إن الهاجس الأكبر الذي يختلج صدر الإنسان منذ بدء الخليقة حتى يومنا هذا، إنما يتحدد في البحث عن الكيفية التي تضمن له تحقيق أقصى درجات الطمأنينة في النفس والمال والبنين، فضلاً عن أولئك الذين يقبعون من حوله من الأقارب والأخلاء والأقران، بيد أن هذا المخلوق الضعيف استطاع أن يدرك بذكائه الحاد أن تنفيذ هذا الهدف المرام لن يتحقق ما لم يقم - بين الفينة والأخرى - بإجراء دراسة واعية ومتأنية لحاجاته وضروريات معيشته، ومتابعة التطور الحاصل فيهما، لذا أبصرناه ومنذ القدم يعْمَد إلى الاضطلاع ببعض المحاولات البدائية الهادفة إلى إيجاد آليةٍ ما، تتيح له على أقل تقدير فرصة الدفاع عن النفس، والذود عن ممتلكاته من غوائل المعتدين والطامعين، بعد أن أمست تلكم المخاوف هي الشغل الشاغل لذرية أبي البشر آدم عليه السلام، وسرعان ما أخذ الإنسان بعين الاعتبار وجوب الإحاطة المركَّبة بتلكم المخاطر، كي يتسنى له وضع السبل الكفيلة بدفع تلك العوائق ودرئها عن محيطه ومجتمعه، ..وهذا سلوك غير شائن ولا مستهجن بالنسبة إلى شريحة العقلاء من الجنس البشري، إذ إن الإنسان بطبيعة الحال يختلف عن الأنعام من جهة أن الأخيرة تستمد مشروعية وجودها من خلال الدافع الغريزي الذي يتبدى من خلال قوة الأجساد، والسرعة في الحراك، والإقدام على الفتك، أما الإنسان فإن جدلية العلاقة بينه وبين تلكم الاعتبارات تتباين بقدرٍ يتناغم مع الفروق العقلية الكائنة بين المخلوقات والأجناس، ..فهو - وعلى أقل تقدير - يرتكز في شرعية وجوده على هذه البسيطة إلى القدرة على التعايش، والانسجام مع المحيط، والتأقلم مع ما يستجد من أمور، وإن كانت الهوة بين العاقل وغيره ممن خاصم العقل والقدرة على التفكير تقل إلى درجة تكاد تكون معدومة، وذلك في أجواء الهيمنة والتسلط الكائنة في هذا العالم، ناهيك عن تغوّل القوة المادية وجبروتها.
والأمر الملفت للانتباه في هذا الصدد، هو تنامي حجم التهديدات التي تعترض طريق الإنسان طرداً كلما تقدم الزمان، الذي يحمل في ثناياه مزيداً من التقدم التقني، والصراع على مصادر الطاقة وكنوزها، واعتماد الفكر الإمبريالي التسلطي على القوة المادية المهولة في بسط هيمنته على الشعوب المستضعفة بغض النظر عن الدين أو الجنس، وأضحت تلك الشعوب ترزح تحت نير " ابن البلد " بسبب حماقات بعض الحكام ومغامراتهم غير المحسوبة، وما أبتغي هنا قوله، هو أن الحيوان المفترس لم يعد هو التهديد الأوحد للإنسان، بل إن قضية العنف الأهوج الذي تعددت أشكاله وصنوفه هي التي يجب أن تخضع من قبل النخبة الواعية، بغرض البحث العميق، والمراجعة الدقيقة، والتقصي الذي لا يقيم وزناً لـ " جماعات الضغط " ومراكز القوى، سيما بعد أن اتخذ العنف له أشكالاً متعددة تزداد تشعباً واختصاصاً كلما تقدم بالبشرية العمر، تارةً باسم دفع الصائل، وأخرى باسم الحفاظ على خيرات الأمة..