كان هناك صهريج صرف صحي شمال قطاع غزة في حال خطر الانفجار، كما أوردت ذلك صحيفتي الصباحية في الأسبوع الماضي. ولم يكن مستطاعا ضخ مياه الصرف الصحي إلى برك تصفية وتشريح جديدة بسبب العجز في الطاقة الذي سببته القيود الإسرائيلية المفروضة على إمدادات الوقود للإقليم الذي تحكمه " حماس ".
وإذا أصابت أمطار غزيرة ـ أو صاروخ ضال ـ الجوانب الشرقية للصهريج، فإن فيضانا من القاذورات كان سيهدد الأوراح ويسمم الأرض المحيطة. وقد حصل مراسل صحيفة " هآرتس " الإسرائيلية على القصة عن طريق الهاتف. ولأسباب أمنية، لا تسمح إسرائيل لصحفييها بالدخول إلى غزة.
واليوم، تبدو هذه القصة مثل ذكرى من عصر آخر، عندما لازال يمكن أن يقلق المرء بشأن الكوارث المحتملة. ومنذ ذاك، انهار تماما نوع مختلف من السدود، وهو سد كان يحتجز وراءه الغضب والنار. وفي الوقت الذي أكتب فيه ذلك، ارتفعت حصيلة القتل في غزة من القصف الإسرائيلي إلى أكثر من 400 شخص. كما وصلت نيران الصورايخ الفلسطينية البدائية مناطق أوسع من إسرائيل عما في الماضي. وتقول الشائعات إن غزوا بريا لغزة قريب. ويتحدث الأصدقاء الذين تلقى أبناؤهم استدعاءات للجيش، يتحدثون بهمسات قلقلة.
غير أن تقريرا عمره أسبوع من غزة هو مفتاح لكيف وصلنا إلى الأزمة الحالية. فهو يلمح ـ بشكل غير مباشر ـ إلى الثقة العمياء التي يضعها القادة في كلا الجانبين على القوة، وإلى عدم قدرتهم على التخيل على النحو الصحيح كيف سيستجيب أو يرد أعداؤهم على أفعالهم.
ويرى الإسرائيليون قليلا من الحياة في غزة. لقد كانت قصة صهريج الصرف الصحي الضعيف على نحو خطير لمحة نادرة لا تستحق الاهتمام. ويمكن أن يكتب الصحفيون الإسرائيليون تقارير عن أبعد جزء في الأرض بسهولة أكثر مما يكتبون عن ذلك القطاع من الأرض التي تبعد 40 ميلا عن تل أبيب. وبالإضافة إلى ذلك، فإن كل جانب في الصراع مهتم بمعاناته الخاصة. وألم الآخر هو في طرف رؤياه.
وخلال " الهدوء " أو وقف إطلاق النار الذي مدته ستة أشهر بين إسرائيل و " حماس "، علمنا أن الصواريخ كانت لايزال يتم إطلاقها بشكل متقطع من غزة إلى جنوب إسرائيل ، خارقةً الاتفاق. غير أنه بالنسبة للغزاويين، فإن ما همهم هو أنهم استمروا في العيش تحت ظروف الحصار، مع التحكم بإحكام في إمداد السلع والبضائع إلى الإقليم.. وبقدر اهتمام " حماس "، فإن حملة إسرائيل الشعواء على حدود غزة هي أيضا خرق للاتفاق. ولأن وقف إطلاق النار كان قائما على " تفاهمات " غير مكتوبة، والتي فهمها كل جانب على نحو مختلف، فإنه من الصعب تقييم ذلك المزعم والحكم عليه.
وبعد ستة أشهر وفي التاسع عشر من ديسمبر أعلنت " حماس " أن وقف إطلاق النار قد انتهى. وخلصت إلى أن الإسرائيليين فهموا القوة فقط. ومع نيران الصورايخ المكثفة، اعتقد قادة التنظيم فيما يبدو ، أنهم سيدفعون إسرائيل إلى الموافقة على شروط مُحسنة - رفع الحصار وتمديد وقف إطلاق النار إلى الضفة الغربية.
