آخر الأخبار

دولة الرحابنة .. أحد عشر رحبانياً وفيروز واحدة

ابن القبضاي حنا الرحابنة المحكوم عليه بالإعدام من قبل العثمانيين والفار الى انطلياس في شمال بيروت الذي سينتهي به مقام الفرار هذا صاحباً لمقهى الفوار وابنه وديع حداد الذي اختلفت الروايات حول مكان ولادته، أحدها الرواية التي تقول ان وديع حداد جاء لبنان من احدى القرى السورية الواقعة على الحدود مع تركيا...!!

هذا الابن «عاصي الرحباني» مع شقيقه منصور الرحباني وهذه الابنة نهاد حداد التي سيطلق عليها فيلمون وهبي «فيروز» بعد أن يكتشف روعة صوتها ضابط الإيقاع في موسيقا الدرك والمدارس في «الكونسوفاتوار» محمد فليفل خلال بحثه عن فتيات يريدهن منشدات في كورس للاحتفال بعيد الشجرة هذا الثلاثي سيشكل ولمدى ثلاثة أرباع القرن أركان دولة الرحابنة الفنية التي سيكون أهم أعلامها فيما بعد زياد الرحباني... هذه الدولة يوثق لها فناً وعائلة الزميل أحمد عساف في كتابه «فيروز ودولة الرحابنة» الصادر حديثاً عن دار الرائي.. ‏

إذ وضع المنجد في اللغة والأعلام اسم الفنان عاصي الرحباني الرئيس الفخري لهذه الدولة الى جانب اسماء الدول وملوكها والتي دستورها يتشكل من ثلاثة أقانيم (الله ، الأرض، الإنسان) وقانونها من ثلاثة أبواب الحرية، العدل، المساواة) وعهدها في ثلاثة خيارات (الكرامة، التضحية، العنفوان) وركائزها: الفكر والموسيقا والإبداع...!! ‏

وسر نجاح هذه الدولة سيكون في استلهام تراث وفلكلور الأرياف الشامية لإنتاج موسيقا وغناء مفارق عن الأغاني والموسيقا التي تكمن مرجعيتها في التراث الإسلامي تحديداً في مصر وحلب ومن هنا نكتشف سر هذه الهالة لـ «فيروز» تحديداً في بلاد الشام ولتصير أيقونة هذا الإقليم..!! ‏

إذ إن العناصر المميزة في صوت فيروز وملامح الأسلوب التجديدي الرحباني خرجت فجأة من القمقم منذ منتصف الخمسينيات حين بدأت تظهر الثمار الناضجة (لحناً وغناء) للأسلوب المشرقي المستمد من كل الروافد العربية عامة والمشرقية خاصة...

التجربة الفيروزية رغم تعدد أساليب الملحنين (فيلمون وهبي، زكي ناصيف، عبد الوهاب ، موسيقا موزارت...) غير أن لون الرحابنة هو المستقر في أذن المستمع العربي وذلك خلال مرحلتين في عمر هذه التجربة وألحان الأخوين رحباني ثم ألحان زياد الإبن ... ‏

المرحلة الأولى طبعها الأسلوب الرحباني الشرقي المطعم بميل للموسيقا الغربية فكان أن أنتج: هذا الميل الشديد للأغنية القصيرة والاعتماد على الرقة والشفافية والهمس في الأداء الغنائي والميل أيضاً لاستخدام الطبقات العليا من الصوت بدرجة أكبر مما كانت تستخدم في السابق بألوان الغناء العربي... ‏

في المرحلة التالية كان فيها تميزان الأول عندما كان زياد الرحباني لايزال تحت التأثير المباشر للمدرسة الرحبانية الكبيرة والمرحلة الثانية عندما خرج تماماً من دائرة التأثير هذه وإن كان بعض النقاد يتلمس خيطاً يجمع بين المرحلتين هو احساس هذا العبقري تحديداً باتجاه المقامات الشرقية الخالصة كالبيات والراست... ‏

