آخر الأخبار

محمود درویش والمتنبي


إن قصيدة "رحلة المتنبي إلى مصر"، هي إحدى قصائد مجموعة درويش
"حصار لمدائح البحر"، وقد كُتبت هذه المجموعة -أو معظمها- بعد تجربة
مريرة في حياة الشاعر وشعبه؛ إنها تجربة حصار بيروت، وخروج المقاومة
، إلى "التيه"، كما يعبر درويش نفسه، وقد طبعت للمرة الأولى في تونس ١٩٨٤
ولو استعرضنا قصائد هذه المجموعة، من مرثياته في ماجد أبو شرار، وعز
الدين قلق وغيرهما، وقصيدة بيروت، مروراً بقصيدتنا موضوع البحث، فسنجد
( أن روحاً حزينة منكسرة تخيم على هذه المجموعة، وتؤسس لروح التعب( ١٠٦
عند الشاعر التي ستبدو جليةً في مجموعاته اللاحقة، وحين نقرأُ القصيدة التي
بين أيدينا، وفي ذهننا -شئنا أم أبينا- تاريخ غير قصير من الهجرات والنكبات
والنضال، فسنصلُ إلى قناعة مفادها، إن استحضار شخصية المتنبي -التي تكاد
تكون الأكثر ملاءمةً ودلالةً- هو عملية إيجاد معادل تراثي لبعد من أبعاد
التجربة الدرويشية -الفلسطينية في الخروج من المكان (الجغرافيا) والزمان
(التاريخ).
محمود درويش يتأّلقُ في استخدام المتنبي قناعاً، وأحد أسباب ذلك هو هذا
القلق الذي يعيشه الشاعر، وهذا الرحيل المرير الذي أكره عليه الفلسطيني بقوة
السلاح ولأكثر من مرة، فخرج إلى البحر.
لقد ترك المتنبي حلب مرغماً، رغم عشقه لها ولأميرها، ودرويش يرغم
على الاقتداء بخطوات جده، رغم حبه لبيروت، لكن متنبي القصيدة يخضع لكثيرٍ
من الانزياح والتحول؛ لقد أخذ درويش هذه الخامه، مدركاً خصوصيتها،
وإمكاناتها الطبيعية، ولكنه اشتغلَ عليها كنحات ماهر، لقد استطاع استدعاءها
أولاً "من قلب المتلقّي ووجدانه كي تتحول بفضل موهبته وثقافته وخبرة تم  رسه
الفني إلى جسرٍ للتواصل والتحاور والارتقاء. جس  ينتقل القارئُ به- دون قلق
أو توجس- من قيمته التقليدية الراسخة إلى قيم الشاعر النابضة بروح
.( العصر"( ١٠٧
- ٤٨ -
تبدأُ قصيدة محمود درويش بعبارته:
"للنیل عاداتٌ
وإنيّ راحلُ"
وسيكرر هذه اللازمة ست مرات ليختتم بها قصيدته في نهاية المطاف.
وهذه اللآزمة ستلعب دوراً هاماً في بناء القصيدة بشكلٍ عام، فهي بتظافرها مع
مايشبه المنولوج الموشح بشيء من الحوار ستكون متكأ الشاعر حين ينتهي من
فضاء معنوي ويبدأ بآخر، بالإضافة لدورها الإيقاعي.
وستمد هذه اللازمة "القصيدة بالنفس الملحمي! فهي تفصلُ بين الأجزاء
وتصل بينها في الوقت نفسه، بمعنى أنها تفصل لإفادة انتهاء مسرودية ذات
معنى جزئي وتصل بين المسروديات كلها صوتياً لإكساب النص بناءه المعماري
العام" ١٠٨
والقصيدةُ ذات نفسٍ واحد رغم ذلك؛ فالشاعر لايفصلُ بين مقاطعها بأية
فواصل سوى مساحة بيضاء صغيرة، بين اللازمة المذكورة والمقطع الذي يليها
توحي بتوقّف الذاكرة قليلاً بغية الراحة قبل أن تُتابع حوارها مع النفس أو
مشاهداتها ومعاناة صاحبها.
