وضع المفوض السامي الفرنسي, المسيو بونسو, كل ثقله في انتخابات 1932 لكي تكون أغلبية النواب المنتخبين من المتعاونين مع سلطات الانتداب, أو الساكتين عن ألاعيبها على الأقل,
ومع هذا لم يتمكن من ايصال أكثر من ثلاثين من هؤلاء إلى مقاعد النيابة, وحاول التعويض عن ذلك في تشكيل الحكومة حيث فرض رئيساً لها من أزلامه ( الشيخ تاج الدين الحسني) وتمكن من إدخال وزيرين من المتعاونين مع السلطة فيها!
والتف على مطالب رجال الكتلة الوطنية بأن طرح على المجلس مشروع معاهدة بين فرنسا وسورية تتضمن نوعاً من (الاستعمار المبطن) (1), ولكن النواب تشاوروا واتفقوا على رفضها في أول جلسة رسمية يعقدها المجلس.
وعندما بلغ المفوض السامي هذا الاتجاه قرر حل المجلس والتفاوض مع الحكومة حصراً في مشروع المعاهدة, ولما انعقد المجلس تقدم المندوب السامي وبيده قرار حل المجلس لقراءته فتصدى له السيد جميل مردم وآخرّه عن المنصة ريثما صعد عضو آخر من النواب الوطنيين, وأخذ الإذن من رئيس المجلس بالكلام ثم تلا نص قرار بالأغلبية ويفيد رفض مشروع المعاهدة المقترحة.
وقد أثر هذا الموقف على وضع المفوض السامي فقامت الحكومة الفرنسية باستدعائه وتعيين مفوض جديد وهو (الكونت داميان ده مارتيل) في أواسط عام .1933
وحاول المفوض السامي الجديد إقناع الرأي العام الوطني في سورية أنه قد جاء لتسوية الأمور,وأنه في سبيله لإعداد مشروع معاهدة بين فرنسا وسورية ترضي الطرفين ولكن الشعب السوري وعلى رأسه رجال الكتلة الوطنية لم يعد يرضى بمجرد الوعود.
وحدث في نهاية عام 1939 حادثان صبا مزيداً من الوقود على النار: الأول هو موت الزعيم ابراهيم هنانو,والثاني هو رفع أسعار الكهرباء وتذاكر النقل في التراموي, الذي أقدمت عليه (شركة الجر والتنوير) البلجيكية(2) التي كانت تتولى ذلك. وبدلاً من أن تقف المندوبية الفرنسية كوسيط لإصلاح الأمور بين الطرفين فقد وقفت إلى جانب الشركة البلجيكية وهذا ما أجج الخلاف.
وردّ الشعب السوري على ذلك بإعلانه العصيان المدني والإضراب العام طيلة شهري كانون الثاني وشباط ,1936 ولهذا يدعى هذا الإضراب ( الإضراب الستيني) وصاحب ذلك إقامة المتاريس في الطرقات وبعض الأعمال المسلحة, وهذا ما جعل المفوض السامي (ده مارتيل) يطلب من قائد القوات الفرنسية في الشرق ( الجنرال هنتريجر) إنزال القوات العسكرية والدبابات إلى شوارع دمشق لحفظ الأمن والسلامة العامة فيها!
وكان هذا الموقف المتأزم ينذر باندلاع الثورات المسلحة من جديد, لذا آثر الكونت ده مارتيل حل الأمور بالحسنى فطلب إلى وزارة الخارجية الفرنسية استقبال وفد سوري لعقد معاهدة معه تحدد مستقبل سورية ووافقت الوزارة على ذلك برقياً.
وفي الأسبوع الأول من شهر آذار 1936 استدعى المفوض السامي إلى مقره في بيروت رئيس الكتلة الوطنية في سورية السيد هاشم الأتاسي, وأبلغه أن وزارة الخارجية الفرنسية مستعدة منذ الشهر التالي (نيسان 1936) أن تستقبله مع أْعضاء الوفد الذين يقترحهم للتفاوض حول نص معاهدة فرنسية-سورية, تحل أحكامها في تحديد العلاقات بين البلدين محل صك للانتداب, وسرب خبر هذا اللقاء بين أوساط الشعب السوري فتوقف عن الإضراب وأعمال العصيان وعمت الفرحة في كل مكان?
سافر أعضاء الوفد السوري إلى باريس بالقطار, برئاسة هاشم الأتاسي ومعه فارس الخوري وسعد الله الجابري..