فيروز المولودة عام 1935 غنت أيضاً وقبل ان تتعرف لعاصي الرحباني لكل من مدحت عاصم سليم الحلو ومحمد محسن وفيلمون وهبي الذي عرفها على عاصي الرحباني الأخير الذي بدأ ينتج لها الأغاني منذ العام 1951 وعلى مدى كل هذه السنوات احاطت أو احيطت بالغموض فهو يؤكد أنها مطربة وكل صلتها بالناس هي الأسطوانة منذ زواجها من عاصي عام 1954 وفي عام 1972 يصاب هذا الموسيقي بالجلطة الدماغية ليكون آخر عمل فيروزي رحباني هو قصيدة حب عام 1978 بعدها انفصلت عن الأخوين رحباني فنياً وعائلياً عام 1979 لتبدأ بعدها مرحلة زياد الرحباني متنقلة من الغناء الى الأداء...!! ‏

ثمة ميزة في هذه المرحلة، هي هذا التباين بين صوت فيروز، وكلمات زياد الرحباني، يواكبه تباين آخر بين كلمات زياد وموسيقاه، وهذا برأي النقاد ليس عيباً، بل اعتبروه بعداً من أبعاد الطرافة التي ميزت تعاون (الأم مع الابن).. ‏

مرجعية هذا العبقري وجدوا فيها ضداً للعالم الرومانسي، الذي أنشأه عاصي ومنصور الرحباني، وكان محوره مركزية «الأنا» الفردية أو الجمالية فقد وجد روائي كرشيد الضعيف مثلاً، في خروج زياد الرحباني عن المألوف الشعري، هذه الحيوية في كلماته الخالية من الادعاء الشعري، وإلى كونها «الشعر» تضع المتلقي في قلب الموضوع فوراً، وفي قلب المأزق بلا ممالأة ولامواربة، لأن ممالأة الشعب أخطر من ممالأة النظام أو السلطة.. ‏

ومن هنا سر نجاح هذه التجربة في منحاها الساطع والحياتي والمتماهي مع الحاضر الذي نعيش فيه..!! ‏

وزياد هو الابن البكر لعاصي الرحباني وفيروز، ولد في انطلياس عام 1956، قبل أن يبدع موسيقياً، أصدر (صديقي الله) وهي مجموعة شعرية، وهو في عمر أربعة عشر عاماً، وكان أول انجازاته الموسيقية هو (سألوني الناس عنك ياحبيبي) نصاً ولحناً، حينها كان في سن السابعة عشرة، وغنتها فيروز لأول مرة بعيداً عن عاصي فيما كانت أول مسرحية هي (سهرية) كما أنجز المقدمة الموسيقية لمسرحية (ميس الريم). ‏

في أواخر السبعينيات زاد نشاطه تلحيناً نحو أمه، وأدخل آلات غربية، كما أحدث خطاً غنائياً حديثاً، لأفضل مغنية رومانسية في الشرق، يغلب عليه الجاز والبلوز الشرقي.. ‏

أما كلاماً ونصاً غنائياً، فصارت فيروز تغني أقرب إلى اليومي البسيط، والحزين، والفرح، بلغة العامة من بسطاء الناس، نصوصه بكل عبثيتها وشغبها وشغفها، وبكل حضورها الجميل، عشر مسرحيات، وعشرات الألحان والأغاني لفيروز ولكل من جوزف صقر، سامي حواط، وسلمى مصفى.. و.. أخيراً خمس أغان للمطربة لطيفة.. ‏

كلها نتاج تم في طبقة ثانية تحت الأرض.. تنزل إلى الاستديو، وفي مكتبه الخاص يعلق على جدرانه الملصقات وصور تدل على انتماء زياد السياسي (الشيوعي) ـ اليساري العتيق، وصورة أمه فيروز وعبارة «vive le sociali sme» أو تحيا الاشتراكية.. ‏

في دولة الرحابنة سنقرأ في كتاب أحمد عساف عن الياس، ريما، مروان، غدي، إلهام، أسامة، غسان، و.. جاد ‏

طالما انتابني الشك في مسألة التوريث، حتى في مجال المهن اليدوية، فغالباً الذي يلتقط «الصنعة» ليس ابن النجار أو الحداد، بل «صبي» الحارة، و.. الأمر أيضاً ينطبق على الابداع، لكن رغم كل هذا الشك، فإنه لامناص من الإقرار بأن زياد الرحباني خارج دائرة الشك هذه. هذا العبقري الذي نحن على يقين أنه يستطيع أن يضع ألحاناً لنصوص الجريدة اليومية التي يتصفحها كل صباح..!! ‏