إلخ، وإذ بالإنسان الذي كان مجنياً عليه من قبل الحيوانات الضارية في يوم من الأيام، يُمْسي هو الجاني الأعظم على أخيه الإنسان بشكل أكثر عنفواناً ووحشية من الأعاصير أو حتى البراكين، وخير دليل يشهد على ذلك، ما جرى للبشرية من أهوال ورزايا في الحقبة النيرونية والهتلرية والفاشية والستالينية والسافاكية، الأمر الذي يفضي بطبيعة الحال، وبعد التسليم بذلك التوصيف، إلى أن نرقب التحول الحاصل عند أولئك الصنف من الإدارات والحكومات التي قامت في يومٍ من الأيام على تسويق أفكارها ومعتقداتها " بالحكمة والموعظة الحسنة "، وأقصد هنا الإشارة إلى " مبدأ مونرو " الذي أطلقه الرئيس الأمريكي جيمس مونرو، ...بينما هم يعتمدون منطق القوة والجبروت والإرهاب إزاء الشعوب المسحوقة، والخروج إلى ما وراء الحدود الدولية للبحث عن المصالح ومصادر الطاقة خارج الأوطان، وهو مقتضى الأخذ بـ " مبدأ ترومان "، والعلة الكامنة وراء انتهاج هذا السلوك وسيادته، تتلخص في تلك الفوضى التي تنتاب قيادات بشرية لا همَّ لها إلا القيام على إذلال الشعوب، وازدراء الثقافات، واستحمار الأمم، وإذ بتلكم السياسات تتجسد عبر نهب الخيرات، واستغلال المقدرات، وتأمين المصالح، والتسويق من أجل ثقافاتٍ، إذا ما أخذنا بها أمسينا دون مستوى الآدمية والإنسانية.
وهناك وجه آخر للحقيقة، وذلك حينما تبرز الحاجة إلى استخدام العنف من أناسٍ ينتمون إلى منطقتنا العربية والإسلامية، كانوا قد تعرضوا للاضطهاد والتعذيب على يد أنظمة لا تؤمن بالشورى، ولا بالحريات، ولا بتداول السلطات، فمارسوا القوة غير المنضبطة، وانساقوا وراء ردود الأفعال، وتساووا مع المستعمرين ووكلائهم في الوحشية والضراوة، واستهداف المدنيين الآمنين، دون أن يكون هناك ضرورة لهذا الصنيع أو حاجة، وغاب عن هؤلاء استحضار مسألة تتلخص في أن العنف قد يكون بمقدوره تحقيق بعض التقدم صوب الأهداف المرسومة، لكنه سرعان ما يتراجع ويرعوي بعد أن يكون قد انتفش وترعرع، وبعد أن يكون قد فقد مرتكزاته الأخلاقية والقيمية عند الناس كافة، ...وإن ما يحدث في أمر المراجعات التي يقدم عليها بعض رموز التيار الديني الذي كان مسئولاً عن اغتيال الرئيس المصري السابق أنور السادات لخير دليل على صدْق ما أقول؛
والأخطر من ذلك أن يتحول استخدام العنف من " تكتيك " يخدم قضيةً ما في مرحلة من المراحل، إلى استراتيجية ترافق كل مراحل التحرر والثورة وإقامة الدولة، دون الالتفاف ولو يسيراًً إلى المصالح العليا للبلاد، ثم نخوض تباعاً في دوامة من العنف والعنف المعاكس، وهو الأمر الذي لطالما أشار إليه المؤرخ " أرنولد توينبي "، حينما اعتبر أن ظاهرة الحرب إنما تزداد شراسة بالنظر إلى دخولها طور الفعل وردود الفعل، لتكون كل جولة من الجولات أكثر عنفاً ووحشية من سابقتها،أ.هـ،...
