----------------------------------------------------------------------
جيل أندرياني
«كومونتير» الفرنسية، ربيع 2008
الحرب سنّة من سنن الحياة على وجه الأرض، على قول مفكر تقليدي. ولكن، الحروب خرجت من محور النظام الدولي، ودارت في «ضواحيه» وهوامشه القارية، منذ نهاية الحرب الباردة. فمعظم النزاعات تدور في القارة السوداء، وضحاياها هم ثلاثة أرباع قتلى الحروب في العالم. ومنذ 1945 الى اختتام الحرب الباردة، راح ضحية الحروب 400 ألف شخص، سنوياً. وانخفض هذا العدد الى 250 ألف ضحية، في العقد الذي تلا اختتام الحرب البادرة، وبلغ 150 ألف قتيل، في السنة، منذ بداية الألفية الجديدة. ويفوق، اليوم، عدد الوفيات في حوادث السير عدد ضحايا الحروب في العالم. ويبلغ نحو مليون قتيل سنوياً.
وتحتفل أوروبا بمرور سبعة عقود على سلام متواصل لم تتخلله أي حرب، وهذه سابقة من نوعها في تاريخ القارة القديمة. ومن المستبعد أن يفضي التنافس بين الدول الأوروبية الى حرب أو نزاع مسلح. فأوروبا طوت صفحة الانقسام الإيديولوجي والعقائدي. فخفضت الدول الأوروبية موازناتها الدفاعية. وإذا اندلعت الحرب في دول يوغوسلافيا السابقة، بقي مسرحها هذه الدول، ولم يتعدها الى القارة الأوروبية كلها. ويصح نعت النزاعات الروسية في القوقاز بالـ «مجمدة». فروسيا لا تسعى الى حسم هذه الحروب ولا الى تأجيجها. والحق أن القوى الكبرى في العالم تميل، شأن أوروبا، الى الامتناع عن اللجوء الى القوة العسكرية في حل نزاعاتها. وثمة خلافات بين الولايات المتحدة وحلفائها بأوروبا واليابان، من جهة، ودول غير راضية عن مكانتها الاستراتيجية، على غرار روسيا، ودول تسعى الى تعظيم نفوذها، شأن الصين والهند، من جهة أخرى. ولكن العلاقات بين هذه الدول مستقرة، وبعيدة من اضطرابات المواجهة الايديولوجية وسباق التنافس على التسلح. وتراجع دور السلاح النووي قوةً رادعة، على ما كان طوال أربعين عاماً من الحرب الباردة بين الغرب والشرق.
وتبعث سَكينة العلاقات بين القوى الكبرى على الحيرة والتساؤل، أهي ثمرة تفوق الولايات المتحدة العسكري الاستراتيجي، أم ذواء النزاع على شرعية عقيدة ما وهوية في عصر العولمة، أم دور السلاح النووي الرادع؟
وفي الظروف الدولية الراهنة، يستبعد نشوب حرب عالمية أو دولية. فالحروب، في وقتنا، إقليمية. فالصحراء الافريقية هي بؤرة عوامل تسهم في اندلاع الحرب بين الدول والنزاعات الداخلية. ففيها يجتمع الفقر والبؤس وضعف الدول وغلبة المشاعر الإثنية - القومية وميل الحكام الى الاستبداد. وقد تقع حرب بين باكستان والهند. فتدهور الأحوال الأفغانية يقوض الاستقرار الباكستاني الداخلي، وربما يبعث الاضطراب في علاقات البلد الدولية. ومن المستبعد أن تنشأ حرب كبيرة وحاسمة بين سورية وإسرائيل ولبنان. فكفة ميزان القوى تميل إلى إسرائيل. واختلال التكافؤ بين القوات يضيق نطاق القتال، ويحصره في أعمال استفزازية عنيفة وردود عسكرية قوية عليها.
وتنزل الحرب القسمة في العالم، جغرافياً وفلسفياً. فثمة من يتعرض للحرب أو يكون مجتمعه عرضة لها، وثمة من هو منيع في وجهها، ولا ينزلق إليها. ويرى بعض الناس أن الحرب هي من مخلفات الماضي، وبعض آخر انها من الوسائل الراهنة والمشروعة. ولا شك في أن المجتمعات المعاصرة لا تعلي شأن الحروب، ولا ترفعها إلى مرتبة سامية. ولم تبق الحرب وسيلة تذليل الخلافات بين الدول، بل وسيلة الدفاع عن النفس في وجه معتد، أو وسيلة فرض مبادئ سامية مثل الديموقراطية. وقد يفضي شن حرب لنشر مبادئ سامية الى انبعاث مفهوم الحملات («الصليبية» أو «الجهادية») وإضفاء مشروعية على مفهوم الحرب. وهذا أمر يدعو الى الأسف.
ودور الولايات المتحدة في الحرب والسلم راجح في المستقبل. فهي نقطة التقاء بين الدول المنقسمة في الرأي حول الحرب والسلم. وهي صاحبة أكبر موازنة دفاعية ونموذج يحتذى في العلاقات الدولية، في بت قرار شن الدول الحروب أو الامتناع منه. فالولايات المتحدة تتدخل في شؤون معظم بلدان العالم. وهي تؤدي دور منظم العلاقات بين الهند وباكستان، وتحاول احتواء الأزمات في الشرق الأقصى الآسيوي، والحؤول دون اندلاعها. ومنذ أيلول (سبتمبر)، تخوض الولايات المتحدة حربين بالشرق الأوسط، الأولى في أفغانستان والثانية بالعراق. وهي أعطت إسرائيل الضوء الأخضر لشن حملة عسكرية على لبنان في صيف 2006، ولوّحت بتوجيه ضربة إلى إيران. فالدور الأميركي بالشرق الأوسط، وهو اقتصر على دور وسيط السلام بين إسرائيل والعرب في العقود الماضية، تغير اثر هجمات الحادي عشر من أيلول. فالأميركيون خلطوا بين عدوان أيلول الرهيب وبين الحرب. وهذا خطأ سياسي ولغوي. فتوترت العلاقات الدولية، وانبعثت المشاعر القومية. وفتر النازع العالمي التاريخي الى نبذ الحرب. والحق أن خيار الحرب يلقى قبولاً في أوساط البلدان المهددة، على غرار الولايات المتحدة بعد هجمات أيلول، والهند، بعد اعتداء نيودلهي. وحث شعبا هذين البلدين السياسيين على الاقتصاص من المجرمين. وعلى خلاف الشعوب المعتدى على بلدانها، لم تعارض الدول الأجنبية رد الدول المعتدى عليها على الإرهابيين، ولكنها تحفظت عن شن الولايات المتحدة الحرب على العراق، ومهاجمة إسرائيل لبنان في 2006.