آخر الأخبار

البيئة مسؤولة عن ربع أمراض العالم..

في منتصف القرن العشرين، اعتقد الناس أن مرض الملاريا على وشك الاختفاء نتيجة التقدم الذي طرأ في مجال الطب. بيد أنه عاد في العقدين الأخيرين للظهور من جديد وعلى نحو أكثر فتكا من ذي قبل. والسبب هو التغيرات المناخية.

يطلق العلماء على الملاريا اسم «القاتل الصامت» بسبب الأعداد الهائلة التي يقتلها من البشر سنويا، معظمهم أطفال في الدول النامية في آسيا وإفريقيا. وتقول بيانات الأمم المتحدة إن الملاريا تقتل سنويا حوالي مليون نسمة. وهو رقم مخيف مقارنة بالوفيات المرتبطة بالأمراض الأخرى. فوفيات الملاريا تمثل ثلاثة أضعاف الوفيات الناتجة عن مرض الإيدز.

وبينما ترفع تقديرات المنظمات غير الحكومية عدد وفيات الملاريا إلى 7.2 مليون غالبيتهم في إفريقيا، فإن بحثا جديدا نشرته أخيرًا مجلة «نيتشر» العلمية إلى أن أعداد المصابين بمرض الملاريا على مستوى العالم قد تكون في الحقيقة ضعف التقديرات الرسمية لدى منظمة الصحة العالمية.

وتوصلت نتائج البحث الذي قام به فريق من باحثي جامعة أكسفورد إلى أن عدد حالات الإصابة بالملاريا سنويا يبلغ خمسمائة مليون شخص. وتتركز ثلثا الحالات في إفريقيا، وفي الأطفال دون الخامسة بشكل خاص.

ويقول الباحثون إن السبب الرئيسي للتضارب في الأرقام يعود إلى أن منظمة الصحة العالمية تعتمد على التقارير الطبية المسجلة بالمستشفيات والعيادات للمصابين بالملاريا إلا أن كثيرا من المصابين لا يلجأون إلى المستشفيات. ويضيفون إن التقديرات تبدو منخفضة بوجه خاص - في جنوب وجنوب شرق آسيا التي تعرف بانتشار أكثر أنواع الملاريا فتكا.

ولاحظ العلماء أن الأجيال الجديدة من المرض أصبحت أكثر مناعة للعلاج المستخدم، لتصيب وتقتل أكثر مما كان عليه الأمر في السابق.

والحالات المصابة بالملاريا في إفريقيا في تزايد مستمر، فقد ازدادت بمعدل أربعة أضعاف في التسعينيات مقارنة بالسبعينيات، كما ازدادت أعداد الوفيات في المستشفيات بنسبة مرتين إلى ثلاث مرات.

ويربط بعض العلماء بين عودة الملاريا لقتل البشر على نطاق واسع في إفريقيا وبين الارتفاع الملحوظ في درجات الحرارة في القارة السمراء بعد أن وجدوا أن درجات الحرارة في هضاب شرقي إفريقيا قد ارتفعت بمعدل نصف درجة مئوية خلال الخمسين سنة الماضية.

وأشار بحث نشرته دورية PNAS البريطانية إلى أن مجرد هذا الارتفاع الطفيف في درجات الحرارة قد يكون أدّى فعلاً إلى مضاعفة عدد حشرات البعوض الحاملة لجرثومة الملاريا.

واستند البحث المنشور إلى أحدث تحليل للمعلومات المتعلقة بدرجات الحرارة في أربعة مواقع من هضاب إفريقيا في غربي كينيا وجنوب غربي أوغندا وجنوبي رواندا وشمالي بوروندي.

وقد عاد مرض الملاريا ليتفشى في السنوات الأخيرة في معظم أجزاء هضاب شرق إفريقيا حيث تكون درجات الحرارة عادة أقل بدرجات عدة مما هي عليه الحال في المناطق المنخفضة.

يذكر أن تغير المناخ قد تم افتراضه أيضاً كعامل يمكن أن يكون قد أثر في بعوضة الملاريا التي تنقل طفيلية الملاريا إمّا من خلال درجات حرارة عالية أو من خلال الهطولات المطرية المتزايدة.