إننا إذا ما تأملنا ملياً في المسوغات التي يستند إليها دعاة العنف في أوطاننا حيال مجابهة ما يعترض طريقهم من عراقيل ومعوقات، فإننا نرى حتماً أنها لا تربو عن كونها مسوغاتٍ ومبررات لا تتمتع بقدر كبير من العقلانية أو حسن التقدير والعاقبة، بل يجوز أن ننعتها على أنها في غالب الأحيان عبارة عن خليط من قصر الباع في العلم، وقصور في الفهم، ورقة في العقل، وخفة في المنطق، واجتهادات لا تتجاوز حدود " الشقة " كما يقال، ناهيك عن جملة من الانفعالات التي يتم تحريرها من كوابح النفس الإنسانية المكبوتة على شكل قوة لفظية، أو سلوك غير سوي، أو تطرف في الفكر والاعتقاد، ...والعنف في هذه الحالة إنما يعبر عن ضعف القدرة على الحوار، وعدم الإيمان بالمشاركة في الواجبات والحقوق، علاوةً على أنه يستبطن في داخله معنى الإكراه، وإلغاء الآخر، ورفض التعددية، والرغبة في تأدية دور الوصاية على المخالف له في كل أمر، وهو فعلٌ يكرس - في الأخير - أجواء تتسم بكونها مجافية للحرية، وتدفع باتجاه قهر الآخرين، وسلب حقوقهم المادية والاعتبارية، والإمعان في شلّ قدرة الناس على التفكير، وإماطة الإبداع وحسن السلوك بعيداً عن حساباتنا وأولوياتنا، والانقلاب على خيارات شعبية كانت قد حُسِمت عن طريق صناديق الاقتراع، ...وإنما يحدث ذلك لأن الاعتقاد في جدوى استعمال القوة الغاشمة التي تكون على غير بصيرةٍ مسألة لا حيدة عنها ضد أهدافٍ وهمية، من شأنه أن يحد من دور العقل والمنطق في التصدي لحل قضايانا الداخلية ومعضلاتنا المركبة، فالعنف إذا ما ساد، فإن من شأن ذلك أن يبطل بالضرورة لغة العقل، ويهمِّش حتماً القدرة على التقدم والازدهار، ويزيد من فرص سيطرة الأجنبي على البلاد.
إن المتأمل في واقعنا المعاصر يستشعر أن الأحداث التي تدور رحاها على أرض العروبة والإسلام، قد حفلت بكثير من المستجدات المتسارعة التي تومئ بين الفينة والأخرى إلى وجود قسطٍ غير يسير من التشوش والالتباس لدى ثلة من المهتمين والدارسين، الأمر الذي قد يتسبب في بروز مفاهيم وتصورات يمكن نعتها بصفتَيْ الاضطراب والإهتراء، هذا إن لم يصل الوصف بنا إلى درجة الحديث عن غياب الفكر المستنير، وتجافي العمل الخبروي التكنوقراطي، ناهيك عن إلحاق طابع الضبابية بكل ما يصدر عنا من قيم كانت يوماً تتحلى بمسحةٍ عالية من الدراية والفهم والاستقراء، وجرى سوق الأحداث صوْب مزيد من التوتر والاحتقان، الذي سرعان ما يعبر عنه البعض من خلال افتعال وقائع ومعضلات تتسم بالغوغائية والعفوية، اللتين ما نتجتا إلا من الكبت الحاصل في النفوس التي عاشت طوالاً في مناخات تسيطر عليها سمات الحرمان وملامح القهر وإمارات الاستبداد، والمركزية في الحكم، وهذا بطبيعة الحال يدفع بنا لا محالة إلى قدرٍ محتوم نغرق في غضونه حتى الثمالة دون أدنى ريبٍ أو شك، ...وينتهي المشهد من بعد ذلك بتشنجات تودي بنا يقيناً إلى حرب أهلية لا ناقة لنا فيها ولا جمل، عمادها الانتفاض والانفعال والتشنج ولي عنق الحريات، والتفريط في حقوق الإنسان الأساسية، ناهيك عن التفصيلية منها، فضلاً عن غياب لغة الحوار عن السطح، ...أما عبارات التكفير والتخوين بحق كل من يخالف وكل من يعارض، فسرعان ما تطفو على السطح حتى بين أبناء الحركة الواحدة، ...وما إن تجيء حركة إلى سدة الحكم حتى تعيب في سابقتها، وإذا ما أخطأت في أمرٍ، أو انتهكت حرماتٍ، أو أراقت دماء ما كان لها أن تُراق، أو قامت بعمليات هروب إلى الأمام، استدعت من تاريخنا ما يثبت أن الجنس البشري غير معصوم، وأن " خير الخطائين التوابون ".