أود أن أشير أن هذه العبارة التي يبدأ درويش بها القصيدة على لسان
المتنبي:
"للنيل عاداتُ/ وإني راحلُ" هي حصيلة رحلته كّلها؛ إّنها النتيجة النهائيه،
ومنها يبدأ بطريقة نعرفها في فن القصة بالارتجاع الفّني؛ فيحدثنا بادئ ذي بدء
من أين جاء، وكيف ولماذا؟:
"أمشي سریعاً في بلادٍ تسرق الأسماءَ منّي
قدْ جئتُ من حلبٍ وإني لاأعودُ إلى العراقِ
سقط الشمالُ فلا أُلاقي
( غیر ھذا الدرب یسحبني إلى نفسي.. ومصرَ" ( ١٠٩
إنه قادم من حلب بعد أن سقط الشمال، ولم يبق له إلا هذا الطريق حفاظاً
لكرامته وماء وجهه، وحين نتذكّر أن الشمال تاريخياً وفي فترة المتنبي كان
محمياً بإمارة الحمدانيين، وهو لم يسقط، فسندرك أن انزياح الشخصية التراثية قد
بدأ منذ بداية القصيدة، وأن درويش راح منذُ هذه اللحظة يفصلها من جديد على
مقاسه بحيث يلبسها براحة ونجاح، مع المحافظة على الكثير من ميزاتها
وخصوصيتها:
- ٤٩ -
"كم اندفعتُ إلى الصھیل
فلم أجد فرساً وفُرساناً
وأسلمني الرحیلُ إلى الرحیل
ولا أرى بلداً ھُناك
ولا أرى أحداً ھناك
الأرضُ أصغرُ من مرور الرمح في خصرٍ نحیلْ
والأرض أكبرُ من خیام الأنبیاءْ
ولا أرى بلداً ورائي
( لا أرى أحداً أمامي " ( ١١٠
هذا هو المتنبي الخارج من حلب باتجاه مصر؛ فأين هو درويش الخارج
من بيروت؟
اسمحوا لي أن استعير عباراته في وصف ذلك:
"رأيتُ السفينة ذاتها، التي حملت أوليس، أحد أحفاده الجدد في القرن
العشرين، وعادت من الشاطئ الشرقي للمتوسط إلى أصلها في كريت؛ ه  زتني
الدلالةُ الجارحة لهذا التيه؛ الذي لم يجد له شاطئاً عربياً، فعاد إلى المرفأ الأول..
الرحلةُ مليئٌة بالجراح والشعر أيضاً، ولاأعرفُ متى يرسو هذا التائه
( الفلسطيني؟.. الخ" ( ١١١
 صوت واحد وحالة واحدة؟!
إنّه الإكراه! إكراه الشاعر على التخّلي عن المكان ، "وكأن التخلي عن
المكان أصبح الظاهرة الأكثر وضوحاً في هذا الزمان العربي، الزمان الذي
( سقطت فيه كل الأقنعة، زمان غياب العرب وسقوط قلاعهم" ( ١١٢
وهكذا لايجد شاعر ك (المتنبي/ درويش) مكاناً يلتجئُ إليه، مكاناً يحمي
أحلامه وعواطفه إلا الأغنية/ القصيدة التي تحلُّ محل الوطن:
"وطني قصیدتي الجدیدةْ
أمشي إلى نفسي، فتطردني من الفسطاط
كم ألج المرایا
كم أكسِّرُھا
( فتكسرني" ( ١١٣
إنه البحث المؤلم عن المكان المفقود الوطن الذي يؤ  من لك الحماية
ولايطردك ولايلقيك إلى الأعداء؛ لكن أين تجده ومن حولك تو زع الدولُ كالهدايا،
وتأكلُ السبايا بعضها، ويصبح الانعطافُ والانحرافُ سنةً ألن َتشعر عندها أن
- ٥٠ -
وطنك هو صدرك... وصدرك قبرك؟، ألن تجري حين تجد من حولك هذا
الركود المخيف؟!
