من ضمن الفوارق الكثيرة بين كوانتين تورانتينو وايليا سليمان ثمة فارق واحد اريد استيضاحه. يتعلق في نهاية الأمر بموقع كل منهما في الجغرافيا والوقت. يستطيع تورانتينو ان يوقظ ايما تورمان من موتها قبل ان ينتهي الفيلم. الموت ليس نهاية لأي شيء، هذا مفهوم في السينما عموماً. وتستطيع ايما تورمان ان تعود وتنتقم من قبرها. وهذا يجب ان يكون مفهوماً ما دمنا قد تواطأنا معه على خرافة ما وتعاقدنا معه على وقت محدد هو مدة الفيلم المثبتة ارقامها على الملصق.
إذاً ستقوم تورمان من موتها لأن الفيلم لما ينته بعد. لكننا مع ايليا سليمان لا نستطيع ان نقيم ميتأً من قبره، او نجعل موته سبباً لنهاية الفيلم. اصلاً لماذا ينته الفيلم ما دام الموضوع لم ينته؟ لم ينتقم الساعي للانتقام من عدوه، ولم يعش الأبطال في نهاية الفيلم في سعادة وهناء، وبقي الموضوع معلقاً.
الجغرافيا لها احكام. انما اي جغرافيا بالضبط؟ هذا ما يجدر بنا تفحصه جيداً. حدة الفارق الآنف الذكر لا تتعلق طبعاً بسعة الخيال. ليس ثمة من سبب يحدونا إلى الافتراض ان خيال تورانتينو اوسع من خيال سليمان. وهذا ليس من حقنا. لكننا نكتشف ان الخيال بين مكانين يختلف اختلافاً بيناً. في وسعي القول ان ثمة تصنيفات طبقية للقدرة على التخيل. ما الذي يستطيع المرء تخيله في بلد كلبنان مثلاً؟ حيث نعيش اليوم تحت هاجس اغتيال الكتاب والمفكرين والمناضلين؟ الأرجح ان خيالنا لن يجمح على النحو الذي يستطيعه كلود لولوش في باريس، وخيالنا لن ينفلت من عقاله مثلما يستطيع خيال اوليفر ستون او تارانتينو ان يفعل.
الجغرافيا تحكمنا بمحدودية الخيال. لكن ما يثبته ايليا سليمان او عباس كيورستامي يتعلق من ناحية أخرى بوقائع اقرب ما تكون إلى الخيال. يصور سليمان اناس يجاهدون جهداً فظيعاً ومضنياًً للبقاء قيد الاتصال بالمعاصرة. هؤلاء اناس حقيقيون وهذا الذي يصوره جزء من من وقائع عيشهم الفعلية. وحين يصور كل هذا فإنما يثبت لنا ان المعاصرة هشة إلى درجة يمكن لمتفجرة واحدة ان تشل اعصابها. تورانتينو محظوظ لأن ما يحدث في فيلمه يحدث في فيلمه، ولأننا، وبعد زمن من انتهاء الفيلم، رأينا ايما تورمان على سريرها في حديقة منزلها تتشمس عارية، في فيلم صوره باباراتزي ما. هذا حدث بعد موتها في الفيلم وقيامتها من جديد.
أبطال سليمان لا يتشمسون اصلاً، بل ان بعض ابطال المخرجة الاسرائيلية ارنا في فيلم "اولاد ارنا" قضوا نحبهم. ولم يبق منهم غير الصور التي نشاهدها في الفيلم. الفيلم هنا لن يتكرر مرة أخرى, دائماً نحتاج لوقائع عيش مضنية وشخصيات جديدة لننتج فيلماً. إذاً ينبغي التفريق بين الوقوف امام الكاميرا والقدرة على الفعل. لا يستطيع الواقف امام الكاميرا ان يستشهد حقاً إلا إذا كان لا يعرف اصلاً انه معرض لتلصص العدسة. الكاميرا تثنينا ونحن امامها عن الفعل. نصبح ممثلين: ممثلون كمثل ما يكون موت بائع متجول موتاً على الشاشة. ممثلون وتأسرنا في حدود قدرتها على الالتقاط، ممثلون ولا نستطيع ان نخرج من إطارها إلا حين نغيب عن كل فعل. والحال ليس ثمة من طريقة لإدامة البقاء امام الكاميرا إلا حين نعلن ان ما يجري امامها ليس مفاجئاً وليس عفوياً وهو محسوب سلفاً في دقة متناهية.