إن مصطلح اللاعنف بات في أذهان الكثيرين باعتباره غير قابل للاستساغة أو التمرير، أو حتى مجرد القبول بجعله مادة للحوار، سيما في أعقاب تصويره على أنه رديف للمهادنة والتراجع والتسليم بالأمر الواقع، في اللحظة التي يرى فيها دعاة الحرب والعنف أن طريقتهم ونهجهم المدفوع بالعُنجهية وجبروت القوة الآنية، هو الأقدر على حل الإشكاليات والأزمات التي تنتصب أمام الأمة في طريقها نحو الخلاص والنهضة والتقدم، وما علم أولئك أن الإنسان الثوري يمكن أن يتفوه بكلمة " نعم " في أوج عنفوانه، دون أن يتعارض ذلك مع ثوريته، ورفضه لمعطيات الواقع المرير الذي نحياه، وإن الإنهزامي قد يحرك لسانه بكلمة " لا " أمام الخلائق كلها، بينما هو غارق في التآمر وعقد الصفقات المشبوهة مع من هم على غير طريقتنا، دون أن يأخذ رأي أحدٍ من أبناء هذه الأمة المغلوبة على أمرها، ...لكن السؤال الذي يقفز عنوةً إلى السطح هو:
لماذا لم يتمكن العنف داخل مجتمعاتنا من تحقيق أهدافنا وآمالنا، على الرغم من كونه أسلوباً قديماً قِدَم ابني آدم هابيل وقابيل على الأرض ؟؟!!
إن السبب في ذلك يرجع إلى أننا لم نقرأ بعدُ التاريخ جيداً، كما لم نكن على اتصال دائب مع فلسفات وموروثات ما فتئت تحض المجتمعات على حل مشاكلها بطريقة تتصف بالحكمة والروية وطول النفس ما يكفي للوصول إلى الهدف المنشود، ولو أننا استبصرنا ملياً في حال القيادات التحررية التي لم تؤتَ حظاً وفيراً من الثقافة والحضارة، كيف أنها ألْفَت نفسها مدفوعة بإتجاه تسويغ العمل على طريقةٍ تتناقض تماماً مع اختطه عقلاء الأمة الذين ساروا على طريق الفكاك من قيد الاستعمار الغاشم في حينه كان آخرها ما حدث في نهاية السبعينيات من القرن المنصرم، والذي أثبت بالدليل القاطع أن الإمبراطوريات مهما عظمت في قوتها، ومهما اشرأب مجدها، ومهما صلب عودها من جراء الدعم الأجنبي، فإنها لا تصمد أمام العلماء العظام الذين آثروا العلم على الجهل، والعمل على القعود، والاجتهاد على التقليد، والعصيان المدني على العنف غير المبرر، وهو الإنجاز الذي لم يكن له أن يتأتى إلا بعد أن شرع أهل العلم والدراية على بسط المحددات الأساسية التي يعوَّل عليها في فهم التراث الديني أمام الناس، ليخلصوه من مظاهر العنف ونفي الآخر، سواءً كان ذلك داخل دائرة أهل القبلة أو خارجها، والنأي بالناس عن التأثر باسقاطاته وتحمل إرث القرون الماضية دون ذنبٍ منا ومن مخالفينا.
