آخر الأخبار

أمريكا..وعلاقتها بنظم الحكم الفردية

. فالولايات المتحدة حافظت علي النهج السياسي البرجماتي في مجمل علاقاتها بالمنطقة منذ بداية تدخلها في الشأن الدولي سواء في فترة ما بين الحربين العالميتين أو في أعقاب الحرب العالمية الثانية وما أفرزته من نظام دولي ثنائي القطبية، وحتي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي فطالما ظلت المصالح الأمريكية مؤمنة، وأمن إسرائيل محقق، فقد ظلت العلاقة الأمريكية بالنخب العربية الحاكمة واضحة جلية من حيث منطلقاتها وأهدافها، ومن ثم مواقفها التي ارتكزت علي دعم وتأييد شبه مطلق من الإدارات الأمريكية المتعاقبة لأنظمة حكم عربية ذات ولاءات خاصة للسياسات الكونية الأمريكية، درج علي تسميتها بالأنظمة المعتدلة، بغض النظر عن طبيعتها الفاسدة أو المستبدة، ومعاداة خفية وعلنية ضاغطة علي نظم راديكالية تراها أمريكا معوقة للأهداف الأمريكية في المنطقة. أما أنظمة الحكم العربية عشية الحادي عشر من سبتمبر ومهما اختلفت طبيعتها الهيكلية سواء أنظمة ملكية أوتوقراطية، أو جمهوريات ملكية، ومهما تباينت المعطيات المكسبة للشرعية لدي كل منها، ومهما اختلفت طبيعة ا التي تحتكر الحكم بها، فقد لجأت جميعها إلي أساليب عديدة لملء فراغ شرعيتها الشعبية عبر انتهاج سياسة شبه موحدة في علاقاتها مع الولايات المتحدة التي رأت فيها المصدر الرئيسي للشرعية الذي يجب الركون إليه للبقاء في سلطة، وأهم هذه الوسائل:
­ اثارة مخاوف الولايات المتحدة من أي منافسين علي السلطة، وتصوير معارضيهم بأنهم إما سلفيين من دعاة الإرهاب وإما قوميين ساعين لضرب المصالح الأمريكية في المنطقة.
­ صبغ دورهم في حكم الاقليم الذي ينتمون إليه، بصبغة وظيفية في مؤسسة الحكم الأمريكية للعالم، كمستشارين معنيين بتحقيق الصالح الأمريكي الكوني في مقابل بقائهم في سدة الحكم في اقاليمهم، وأن يتحقق المراد أمريكيا في المنطقة عبر بوابتهم أو بمشورتهم من منطلق أن (أهل مكة أدري بشعابها).
­ القبول بالنصائح الأمريكية في تحقيق انفراجة سياسية واقتصادية في البلدان التي يحكمونها، وذلك لتدعيم موقف الإدارات المختلفة أمام المؤسسات التشريعية الأمريكية حتي ولو كانت تلك الانفراجات محدودة أو حتي فاسدة تكرس للنقيض من الهدف الذي وجدت من أجله.
­ تنفيذ أقصي درجات التعاون الاستخباري والأمني والذي يصب في مجمله لصالح الأهداف الأمريكية مع الاستفادة منه عند أي تهديد يمكن أن تواجهه السلطة العربية الحاكمة.
­ الاجماع المؤسسي العربي علي انهاء الصراع العربي الاسرائيلي فعليا بدعم كافة خطوات التطبيع السري والعلني مع الدولة اليهودية،. والسعي لتحقيق مصالحة سياسية تاريخية معها، ومحاولة وأد أي مغامرة لإثارة ولو قلاقل محدودة معها.
­ ربط السياسات العربية علي الصعيد الدولي مع التوجهات السياسية الأمريكية، ودعم المواقف الأمريكية في المحافل الدولية المختلفة حتي وإن كانت موجهة ضد أقطار عربية تراها الولايات المتحدة خارجة عن النسق العام.