"أرى فیما أرى دولاً توزّعُ كالھدایا
وأرى السبایا في حروبِ السبي تفترسُ السبایا
وأرى انعطاف الانعطاف
أرى الضفاف
ولاأرى نھراً.. فأجري
وطني قصیدتي الجدیدةْ
كیف أدري
( أن صدري لیس قبري" ( ١١٤
ويزداد حجم الفجيعه حين يدرك (المتنبي/ درويش) أنه جاء إلى المكان
الخطأ، أو أنه غير مرغوب به هنا، ومامن شيء يشده إلى هذا المكان:
"لاالحبُّ ناداني
ولاالصفصاف أغراني بھذا النیلِ كي أغفو
ولاجسدٌ من الأبنوسِ
( مَزّقني شظایا" ( ١١٥
إنها مصر أخرى غير التي يعرِفُها ويحبها؛ إّنها مصر كافور، مصر التي
أُخرجت من حربِه:
"والنھرُ لایمشي إليَّ فلا أراه
والحقلُ لاینضو الفراش على یديَّ فلا أراه
لامصرَ في مصر التي أمشي إلى أسرارھا
فأرى الفراغ، وكلّما صافحتُھا
شقّتْ یدینا بابلُ
( في مصر كافور وفيَّ زلازلُ" ( ١١٦
وتأتي مساحة بيضاء صغيرة تلتقطُ الذاكرةُ أنفاسها فيها، ليعود بعد قليل
صوتُ الشاعر:
"حجرٌ أنا
یامصرُ ھل یصلُ اعتذاري
عندما تتكدّسین على الزمان الصعب أصعبَ منھُ؟
( خطوي فكرتي ودمي غُباري" ( ١١٧
إنه مقطع محير بلا شك! كيف يعتذر هذا الشاعر إلى مصر التي جاءها
لاجئاً ومستنجداً، فكسرت حلمه، وخيبت أمله (ومصر هنا ليست بلاد النيل فقط).
- ٥١ -
أليس الأولى أن تعتذر مصر إلى الشاعر؟!
أظن أن درويش قلب الصورة بهدف المبالغة في الأمر.
وهل أمرمن أن تعتذر لصديق أساء إليك وتتركه وتمضي؟ أليس هذا
أمضى وأشد وقعاً في النفس من أن تكيل له الشتائم!
أم أن الشاعر يعتذر إلى مصر لأنه أصبح "حجراً" بفعل مامر عليه وعاناه،
فما من شيء يفعل فعله فيه، ولاشيء يعنيه، وهو بالتالي غير قادر على
مساعدتها في هذا الزمان، فأفكاره الآن هي خطواته، ودماؤه هي ماتثيره فرسه
من عجاجٍ وغبار. أنا أرجح الاحتمال الأول لأن الشاعر يتساءل بعد قليلٍ بصيغة
الاستنكار:
" ھل تتركینَ النھرَ مفتوحاً لمن یأتي
( ویھبطُ من مراكبھ إلى فخذینِ من عاجٍ وعرشٍ"( ١١٨
ويحاول أن يترك في قلبه شيئاً من التفاؤل؛ إن الأعداء لن ينزلوا مصر،
ولن يصعدوا الأهرام، وهو علي يقين من أنه شاعراً وشعباً سيكون دريئةً لهذه
البلاد، وسيفنى في الغزوات المتتالية، فما الذي يجعل مصر تُعرض عن دموعه
وتنظُر إلى عدوه؟
وماالذي يجعلُه يلتصقُ بالجميل المتبقّي منها، وكأنه هوالخالد:
"أعرفُ أنني أمتصُ فیكِ الغزو
أعرفُ أنني سأمرُّ في لمح الوطن
وأذوبُ في الغزواتِ والغزواتِ
لكن كلما حاولتُ أن أبكي بعینیكِ
التفتِ إلى عَدوّي
فالتصقتُ بما تبقّى منكِ أو منّي.