إن ما يهمنا هنا في هذا السياق هو أن معظم الإسلاميين كانوا قد توصلوا إلى نتيجة مفادها أن العدو الأوحد لهم في بلاد كانت تسمى قديماً بـ " دار الإسلام "، هو الاستعمار الرابض على ترابهم الوطني، ما يعني تأثير هذا الاستنتاج على قمة جدول أعمالهم، وذلك بغية الحصول إلى حالةٍ عنوانها التحرر والاستقلال، وهو طريق زاخر - بطبيعة الحال - بالتضحيات، علاوةً على أنه خيار فرض نفسه على المعنيين بقوة، ...وقد أكون متفهماً لما كان يجري في حينه، إلا أن ما لا يمكن تبريره أو استساغته هو أن بعضاً من الاسلاميين لم يكن بمقدورهم النأي بالنفس عن الانجرار إلى معارك ومستنقعات تحت شعار مقاومة ما أسموه بـ " قوى البغي والاستبداد "، مع إقراري بأنه وفي حمئة هذا الصراع، لم يلقَ الإسلاميون صعوبة في إقناع الآخرين بلزوم المحاجفة عن الديار المستباحة والخيرات المنهوبة مهما كلَّف ذلك من رجالٍ ومقدرات؛
وكيما لا تختلط الأمور على الأخ القارئ، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن قناعاتنا ذات الصلة بمدرسة اللاعنف لا تعني بالضرورة خلع صفة الشرعية عن أولئك الذين ينذرون أنفسهم للمحاجفة عن ديار العروبة المستباحة، وأنا هنا لستُ - والعياذ بالله - بصدد التشكيك في شرعية مقاومة الاحتلال أو تقويض أركانه، بل من أجل أن نتحمل التبعات المتراكمة حيال اعتماد فلسفة النقد الذاتي، ومحاسبة النفس، والعمل على ترتيب أوراقنا من جديد، والتخلي قدر الاستطاعة عن النرجسية التي تعتمر مسلكياتنا من حين لآخر، فهذا عندي خير من خسران الأرواح، وفقدان الأوطان، وهبوط المعنويات من أجل زعيم مستبد، أو حاكم غير مجرب أو محنك، أو الانسياق خلف حركات " مقاتلة " ترتهن بالحسابات الإقليمية المشبوهة، أو الدولية الناهبة لخيراتنا ومقدراتنا، لتستبد بنا من بعد ذلك حالة القنوط والتخبط، لتجعلنا ممن يهوون دفن الرأس في التراب، والهرولة إلى إعلان حرب دعائية جبارة لكنها تفتقد إلى الواقعية، والمحاكم الإسلامية في الصومال خير دليل على ذلك، حيث إنهم أعلنوا الحرب على أثيوبيا، ومَنْ وراء أثيوبيا، وما إن تدفقت الجيوش الأثيوبية في الصومال، حتى تلاشت قوى المقاومة وتبخرت، ولكن في أقل من عشية وضحاها، ..وهذا يعني حتماً بأن هؤلاء النفر الذين لم يصمدوا سوى سويعات أو أقل من ذلك بكثير، كانوا يغردون خارج السرب، ولا يعرفون مدخل سوق عكاظ من مخرجه، بل وليس مستغرباً أن نتفاجأ يوماً بفلول المستعمرين وهم يطرقون علينا أبواب عواصم دولنا - إن لم يكن غرف نومنا - التي استعصت من قبلُ على التتار، ليعلنوها حرباً " صليبية " من أجل تنفيذ أطماعهم، وتمرير مخططاتهم، والحفاظ على مصالحهم، وضمان رفاهية شعوبهم وأوطانهم، ..ومع هذا وذاك فإن مثل هذا النهج ليس هو الحل الأمثل على طريق التحرير والخلاص، سيما إذا ما كانت المعركة مع حكامٍ من أبناء جلدتنا، الذي يُقْدمون أحياناً على جر العديد من الجماعات المعارضة إلى استخدام العنف، وجعله وسيلةً لإضفاء غطاء يسمح للدولة باستئصالهم واجتثاثهم.