وقضوا هناك حوالي ثلاثة أشهر في زيارات عمل ومفاوضات, وانتهوا إلى الاتفاق مع الوفد الفرنسي على نص معاهدة وقعه الطرفان المفوضان في 9 أيلول .1936
وتنص المعاهدة على أن فرنسا تعترف بسورية كدولة مستقلة وأن عليها تهيئة جميع الظروف لقبولها عضواً في ( عصبة الأمم)(3) ضمن مهلة لا تتجاوز ثلاث سنوات, وأن تنشأ بين الدولتين علاقة صداقة وتحالف بعد زوال الانتداب, وعلى أساس الحرية التامة والسيادة والاستقلال.
واستناداً إلى هذه المعطيات الواردة في بنود المعاهدة الفرنسية السورية, التي وقع عليها مندوبو الطرفين في باريس يوم 9 أيلول ,1936 بدأت الحكومة السورية بممارسة أعمالها السيادية, فدعت إلى انتخابات نيابية جديدة قادت إلى قدوم مجلس نيابي جديد في كانون الأول ,1936 وقد انتخب هذا المجلس في أول جلسة له السيد هاشم الأتاسي كرئيس جمهورية, وكان هذا نقطة البدء لعهد ( الجمهورية الثانية) في سورية.
عين الأتاسي حكومة جديدة ضمت لأول مرة وزارتي الخارجية والدفاع, دلالة على التمتع بالسيادة والاستقلال, علماً بأن هاتين الوزارتين كانتا غائبتين في الحكومات السورية السابقة (باستثناء عهد فيصل)!
وبعد اتخاذ الحكومة والبرلمان السوري قراراً بالتصديق على المعاهدة, استصدرا قانوناً بإعادة ضم دولتي اللاذقية وجبل العرب إلى التراب السوري بحيث عادت كل منهما محافظة مثل بقية المحافظات السورية.
وطلبت الحكومة السورية الجديدة من الحكومة الفرنسية الاستعجال في (التصديق RATIFI CATION) (4) على المعاهدة,ولكن الأوضاع الدولية كانت قد تأزمت ( احتلال إيطاليا مملكة الحبشة, الحرب الأهلية الإسبانية, تنامي الحركة الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا..).
وبدأت تلوح في الأفق نذر حرب عالمية جديدة, فاستغل دهاقنة السياسة الفرنسية الوضع, وبدؤوا يدعون بأن دول المشرق ( سورية ولبنان) تشكل قواعد استراتيجية هامة لحماية الطريق إلى المستعمرات الفرنسية في الهند الصينية (5), ولهذا ضغطوا على أعضاء الجمعية الوطنية الفرنسية ( البرلمان) لكي لا تقوم بتصديق المعاهدة, وكان أن (بلعت) الحكومة الفرنسية نص المعاهدة, وتجاهلت توقيع مندوبيها عليه وأعلنت أنها (عدلت) عن اتباع اسلوب ( التعاهد) وعادت إلى اتباع أسلوب ( الانتداب المباشر) وأشفعت الحكومة الفرنسية بيانها هذا, في آواخر عام ,1938 باستدعاء المفوض السامي الدبلوماسي ده مارتيل, وعينت مكانه السيد غابرييل بيو الذي يحمل أفكاراً استعمارية بائدة, وكان من الطبيعي أن تصطدم عقليته بعقلية رئيس الجمهورية السورية فقدم هذا استقالته في أواسط عام ,1939 وتبعه في هذا رئيس الحكومة, كان في وسع المفوض السامي الجديد الاستغناء عن رئيس الجمهورية لأنه كان يعتبر نفسه بمثابة (رئيس الدولة), ولكنه لم يكن في قدرته الاستغناء عن رئيس الحكومة (رئيس مجلس الوزراء) فعرض هذا المنصب على جميع الزعماء السياسيين السوريين ولكنهم اعتذروا عن عدم قبول المنصب واحداً بعد الآخر لأنهم شكوّا بأنهم لن يتمكنوا من العمل مع مثل هذا الشخص.
وفي أول أيلول ,1939 وكانت أحداث الحرب العالمية الثانية قد اندلعت, استغنى المفوض السامي عن وجود حكومة سورية شرعية, وكلف مديري الوزارات بتسيير شؤون الحكم في سورية تحت إدارة واحد منهم اسمه بهيج الخطيب, ولذلك تدعى هذه الحكومة باسم (حكومة المديرين) أو »حكومة بهيج الخطيب)!
ودام عهد هذه الحكومة - حوالي سنة كاملة- وانتهت بعد هجوم الألمان على فرنسا واحتلالها باريس في حزيران 1940 ومجيء حكومة الماريشال بيتان, المتعاونة مع الألمان, واتخاذها من مدينة فيشي عاصمة لها, وبما أن اتفاقية السلام بين ألمانيا وفرنسا تركت حكم المستعمرات الفرنسية وأقاليم ما وراء البحار لحكومة فيشي, فقد أصدرت هذه الحكومة مرسوماً بتعيين الجنرال ( دنتز) مفوضاً سامياً جديداً لها في سورية ولبنان, بدلاً من المفوض السابق (غابرييل بيو).