هذا النهج الذي ارتضاه الطرفان علي مدار عقود طويلة سرعان ما بدا للوهلة الأولي أن تحولا جذريا قد اعتراه بعد حادث الحادي عشر من سبتمبر، وذلك عبر المسلك الأمريكي الرافض لأي استنتاجات عربية يتم تقديمها للحادث وإعلانها عن ضرورة تبني الموقف الأمريكي مما يعرف بالحرب علي الإرهاب وتنظيم القاعدة كما هو، دون تقديم أي مبررات أو أسانيد أو مسوغات لتبرير الرؤية الأمريكية، كذلك بدا الموقف من الحرب علي العراق والذي اختلف الوضع جذريا فيه بين زيارة كولين باول وزير الخارجية السابق للمنطقة بعد تشكيل هيئة إدارة بوش الأولي، والتي استمع فيها من الحكام العرب عن مبررات الرفض العربي لغزو العراق والذي كان أولوية هامة في أُندة بوش الابن، وبين موقف هؤلاء الحكام أنفسهم بعد حادث نيويورك، حيث تحولوا إلي منفذين للأوامر بل إن بعضهم قد تطوع بمحاولة تضييق الهوة بين أمريكا وحلفائها الغربيين المعارضين للحرب، بزيارة فرنسا وألمانيا وتدعيم الموقف الأمريكي.
كما تحولت لغة الخطاب الأمريكي إلي طرح حقيقة جديدة تمثلت في أن مبدأ الاستقرار الإقليمي كمبرر للحفاظ علي أنظمة قمعية قد أثبتت أحداث الحادي عشر من سبتمبر ضرورة مراجعته، فهذه السياسة كلفت أمن الولايات المتحدة بطريقة لم تكن الحسابات الاستراتيجية التقليدية تتوقعها.
ويمكن تحديد أهم معالم الخلاف بين النخب السياسية العربية الحاكمة والإدارة اليمينية في واشنطن في الآتي:
(1)
حمٌîلت أمريكا سياسات الأنظمة العربية الحاكمة المسئولية المباشرة للعنف الذي يسود المنطقة والعالم، ومن ثم جردتها بصورة عقابية من موقعها الوظيفي الاستشاري في المنظومة الكونية الأمريكية، مع القبول ولو مؤقتا ببقائها ولكن كمجرد جندي تابع للقيادة الأمريكية، لا يسمح له بمناقشة الأوامر خاصة في زمن الحرب، الأمر الذي جعل أمريكا تعبث بيدها مباشرة في أحشاء هذه المنطقة دون دراية كاملة بمعالمها ووفق منهجية الفوضي المثمرة التي ينتهجها أقطاب اليمين في الإدارة الأمريكية خلال فترة رئاسة بوش الثانية، مما أزعج بشدة الأنظمة الحاكمة، والتي تحذر صارخة من امكانية أن يثمر ذلك عن العصف بها جماهيريا، دون إرادة أمريكية، بما يعود بالسلب علي الطرفين.
(2)
الأنظمة العربية مازالت غير مدركة لطبيعة التحول الحادث في العلاقات بينها وبين أمريكا بصفتها مصدر الشرعية لها، ومن ثم تتخبط بصورة غير مسبوقة، ويعتري سلوكها اهتزاز كبير مصدره عدم التوازن النفسي جراء تجريدها من وظيفتها، لا تدري بالفعل ماذا تفعل حتي تكسب الرضا الأمريكي عبر المهام الوظيفية الجديدة لها والتي لم تحترم أمريكا فيها تاريخ هذه الأنظمة في خدمة المشروعات السياسية الأمريكية في العالم وعلي مر العصور.