إن القول بجدوى استخدام القوة المادية ضد الغازين من باب الدفاع عن الحق، هو قول ليس فيه أي مجانبة للحقيقة، لكن الإشكال الكبير يتمثل في ما يثار حول هذه النقطة من قيامٍ لطرف من الأطراف بتجاوز حدود استخدام العنف، أو قل إن شئت " القوة المادية "، فيجر المنطقة إلى أتون يحيل فيها المنطقة إلى قطعة من الجحيم، وينتهي الأمر من بعد طرد المستعمرين أو من قبله، إلى إشعال فتيل الحرب الأهلية، حارقة الأخضر واليابس بين أبناء الشعب الواحد، ولقد رأينا كيف أن حمل الناس على تقديس شخص ما، أو الارتهان إلى وعودٍ أسرَّها لنا الظلمة وأعوانهم، فضلاً عن استخدام العنف غير المبرر في التوقيت والمكان غير المناسبين، من شأنه أن يؤدي إلى تأصيل العنف في نفوس أبناء المجتمع الواحد، أو قد يفضي في النهاية إلى خذلان هذا الحاكم، والإقدام على خيانته، وبيع " عاصمته " بأبخس الأثمان، هذا في الوقت الذي لم يعد بمقدورنا ايجاد ضمانات أو ضوابط تحوز الملكة على الحد من هذه الآفة المستشرية في شعوبٍ ما فتئت ترزح تحت نير أنظمة، تتخذ من القهر والاستبداد السياسي شعاراً لها.
إنه يتعين علينا عدم الخلط بين الجهاد الإسلامي من ناحية، وبين ممارسة القوة المادية غير المنضبطة بالحكمة، ولا المحكومة بالرشاد من ناحية أخرى، فالجهاد لا يكون جهاداً إلا إذا قُصد به تحرير الأوطان لا تحقيق المصالح الحزبية، أو إرضاء لرغبة جامحة في الجاه والسلطان وحب السيطرة واكتناز الأموال، هذه مسألة، أما الآخرة فإن إعلان الجهاد المقدس في الزمان والمكان غير المناسبين يحيل الجهاد المقدس من جهاد إسلامي بمعناه السديد، إلى عنفٍ ممجوجٍ وعشوائي لا معنى له، ولا يخسر فيه إلا الأغرار والضعفاء، ..بينما هذا الصنيع يرسخ من سياسات التفريق والتفسيخ بين أبناء الوطن الواحد، والدخول في حروب أهلية لا يمكن أن ننعتها بأنها تجيئ على قاعدة الذود عن الديار، أو دفع الصائل، زد على ذلك عدم قدرتنا على تسجيل ذلك باعتباره إنجازاً رائداً، ليس على صفحات التاريخ حاشا تدوينه وتسطيره بماء من ذهب، لأن الإنجاز الأكبر هو الحفاظ على اللحمة الوطنية، وتوثيق القواسم المشتركة، وتوحيد الصف، وتمتين الجبهة الداخلية، وإلتفاف شرائح المجتمع حول تحديات مشتركة، فهذا أولى عندي ألف مرة من معارك لا تضر عدواً بالقدر الذي تستفز به صديقاً، ولا تغطي ظهراً بالقدر الذي تكشف فيه للعدو الظهور والبطون وسواهما، ...كما أن إغفال التوازنات الدولية أو موازين القوى بدعوى من الدعاوى، إنما هو حماقة يرتكبها مغامرٌ ما، فلا يدري حينها أيجاهد هو، أم يجر المنطقة بأكملها إلى محرقة ترتد إلى الوراء لتأكل الأخضر واليابس، ولعل هذا " القائد " قد غفل أن الجهاد ضد المحتلين أمر لا يختلف على مشروعيته اثنان، بيد أن الخلاف يتمركز حول التوقيت والوسيلة، ولون الراية المحمولة، وطبيعة التحزب والولاءات، ومبلغ العزم في الأخذ بالأسباب، والتوكل على البارئ عز وجل، وإلا سيتحول كل شيء إلى دائرة من العنف والعنف المضاد.
