الجينات توحد اللبنانيين بالفينيقيين والعرب !
جوان فرشخ بجالي
«نحن اللبنانيون فينيقيون» تصريح كثيراً ما تبنّاه بعض اللبنانيين تأكيداً على هويتهم التاريخية أو للتمييز والتفريق بحسب الطوائف. إلاّ أن هذه اللهجة التي سادت وراجت خلال الحرب الأهلية قد شارفت على الزوال كما ستكشف دراسة يعدّها الدكتور بيار زلوعا.
فقد أدخل زلوعا، المختص في دراسة الحمض النووي والمدرس في الجامعة اللبنانية ـــــ الأميركية ومدير قسم الشرق الأوسط في المشروع الجينوغرافي) Genographic Project)، تاريخ الشعب اللبناني جينياً ضمن مشروع مؤسسة «ناشيونال جيوغرافيك» الذي يهدف إلى دراسة حركة هجرة الشعوب تاريخياً. وقد تمكّن خلال السنوات الخمس الماضية من تحديد جينة (عنصر الوراثة) تميّز شعب ساحل بلاد المشرق العربي (الساحل السوري ـــــ اللبناني وشمال فلسطين) يطلق عليها علمياً اسم الـJ2 وهي لا تختلف عن جينات أهالي آسيا الوسطى والجزيرة العربية، ولكنها تتركز على الساحل وفي محيط المتوسط وتتداخل فيها جينات عديدة أخرى ــــــ ما يشرح تزاوج الشعوب بعضها ببعض ــــــ وما أعطاها غنى ثقافياً من دون أن تختفي.
الدكتور زلوعاويؤكد الدكتور زلوعا الذي أتمّ دراسته على أكثر من 900 عيّنة دم أُخذت من كامل المناطق اللبنانية ومن كلّ الطوائف أن «القواسم المشتركة جينياً بين اللبنانيين هي أكثر من تلك التي تفرّقهم». يقول «جينياً أي علمياً: يستحيل تقسيم الشعب اللبناني. فـ 99 % من أبنائه يحملون جينة J2 التي وصل حاملوها إلى هذه البقعة من العالم قبل نحو 10 آلاف سنة، أي مع بداية عصر التحضر (الانتقال من حالة الترحال الى حالة الإقامة). وسكنوا هذه الارض وأنشأوا قراهم ثم مدنهم، وهاجر بعضهم إلى أماكن أخرى من حوض المتوسط حيث بنى مستوطنات وخلّف هناك آثاره وجيناته. فالجين J2 موجود في كلّ المدن التي استخدمها الفينيقيون في حوض المتوسط من قرطاج إلى صقليّة ومالطة... والتي يعود تاريخ وجودها في تلك المنطقة إلى 2000 قبل الميلاد».
تحرّك الجينات يحدّد تاريخياً أيضاً. وكان الدكتور زلوعا أخذ عينات من سكان تلك المدن لدراستها، مما دفعه الى استنتاجاته التي تنهي نقاشاً سياسياً كثيراً ما ميّز بين الفينيقيين والكنعانيين. الأخيرتان، هما في مطلق الأحوال مجرد تسميتين يطلقهما علماء الآثار والمؤرخون للتمييز بين الفترات التاريخية، لكنهما استُخدمتا لأغراض سياسية خلال الحرب الأهلية للتفرقة بين المسلمين والمسيحيين. فقد رأى البعض أن المسيحيين ينحدرون من الفنيقيين أما المسلمون فأصلهم كنعاني وحاول علماء الآثار خلال السنوات الماضية إظهار عدم صحة هذه المقولات، وجاء استنتاج زلوعا ليعطيهم «دعماً قاطعاً فـ«ما من اختلاف بين سكان الحقبتين، وجيناتهم بقيت هي نفسها، تغيرت فقط الحقب التاريخية بحسب اكتشافات المعادن (من البرونز إلى الحديد) أو بحسب الحروب.
لكنّ هذا الاكتشاف لم يغيّر في السلوك الحذر الذي يتعامل فيه علماء الآثار في لبنان مع مشروع الدكتور زلوعا، إلى حدّ يصل إلى عدم تزويده بعظام قديمة مكتشفة خلال الحفريات يمكن استخراج حمضها النووي لمساعدته في عمله لذا يعمل الدكتور زلوعا على الحمض النووي المستخرج من الأفراد وليس من الرفات. ومن المفيد التذكير أن تخوّف العلماء له أسبابه، إذ استُخدمت هذه الدراسات سابقاً في تحديد هوية الشعوب عرقياً، تماماً كما حاول النازيون أن يؤكدوا بأنهم من العرق الآري، أو كما يحاول الإسرائيليون اليوم التأكيد على أنهم «عرق فريد من نوعه».
وتجدر الإشارة إلى أن الجينة التي يدرسها الدكتور زلوعا لا يُعثر عليها إلا في الحمض النووي المستخلص من الذكور. فهذا «الخط» من السلالة يتنقّل في الورثة الذكور فقط. ولكن، جينة J2 لا ينفرد بها اللبنانيون. فهي تمتد شمالاً على الشاطئ السوري وجنوباً نحو شمال فلسطين. أرض مشتركة، وتاريخ مشترك، وجينة مشتركة... وهذا ما استنتجته الدراسة من خلال فحوص على عيّنات دم من المخيمات الفلسطينية وأخرى من متطوعين سوريين أبدوا اهتماماً.
من المؤكد أن رجال السياسة في لبنان سيستخدمون دراسة الدكتور زلوعا لأغراضهم الشخصية. فمن يطالب «بصهر» الشعب الذي لا يقسم جينياً سيرى فيها ملاذه، ومن يعدّ نفسه مختلفاً ثقافياً وحضارياً عن الشعب العربي سيرفضها ويصنع أعذاراً أخرى لتأكيد نظريته. فدراسة الدكتور زلوعا «توحد» النظريات حول أصل الفينيقيين: أنهم عرب وليس هناك من تمايز جيني بين الفريقين. فمن كان يقول أنه فينيقي وليس عربي، ضاعت منه مقولته، لذا فالأسئلة والاعتراضات المنتظرة ستطرح في المزايدات الكلامية في الأشهر المقبلة مع اقتراب وقت انتهاء الدراسة وتحضيرها للنشر العلمي. بالأمس كان التسييس يطال التاريخ والآثار، أما الآن، وقد بدأ علم الجينات يطرق بابه، فسيلحق التسييس التطوّر العلمي ويبدأ باستعمال المعطيات الجديدة لغناء مواويل جديدة.