( وأدركني الزمنْ"( ١١٩
إن الالتفات إلى العدو طارئ، والشاعر يدر  ك ذلك، وهو يعلم أيضاً أن هذا
الفقر، والوضع الاجتماعي السيء هو "الزائل" ، وهنا نلاحظ الانزياح الكبير في
الشخصية التُراثية، فالمتنبي بدأ يتحدث عن أشياء وأفكار ماعرفناها عنه قط:
"تمضینَ حافیةً لجمعِ القطنِ في ھذا الصعیدْ
وتسكتینَ لكي یضیعَ الفرقُ بین الطینِ والفلاحٍ
في الریف البعید
وتجفُ في دمكِ البلابلُ والذُرهْ
( ویطولُ فیكِ الزائل" ( ١٢٠
- ٥٢ -
ومصر رغم ذلك محبوبةُ الشاعر، وهي وإن كانت تف  ر من أضلاعه حين
يعانقها فهي تسكنُه، وستطارده حين يخرج منها، حتى تجعلَ بلاد الشام منفى
للشاعر- وهذا انزياح آخر للشخصية التُراثية- فأية حال مريعة هذه، وأ  ي عشق
غريب:
"بلادٌ كلّما عانقتُھا فَرّتْ من الأضلاع
لكن كلّما حاولتُ أن أنجو من النسیانِ فیھا
طاردتْ روحي
( فصارتْ كل أرض الشام منفى"( ١٢١
ويقرر الشاعر الخروج من مصر؛ لقد خيم الركود عليه، وأوشك أن ينسى
أن خطاه كانت دائماً تبتكر الجهات؛ وها هو ذا يتحرر من سلاسل كافور، لكنه-
وهذا قدره- يبقى مقيداً برسالته التي يحملها أبداً.
وفي المقطع قبل الأخير، وبينما يودع (المتنبي/ درويش) مصر؛ نرى الألم
يطفح والغصة تصبح بحجم الفجيعة، فلا يستطيع كتمانها:
"و.... وإلى اللقاء إذا استطعتُ
وكلّ من یلقاكِ یخطفُھُ الوداعُ
والقرمطيُّ أنا، ولكنَ الرفاقَ ھناكَ في حلبٍ أضاعوني وضاعوا
والرومُ حول الضادِ ینتشرون
والفقراءُ تحت العناد ینتحبون
( والأضدادُ یجمعھم شراعٌ واحدٌ" ( ١٢٢
إنه قرمطي، لايمتلك سوى سيفه وجواده، ومامن شيء يطمع فيه، ولكن
رفاق السلاح أضاعوه وضاعوا، وهاهم الأعداء يحاصرون العرب ويحتلون
بلادهم، بينما الفقر ينهشهم في بلاد ساكنةراكدة محكومة بالعبيد:
"وسكونَ مِصر یشقّني:
ھذا ھو العبدُ الأمیرُ
وھذهِ الناسُ الجیاعُ" ١٢٣
وها هو ذا (المتنبي/ درويش) يقفُ متكئاً على روحه الجريح، فيهدم قصور
العبيد بأغنياته ولايساوم على شيء، ولايبيع نفسه، يصرخُ في الوجوه مذكراً أن
الصراع مع العدو هو الصراع ولاشيء يغير هذه الحقيقة، ولاسلم إلا بحلِ هذا
الصراع بطريقة كريمة:
"والصراعُ ھوالصراعُ
والروم ینتشرون حولَ الضادِ
لاسیفٌ یطاردھم ھناكَ

 

ثائر زين الدين