إن الذين يمارسون الحق الشرعي في مقاومة الاحتلال، مستخدمين في ذلك شتى صنوف العنف في سبيل ثنيه عن احتلال بلادنا، قد انصهروا - في معظمهم - في معادلة " ردود الأفعال "، متجاوزين غالباً الحدود المفروض عليهم مراعاتها، لدرجة أنهم باتوا لا يملكون رؤى أو آليات واضحة أو مستنيرة، حول قضايا المجتمع المدني والأهلي واحتياجاته، ولم يعودوا يفرقون بين مرحلة التحرير ومرحلة البناء، ..بين المقاومة المنضبطة وبين العنف الأهوج، ..بين أن يتخذ المقاومُ الجهادَ وسيلةً لاستدرار مرضاة الله، وبين اتخاذها مطيةً لجباية الأموال وشراء العقارات والسطو على مقررات الحركة والتنظيم بذريعة " بدل نهاية الخدمة "، ...ومع إقراري بأن تحرير الأرض معركة شريفة، لكن المعركة الأكثر شرفاً وأعظم تحدياً بعد " دفع الصائل " وقبله، هي معركة بناء الإنسان، والمحاجفة عن كرامته وإنسانيته، وتحسين أوضاعه المعيشية، وتحكيم نظام العدل الذي أُمرنا بتطبيقه، وإقامة دولة الحق في قلوبنا وعوائلنا ومجتمعاتنا، فضلاً عن النهوض بالأعباء التي تمليها علينا استحقاقات المدنية والحضارة.
وفي الختام أقول: إنه لا أحد ينكر على التيارات الوطنية والإسلامية قدرتها المتنامية على حشد طاقات الأمة وامكاناتها، بغية تطهير البلاد من دنس المحتلين، لأن هذا حق مكفول لا ريبة فيه، كفله لهما شرعة السماء أولاً، ثم الشرعية الدولية من بعد ذلك، ومع ذلك فإنه يجب أن يكون واضحاً لدى الجميع أن التحدي الأكثر مصيرية للشعوب المسحوقة يتحدد من خلال التركيز على عناصر الداخل، والعمل على تشكيل الذات تشكيلاً حضارياً ومعرفياً، والسعي قدماً نحو إجهاض كل المحاولات الرامية إلى إبقائنا خارج المسرح السياسي الدولي، لنعيش من جراء ذلك في مستنقع من الجهالة والخمول والتفكك، والوقوع أسرى لإملاءات الماضي وإفرازاته من فتن أخذت الطابع الطائفي والمذهبي، وما علينا حاشا الكف عن الإلقاء باللائمة على أطراف خارجية، التي إنْ كان لها أي دورٍ في مآسينا ومصائبنا، فإنه لن يعدو عن كونه دوراً ثانوياً وهامشياً، بالمقارنة مع حجم التبعات الملقاة على عاتقنا، ومع هذا وذاك، فإنه لحريٌ بنا عدم التغاضي عن ذكر المشاريع النهضوية التي حملت راية الإصلاح، وخاضت معارك شرسة في سبيل معالجة مظاهر الإخفاق والتهاوي المستشري في أعماق مجتمعاتنا العربية والإسلامية، والسعي باتجاه اجتثاث جذور المعضلة من داخل ذواتنا، لكن الفلاح - وللأسف الشديد - لم يحالف تلك المشاريع الإصلاحية المتمثلة في مناهضة الاستبداد، والمناداة باحترام الدستور، وفصل السلطات، وإطلاق الحريات، والسبب في فشل هذه الدعوات يرجع إما إلى الافتقار في الوضوح للرؤية، أو العوز في تحقيق الشمولية في المشاريع المطروحة، وإما في الاستقواء بدعائم المشروع الغربي، دون مراعاة للثقافات المحلية، أو المعتقدات الموروثة، ...فضلاً عن الولوج في معارك جانبية كانت بمثابة أُلْهية يتلهى بها بعض الوازنين والمتنفذين من أولئك القاطنين بين أظهرنا بعيداً عن معاركنا الحقيقية التي ينبغي علينا التواجد في ساحاتها، والأهم من ذلك كله غياب المرجعيات الدينية التي تقوم مقام النبي في الأمة، والتي يجب ألا تستثنى من عملية الإسهام في عملية التغيير، علاوة على السماح باللعب على وتر الخلافات الشخصية والطائفية والمذهبية، دون أن نحرك ساكناً، وكأن الأمر لا يعنينا من قريب أو من بعيد.