نحن في لبنان صنعنا ثورة امام الكاميرات. كنا في الوقت نفسه نثور ونتظاهر بعشرات الآلاف وتصورنا الكاميرات. لكننا ايضاً لم نكتف بهذا الحد. كان اللبنانيون في ساحة الشهداء التي اسموها ساحة الحرية بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، يتظاهرون ويهتفون ضد النظام السوري وهم يقفون امام الكاميرات وفي الوقت نفسه يشاهدون انفسهم شاشات عملاقة وضعت لهذا الغرض. كان اللبنانيون ممثلين ومشاهدين في الوقت نفسه. شاهدوا انفسهم على الشاشات لحظة قيامهم بالتظاهر. وصدقوا انفسهم انهم يغيرون التاريخ.
لكن الكاميرا لها احكام. لا تستطيع ان تكون منتحراً وحياً في الوقت نفسه. لا تستطيع ان تموت وتمشي في الوقت نفسه. كانوا يهتفون بحياة لبنان ويعلنون استعدادهم للموت من اجل الوطن. لكن الأمر اقتصر على هذا الاستعداد. ما كان في وسعهم ان يموتوا امام الكاميرا ويعلنون استعدادهم للموت في الوقت نفسه. كانوا امام واحد من خيارين: اما تنظيم مقتلة او انتحار جماعي امام الكاميرات المزهوة بنشوة الفرح العارم، وفي ذلك ما يحرف الكاميرات عن وظيفتها ويجعلها تعيش عقدة ذنب القتلة انفسهم. واما يعلنون استعدادهم للموت ولا يموتون. اللبنانيون ظنوا وهم يعلنون استعدادهم للموت والنضال والتضحية انهم انما يضحون ويموتون ويناضلون. لكن الكاميرا التي جعلتهم مشاهدين وممثلين في الوقت نفسه لا تسمح للموتى ان يموتوا والمناضلين ان يناضلوا إلا في غفلة عنها. الغفلة المتبادلة: اما ان تصل الكاميرا وتجدهم جثثاً ملقية على الأرض العارية، وإما ان تضبطهم متلبسين بموتهم ونضالهم على غير علم منهم. العلاقة بين الفعل والتغيير والكاميرا تشبه علاقة القط والفأر. ثمة طرف يريد الهرب من طرف آخر. لكن ما لم يكن ممكناً اصلاً ان تغير بلادك او ملابسك امام الشاشات. إلا إذا كانت في فيلم مارلون براندو "فيفا زاباتا". في الفيلم فقط، اي حين يكون التخيل فائضاً عن حده يمكننا ان نخلع ملابسنا امام الكاميرا.
هذا في حد ذاته يختلف عن افلام سليمان. الخاضعون هناك لعين الكاميرا المتلصصة عاجزون عن الفعل. يريدون ان يكونوا وثيقة وشهادة اثبات. لكنهم في فيلم تارانتينو يريدون ان يكونوا دلالة على الخيال اللامحدود. امام الكاميرا انت واحد من اثنين اما وثيقة اثبات لا تنجح في إثبات اي شيء، وإما ممثل لا يفعل غير تلفيق ما تراه العين. لم يحدث في لبنان ان صالحنا التلفيق الخيالي مع الوقائع الحية. جل ما فعلناه اننا وقفنا امام الكاميرات ولم نكن ممثلين، كنا نشاهد انفسنا كما لو اننا في منام. نشاهد انفسنا نغير ونناضل ونموت لكننا لم نغير ونناضل ونمت. انتهى زمن النوم واستفقنا على الوقائع المرة، لنكتشف اننا غرقنا في سبات الكاميرا ولم نستطع ان نفعل اكثر من افتضاح احلامنا الخرقاء.