربي.
الآن عندما يسافر المرء إلى بلاد الأندلس ويرى ما تبقّى فيها من آثار عربية ويتجوّل في مسجد قرطبة والقصر في إشبيلية والحمراء في غرناطة ويدخل تلك البيوت البيضاء العربية الإسبانية وقد تدلّت من نوافذها أُصصُ الأزهار ورقصت في ساحات دورها نوافير المياه وتمايلت على حافاتها أشجار النارنج، أقول عندما يزور المرء الأندلس ويصافح أهلها ويبتسم لنسائها الجميلات يتراءى له ذلك المجد القديم العظيم، مجدُ بني أمية ومجد دمشق. فهل يبقى الشرق شرقاً ونحن نرى المحنَ تحيق به وجيوشَ الأعداء تعسكر في أرضه زاعمةً أنها تمدّ الخير للمعذبين من أهله بعد أن دمرت أقوى أقطاره؟ إن الأثر المشرقي وأثر دمشق بالذات سيبقى في الأندلس مهما ساءت الأحوال، ودمشق تبقى دمشق مشعّةً دوماً، ورحم الله أحمد شوقي عندما قال:
لولا دمشق لما كانت طليطلة ولا زهت ببني العباس بغدان
جودت الركابي
دمشق أقدم مدينة في التاريخ
ندوة آذار الفكرية في مكتبة الأسد
دمشق، سورية، 1991