وكانت الهيئة العالمية للمناخ والمشكلة من ممثلي حكومات العالم المتعددة-وهي الهيئة الدولية التي تفحص وتقارن المعلومات العلمية المتعلقة بدرجات التحول المناخي وانعكاساتها-قد ذكرت في أحد تقاريرها أن: «التغير المناخي المستقبلي قد ينتقل إلى بعض مناطق الهضاب مثل شرق إفريقيا.»

البيئة والأمراض

الملاريا إذن إحدى المشكلات الرئيسية في العالم. وهي تسبِّب، وفقا لمنظمة الصحة العالمية، خسائر فادحة في الوضع الصحي والرفاهية الاقتصادية لأفقر المجتمعات في العالم. ففي نهاية عام ألفَيْن وأربعة، كانت المناطق المعرَّضة لخطر سراية الملاريا منتشرة في 107 من البلدان والمناطق يعيش فيها 3.2 بليون نسمة. وفي كل عام يحدث نحو 350 - 500 مليون نوبة ملاريا سريرية وأكثر من مليون وفاة.

ويقول الفرع الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في الشرق الأوسط إن الملاريا لاتزال تمثل مشكلة بارزة بالنسبة لسكان المنطقة. فنحو 50% من سكان الشرق الأوسط يعيشون في مناطق معرَّضة لخطر الملاريا في 13 بلداً. وفي العام 2004، بلغ عدد حالات الملاريا نحو 15 مليون حالة نجم عنها نحو 59 ألف حالة وفاة. غير أن عبء الملاريا لا يتوزَّع توزُّعاً متساوياً بين بلدان الإقليم. فأكثر من 90% من الحالات تقع في أربعة بلدان فقط (هي: أفغانستان والجمهورية اليمنية والسودان والصومال).

ويتوقع بعض العلماء ارتفاع حرارة كوكبنا درجة أو درجتين بحلول العام 2030 نتيجة لظاهرة «الاحتباس الحراري» التي يعتقد مسئولية بعض الغازات المنبعثة عنها مثل ثاني أكسيد الكربون.

ومن بين التأثيرات المتوقعة لارتفاع حرارة الأرض تمديد «موسم» مرض الملاريا في العديد من البلدان التي يستوطنها المرض بالفعل. كما يمكن أن يؤدي ارتفاع الحرارة إلى تزايد أعداد البعوض الحامل للملاريا في الدول التي لا يمثل فيها المرض مشكلة حتى الآن، مثل الدول الأوربية. وسيساعد ارتفاع درجات الحرارة في انتشار الأمراض المنقولة عبر المياه وأيضا الحشرات.

والواقع أن الملاريا ليست هي المرض الوحيد الذي يرتبط ارتباطا مباشرا بالبيئة. فقد أصدرت منظمة الصحة العالمية تقريرا خطيرا، حمل عنوان «توقي الأمراض بفضل البيئات الصحية - نحو تقييم عبء الأمراض البيئية»، يسلط الضوء على العلاقة الوثيقة التي تربط بين تدهور البيئة وانتشار الأمراض. و تؤكّد معطيات التقرير الجديدة، لأوّل مرّة في التاريخ، وجود أمراض مختلفة مردّها عوامل اختطار بيئية، وتبيّن كيف يمكن توقي العبء البشري الفادح الناجم عنها.

وهذا التقرير هو أكثر الدراسات شمولاً ومنهجية من ضمن الدراسات التي تم الاضطلاع بها حتى الآن بشأن الطريقة التي تسهم من خلالها الأخطار البيئية التي يمكن توقّيها في حدوث طائفة واسعة من الأمراض. ويخوض التقرير مجالاً جديداً من خلال بحثه الآثار البيئية ويعرض بيّنات تحثّ على ضرورة التركيز على ميدان جديد من ميادين الاهتمام، وهو توقي الأمراض المرتبطة بالبيئة.