بالنسبة للناس الغاضبين، تُعد القوة مُغرية. سيأخذ الأمر لحظاتٍ قليلة فقط من التفكير للتنبؤ بأن لا سياسي إسرائيلي سيريد أن يُظهر ضعفا، برفع الحصار بسبب صواريخ تصيب مدنا إسرائيلية ـ ولاسيما قبل أسابيع قليلة من الانتخابات.
وبدلا من ذلك، قرر ثلاثي قادة إسرائيل ـ رئيس الوزراء إيهود أولمرت وويزرة الخارجية تسيبي ليفني ووزير الدفاع إيهود باراك - قررروا شن حملة جوية ضد غزة، في احتمالية كبيرة ليعقبها هجوم بري. إن قادتنا ـ كما يبدو ـ قد أغرتهم أيضا القوة. فعلى الأقل، هم يتوقعون أن تقنع المذبحة " حماس " بوقف الهجمات ضد إسرائيل . والأكثر احتمالا، أنهم لديهم نفس الآمال بالنسبة للحملة العسكرية كما كان لديهم بالنسبة للحصار: أنها ستقلب فلسطينيي غزة ضد " حماس ". ومرة أخرى، فإن مسعى مقتضبا لتقلد منظور الطرف الآخر يؤدي إلى النتيجة العكسية: أن الفلسطينيين ـ في غزة وفي الضفة الغربية ـ سيلقون باللوم على إسرائيل ، وليس " حماس " في إراقة الدماء.
من الممكن أن تضعف الهجمات الإسرائيلية على المؤسسات الحكومية في غزة ـ بما في ذلك الشرطة ـ من سيطرة " حماس " أو حتى تبدد النظام في غزة. ولكن هل هذا سيفيد إسرائيل ؟ إن النتيجة الأكثر احتمالا ستكون هي الفوضى، نسخة من الصومال على حدودنا. لن يكون هناك أحد لمنع الفصائل التي تكون أكثر راديكالية حتى من " حماس " من إطلاق الصورايخ. وإذا أعاد الجيش الإسرائيلي احتلال غزة، فإنه سيكون هدفا لحملة جديدة من رجال حرب العصابات. وبعد ثلاثة أشهر من الآن، يمكن أن نتوق إلى السيطرة التي كانت تطبقها وتمارسها " حماس ". إن قادتنا محقون في أن أي بلد يجب أن يدافع عن نفسه.. ولكن بينما يختارون الخيار العسكري، فإنهم فشلوا في أن يحددوا على نحو مقنع أهدافا محددة قابلة للتحقيق.
وقبل أن يختار الأدوات الكليلة الفظة، كان لدى كل جانب خيارات أفضل. وفي شهر نوفمبر الماضي، اقترحت مصر تسوية توافقية لإنهاء الانقسام السياسي الفلسطيني بين " حماس " و " فتح "، وغزة و الضفة الغربية. وكان الاتفاق سينشئ حكومة ائتلافية تحت قيادة الرئيس الفلسطيني ( وزعيم " فتح " ) محمود عباس، شريك إسرائيل المُختار في التفاوض، لعدة أشهر قبل الانتخابات الجديدة في كل من الإقليمينِ الفلسطينيينِ. ومع كون غزة تابعة لحكم عباس ( كما كان مفترضا )، كانت إسرائيل سيكون لديها وقت أصعب في مواصلة الحصار. ولكن " حماس " رفضت الصفقة، بسبب انقسامات داخلية فيما يبدو.
إن إسرائيل كان لديها خيارات جلية، بينما كان وقف إطلاق النار ـ برغم اهتزازه ـ قائما. كان يمكنها أن تمرر رسالة مفادها أنها مستعدة للاعتراف بحكومة وحدة وطنية وإنهاء الحصار. و " حماس " كان يمكن أن تواجه ضغطا داخليا لتخفيف مواقفها والعمل مع عباس.
ولكن بدلا من ذلك، فإن الخيارات الدبلوماسية أكثر صعوبة بكثير. إن كل طرف ـ وقد أسره الغضب وخاف كثيرا من أن يظهر بمظهر الضعيف ودعا إلى عدوان أسوأ ـ غير قادر على التراجع. إن الفيضان قد انطلق.
جيروشوم جورينبيرج
مؤلف كتاب : " إمبراطورية بالصدفة: إسرائيل وميلاد المستوطنات، من عام 1967 إلى عام 1977 ( من كتب " التايمز ").