وحاول المفوض السامي الجديد أن يكتسب لحكومة فيشي بعض الشعبية في الأوساط الوطنية السورية,فاستدعى فور استلامه لمنصبه السيد خالد العظم, وكلفه بممارسة مهام كل من »رئيس الحكومة) في سورية بانتظار نهاية الحرب.
وفي عهد حكومة فيشي تعاظم نفوذ دول المحور ( الألمان والايطاليون) في سورية ولبنان, وخاصة عندما قامت حكومة رشيد عالي الكيلاني الانقلابية في العراق في ربيع عام ,1941 ولاحظت الحكومة البريطانية أن حكومة الكيلاني تلقت دعماً وتأييداً واضحين من قبل الزعماء الوطنيين في سورية, وهذا ما جعلها تقرر وجوب احتلال سورية ولبنان لتخليصهما من حكومة فيشي وتسليم أمورهما إلى ( قوات فرنسا الحرة F.F.L) بقيادة الجنرال ديغول.
وهكذا صمم البريطانيون على انتزاع سورية ولبنان من حكم الفيشيين أواسط سنة ,1941 ولكن كان عليهم أن يربحوا قلوب أبناء الشعبين السوري واللبناني في سبيل ذلك.
وفي صباح يوم 8 حزيران 1941 تقدمت من فلسطين, باتجاه الأراضي السورية واللبنانية, قوات حليفة ضخمة يقودها ( الجنرال ويلسون) البريطاني ويعاونه ( الجنرال كاترو) الفرنسي, وقد ألقت الطائرات الحليفة المرافقة لهذه القوات في اليوم نفسه فوق المدن السورية واللبنانية آلاف المنشورات, بتوقيع الجنرال كاترو, بتفويض من الجنرال ديغول قائد الفرنسيين الأحرار وهي تتضمن اعتراف الجنرال بأنه دخل مع قواته أراضي هذين البلدين لإيصالهما إلى استقلالهما بمجرد نهاية الحرب.
وتقضي الأمانة العلمية منا أن نعترف بأن الجنرال كاترو, الذي خبر الشعب السوري منذ ,1920 حاول أن ينفذ وعده بشكل مقبول, فاستدعى الشيخ تاج الدين الحسني وفاوضه في أمر استلام رئاسة الدولة السورية على رؤوس الاشهاد وبحفل يحضره ممثلو الدول الحليفة وقناصل الدول الأجنبية في دمشق.
وقبل الجنرال كاترو هذا ودعا لحفل رسمي في شهر أيلول ,1941 حضر المعتمد الانكليزي, والقنصل المصري, والقنصل الايراني, وبطريرك دمشق, ونفر من الرجالات السوريين, وتلا الجنرال كتاب الاعتراف وطلب إلى الشيخ تولي منصب رئيس الدولة السورية, و ردّ عليه الشيخ تاج بالقبول, وكان هذا نقطة البدء في ظهور سورية ضمن المجتمع الدولي كدولة مستقلة.
ومر عام 1942 بشكل هادئ, ولكن عام 1943 بدأ بداية سيئة بإعلان وفاة رئيس الدولة, الشيخ تاج الدين الحسني بصورة فجائية صباح يوم 17 كانون الثاني, ورأى الجنرال كاترو أنه من حق سورية أن تعود جمهورية دستورية, فقام بتعيين السيد عطا الأيوبي رئيسا للحكومة السورية المكلفة بإجراء انتخابات تشريعية جديدة,ورئيساً لدولة سورية بالوكالة, وقد جرت هذه الانتخابات فعلاً يوم 7 تموز ,1943 والتأم المجلس النيابي الجديد فانتخب السيد فارس الخوري رئيساً له, وانتخب السيد شكري القوتلي رئيساً للجمهورية السورية في 17 آب ,1943 فكان هذا التاريخ بداية لعهد »الجمهورية الثالثة) في سورية, واعتباراً من ذلك التاريخ أصبحت » الجمهورية السورية) دولة مستقلة بكل معنى الكلمة, وأصبح وجود القوات الأجنبية من فرنسية وانكليزية فوق أراضيها مجرد حدث عارض ومؤقت يجب أن ينتهي بانتهاء الحرب.
ومر عام 1944 في عملية تسليم واستلام بين إدارات الانتداب والإدارات السورية الناشئة وقد سلمت سلطات الانتداب إلى السلطات السورية جميع المصالح الحكومية ماعدا ادارتين اثنتين: القطعات العسكرية وإدارة الأمن العام.