ربع أمراض العالم

ويقول التقرير إن العوامل البيئية التي يمكن توقيها تتسبب في قرابة 24 % من مجموع الأمراض التي تحدث على الصعيد العالمي. وتقيم منظمة الصحة العالمية الدّليل على أنّ بإمكان التدخلات الجيدة التركيز أن تسهم في توقي الكثير من تلك المخاطر البيئية. كما تشير التقديرات الواردة في التقرير إلى أنّ 33 % من الأمراض التي تصيب الأطفال دون سن الخامسة إنّما تعود إلى بعض أشكال التعرّض البيئي. ويمكن من خلال توقي المخاطر البيئية إنقاذ أرواح أربعة ملايين طفل في السنة، معظمهم في البلدان النامية.

ويفتح التحليل الوارد في التقرير، من خلال التركيز على الأسباب البيئية للأمراض وكيفية تسبّب العوامل البيئية في أمراض مختلفة، آفاقاً جديدة فيما يتعلّق بفهم التفاعلات القائمة بين البيئة والصحة. وتعكس التقديرات الواردة فيه حجم الوفيات والأمراض وحالات العجز التي يمكن توقيها بشكل فعلي في كل عام من خلال تحسين الإدارة البيئية.

وقال الدكتور آندرس نوردستروم، المدير العام بالنيابة لمنظمة الصحة العالمية، «إنّ التقرير يمثّل إسهاماً كبيراً في الجهود المبذولة من أجل التعمّق في فهم العلاقات التي تربط بين البيئة والصحة. ونحن على علم، منذ زمن طويل، بأنّ البيئة تؤّثر في الصحة تأثيراً بالغاً، غير أنّ هذه التقديرات هي أفضل ما هو متوافر في هذا الشأن حتى الآن. وسيساعدنا هذا التقرير على أن نثبت أنّ الاستثمار الحكيم الموجه إلى تهيئة بيئة داعمة من شأنه أن يكون استراتيجية ناجحة في مجال تحسين الصحة وتحقيق التنمية المستدامة».

13 مليون وفاة

تشير التقديرات الواردة في التقرير إلى أنّ أكثر من 13 مليون من الوفيات التي تحدث سنوياً مردّها عوامل بيئية يمكن توقيها. وتلك العوامل تتسبّب أيضاً في نحو ثلـــث الوفيات والأمراض التي تحدث في أقلّ مناطق العالم نمواً. ويمكن توقي أكثر من 40 % من الوفيات الناجمة عن الملاريا ونحو 94 % من الوفيات الناجمة عن أمراض الإسهال، وهما من أهمّ العوامل المسبّبة للوفاة لدى الأطفال على المستوى العالمي، وذلك من خلال تحسين الإدارة البيئية.

والأمراض الرئيسية الأربعة الناجمة عن تدهور البيئة هي الإسهال، وأنواع العدوى التي تصيب الجهاز التنفسي السفلي، وأشكال مختلفة من الإصابات غير المتعمدة، والملاريا. ومن التدابير التي يمكن اتخاذها الآن من أجل الحدّ من عبء الأمراض البيئية تعزيز مأمونية صهاريج المياه في البيوت وتحسين النظافة؛ واستخدام وقود أنظف وأكثر مأمونية؛ وتعزيز مأمونية المباني، وضبط استخدام المواد السامة في البيوت وأماكن العمل وإدارتها على نحو أكثر رشداً؛ وتحسين إدارة الموارد المائية.

تأثير كبير

يبيّن التقرير أنّ البيئة تحدث بشكل أو بآخر تأثيراً كبيراً في أكثر من 80 % من تلك الأمراض الرئيسية. وبالإضافة إلى ذلك، فهو لا يتناول إلاّ المخاطر البيئية التي يمكن التأثير فيها، أي تلك التي يمكن تقليصها من خلال سياسات أو تكنولوجيات موجودة فعلاً. كما يشرح التقرير يُسر عملية توقي الأمراض ذات الصلة بالبيئة.

ومن خلال اتخاذ إجراءات صارمة وتحديد الأولويات للتدابير الرامية إلى دحر أهمّ الأمراض الفتاكة يمكن في كل عام توقي الملايين من الوفيات التي لا داعي لها. ومن الأساسي - في هذا الصدد - العمل مع قطاعات من قبيل الطاقة والنقل والزراعة والصناعة من أجل التصدّي للأسباب البيئية الجذرية الكامنة وراء اعتلال الصحة.