(3)
علي الرغم من الكم الهائل من التنازلات التي قدمتها النخب السياسية العربية الحاكمة علي كافة الأصعدة الوطنية والتي كانت توطيد العلاقات المصرية ­ الإسرائيلية وما أعلنه وزير خارجية السودان مؤخرا من قيام بلاده بدور مخابراتي في دول الجوار لصالح أمريكا، وما قدمته سوريا من دعم ضخم، أقله اللوجستي في الحرب علي ما يسمي الإرهاب وما قبلت به دول الخليج من ادخال تعديلات جوهرية في المناهج التعليمية وفقا للرؤية الأمريكية، وتوطيد مغاربي مكثف للعلاقات مع الكيان الصهيوني، كل ذلك لم يكن سوي جزء ضئيل من تضحيات أقدمت عليها تلك النظم بصدر رحب، ولكن المشكل بات في عدم قدرتها علي رؤية حد لهذه التنازلات، ولا تري أي تثمين لكل ذلك لدي الإدارة الأمريكية التي مازالت تمارس الضغوط الخانقة عليها.
(4)
لم يعد مقبولا علي ما يبدو لدي الإدارة الأمريكية استمرار سياسة النفاق التي تنتهجها النظم السياسية في تعاملها مع القضايا المحورية بالمنطقة، فالإعلان علي سبيل المثال عن ضرورة عودة القدس للسيادة العربية في أي حل للمشكل الفلسطيني هو نوع من دغدغة المشاعر الجماهيرية وادعاء مواقف وطنية، لا تنسجم مع مفاوضات الغرف المغلقة التي تركز علي السيادة علي المسجد الأقصي، كما أن الحديث عن المقاومة المشروعة علي الملأ يتعارض مع قيام الأجهزة الاستخبارية بتعذيب واستجواب عناصر هذه المقاومة لحساب الجيش الأمريكي فقد أدركت أمريكا أن رفع رايات للوطنية لا يمكنها أن ترفرف، من شأنه خلق جيل يائس لا يكون من سبيل أمامه سوي العنف.. غير أن قبول الأنظمة الحاكمة لهذا الأمر جردها من ورقة التوت التي تداري بها سوءتها أمام شعوبها، ومن ثم باتت شرعية وجودها علي المحك.
(5)
رغم حالة التضامن النسبي فيما بين الأنظمة العربية بعضها البعض، لتحقيق التنسيق المتبادل لإنجاز المهمة الوظيفية لدي رب العمل الأمريكي في فترة ما قبل الحادي عشر من سبتمبر، إلا أن حالة الفزع والهرولة التي رافقت تكشير أمريكا عن أنيابها دفعت البعض إلي الخروج عن النسق وتقديم تنازلات متقدمة قد تضر بصورة مباشرة بمصالح الحلفاء العرب، ومثال ذلك الإعلان عن قناة البحر الميت وما يمكن أن تؤثر به علي الأهمية الحيوية لقناة السويس، وكذلك موقف دول الخليج من عقد اتفاقات تجارية ثنائية مع الولايات المتحدة علي عكس ما هو متفق عليه في مجلس التعاون الخليجي الأمر الذي بات يمثل عامل ضغط آخر علي الأنظمة، التي لم تعد لديها ثقة في أي حلفاء.
(6)
رغم قناعة الأنظمة العربية الاستبدادية بأن الهدف الأمريكي الحالي ليس التأثير علي توجهها الكلي، وإنما مجرد تجميل توجهاتها السياسية وتخفيف حدة التوتر داخلها في إطار التحرك الإصلاحي الآمن، إلا أن تلك النظم والتي تحولت علي مدار تاريخها لنظم عائلية متشابكة المصالح بصورة في غاية التعقيد وعلي نمط عائلات المافيا، لم تعد تسمح لها ثقافتها ببعديها الاستبدادي والفاسد القبول أو التعامل مع أي تعديلات ولو محدودة في بنائها السياسي تفقدها ولو البسيط من هيمنتها، الأمر الذي يحتم عليها في النهاية المواجهة مع الشارع الرافض لتعديلات إصلاحية لا تشمل الجوهر.
وهكذا وببساطة شديدة تقف الأنظمة العربية محاصرة في الزاوية بين مطرقة جماهير تناجي الحرية والسيادة الوطنية، وبين سندان أمريكي يدعي السعي لحصد النبت الشيطاني الفاسد والمستبد باعتباره المثمر للعنف المر القاتل،