وطلبت الحكومة السورية ممثلة بوزير خارجيتها جميل مردم بك من المفوض السامي الجديد للحكومة الفرنسية الجنرال بينيه السرعة في تسليم هاتين الإدارتين إلى الحكومة السورية في بداية ,1945 ولكن المفوض السامي استمهل لمشاورة حكومته ثم عاد باقتراح غريب, وهو عقد معاهدة جديدة تحدد العلاقات بين فرنسا وسورية لمدة 25 عاماً قابلة للتجديد, ورد عليه وزير الخارجية السورية بأنه جرى عقد معاهدة سابقة بين الطرفين عام ,1936 ولكن الحكومة الفرنسية تجاهلتها ولم تصدقها, لذا فلا مجال للعودة إلى الوراء!
وعند الاحتفال بنهاية الحرب العالمية الثانية في 9 أيار ,1945 جرت احتكاكات كثيرة بين القوات الفرنسية من جهة,وقوات الدرك السوري ومعها أغلبية الشعب من جهة ثانية, وقد تفاقمت الأحداث طيلة شهر أيار ,1945ووقعت صدامات مسلحة في بعض المدن السورية (حماة -دير الزور- حلب - السويداء - الضمير) وانتهت بإقدام القوات الفرنسية على ارتكاب مجزرة البرلمان في 29 أيار ,1945 فكان هذا الحادث بمثابة »صك الطلاق) مع عهد الانتداب وكان لشهر أيار أثر حاسم في حل القضية الأساسية التي كانت موضوع الخلاف بين الحكومة السورية وسلطة الانتداب الفرنسي, وهي قضية انتقال » القطعات العسكرية الخاصة) إلى مسؤولية الحكومة السورية,فقد سببت الأحداث التي وقعت خلال الشهر المذكور يقظة المشاعر الوطنية لدى الضباط والرقباء السوريين العاملين في هذه القطعات, إذ إنهم بدؤوا يهجرون مراكزهم العسكرية ويلتحقون بقوات الأمن الداخلي التابعة للقيادة السورية, ولم تأت نهاية شهر حزيران 1945 إلا وكان 70% من الضباط السوريين العاملين في هذه القطاعات, و45% من رتبائها وأفرادها, قد التحقوا بالقوات الوطنية, ولهذا وجدت القيادة الفرنسية نفسها مضطرة للدخول في مفاوضات مع القيادة السورية,وقد تم الاتفاق بين القيادتين في يوم 27 تموز 1945 على نقل مسؤولية الاشراف على القطاعات العسكرية الخاصة إلى الحكومة السورية منذ الساعة صفر من اليوم الأول من شهر آب,1945 الذي كان تاريخ ميلاد الجيش الوطني السوري, ولهذا أصبح اليوم المذكور عيداً للجيش يحتفل به كل عام!
وبعد تسلم القطعات الخاصة وتشكيل الجيش السوري أصبح جلاء القوات الأجنبية عن سورية مسألة وقت وكان الاعتقاد السائد هو أن هذا الجلاء سيتم قبل 31/12/.1945
ولكن المفاجأة الكبرى حدثت يوم 13 كانون الأول من ذلك العام حين تم الإعلان عن اتفاق بين بيدو ( وزير خارجية فرنسا )وبيغن ( وزير خارجية بريطانيا) وينص على الجلاء التدريجي (وليس الكامل ) عن المشرق بشرط الاحتفاظ بقوات كافية لضمان الأمن التام فيه!.
وخشيت سورية من تكرار مأساة سايكس- بيكو فقامت برفع شكوى عاجلة إلى ( مجلس الأمن ) في هيئة الأمم المتحدة طالبة الجلاء الناجز عن أراضيها.
ونظراً لاقتناع المجلس بعدالة الشكوى فقد قرر إلزام الدولتين بالجلاء, ولذا سبقت الحكومتان الفرنسية والبريطانية الأمر واتفقتا في 4 آذار 1946 على الجلاء معاً عن سورية قبل 30 نيسان .1946
وقد بدأت قوات الطرفين بالجلاء منذ ذلك التاريخ فعلاً, وانسحب آخر جندي فرنسي من سورية في 15 نيسان,واحتفلت الدولة بذلك بعد يومين ( يوم 17 نيسان 1946),وشاركت فرق من الجيوش العربية في الاحتفال, وقد تم اعتبار هذا اليوم عيداً وطنياً لسورية منذ ذلك التاريخ.
الهوامش:
1- يسمى مشروع هذه المعاهدة ( معاهدة الشعباني).
2- لا يزال مقرها القديم في مقر شركة كهرباء دمشق, مقابل سينما الكندي حالياً.
3- عاشت (عصبة الأمم) في مرحلة مابين الحربين العالميتين.
4- تحتاج كل معاهدة دولية إلى ( تصديق) بعد ( التوقيع) عليها.
5- الهند الصينية تضم حالياً: فيتنام, ولاوس, وكمبوديا.