كان يجتمع بأصدقائه كلّ يوم في "مقهى الشعب"...كان صحفيا مبتدئا و كان أكثرهم من العاطلين.. فكانوا يعتبرونه مميّزا إلى حدّ ما.. فهو يقبض مرتّّبا آخر الشهر و لا يضطرّ إلاّ في أحيان قليلة إلى مدّ يده إلى والده يلقي فيها بعض الدنانير... أحمد الكحلاوي.. كم يتمنّى أن يصير هذا الاسم كبيرا..كبيرا ..بحجم غروره و طموحه ..منشورات أحمد الكحلاوي..جريدة أو مجلة يكون هو رئيس تحريرها.. كان أصدقاؤه بعيونهم الفاترة..نصف المغمضة أحيانا يبعثون فيه ذلك الشعور بالنخوة و التفرّد..
و كانت تمرّ كلّ يوم من جانب المقهى.. فتاة شديدة بياض البشرة...شديدة سواد الشعر، ذات قوام رائع و عينين نجلاوين فيذكر مطلع تلك الأغنية القديمة" يا لعينيك و يالي..من تسابيح خيالي.." بينما يحوقل رفاقه و يصلّون على النبي مطأطئين رؤوسهم.. إنهم يتنازلون عنها لفائدته لا وفاء بل عجزا... وكان يعلم ذلك فيزيد من كبريائه...
لحق بها ذات مرّة و كلمّها و تواعدا على اللقاء.. ثم تواصلت لقاءاتهما بعد أن جمع بينهما الحب..فصار لقلمه جموح الحصان و نظرة الصقر الثاقبة مع سلامة في التعبير عن المشاعر جذبت له اهتمام رئيسه...
كانا يلتقيان يوما بيوم فيشرب من نبعها رحيق الأنثى يفك به إسار اللغة السجينة و يركب صهوة التاريخ قائدا منتصرا يشحذ الخيال يغذّيه تغيرات الواقـــع و آنيته.
لقد فجّر فيه الحب طاقات الكاتب الكبير..و كان يرتقي في العمل فكانت تنتظر اليوم الذي يجمعهما تحت سقف واحد ولكنه جاء اليوم يخبرها كلاما غريبا:
-"سعاد... أنا أحبك. ولكن.. أنت تعلمين.. مصاعب الشغل والعلاقات... ثم إني.. أنت لا تستطيعين أن توفري لي.. أنت تفهمين.. هذا العالم.. تحدوه المصالح.. وإذا لم أظفر بفرصتي..."
كانت تنظر إليه ولا تفهم كثيرا مما يقول ولكنها كانت تشعر.. أن هذا الجسد الذي كان واحدا.. صار جسدين متنافرين..
لا يربط بينهما شيء.. وشعرت بنفسها تنحدر و تنحدر.. تحت التراب..
تزوّج أحمد ابنة رئيس التحرير وصار نائبا له.. ولكن بعد سنتين من الزواج عاوده الحنين إليها.. وربما أراد إعادة شحذ قلمه وإذابة الجليد المتراكم عليه.. جليد الرباط الزوجي...
وجدها كما هي.. سوى ترهّل في النظرات.. وجرح مفتوح في مستوى الذاكرة ..كانت مشتاقة إليه.. رغم كل ما فعل.. وربما عذرته.. وطوت صفحة الماضي بخيرها وشرها..
عادت إليه، فلم يكن في حياتها سواه.. حتى أولئك الأصدقاء الذين عادوا يخطبون ودّها بعد أن ترك هو "مقهى الشعب" وكل ما يرتبط به من ذكريات لم يجدوا لديها سوى نظرات زاجرة تظهر القسوة وتبطن الأسى...عادت إليه... وكم طلبت منه أن يذهبا إلى المكان الذي كانا يلتقيان فيه قبل زواجه فكان يهزأ منها قائلا:" لا أحبّ كل ما يذكرني بأيام الفقر.. من يترك مكانا كهذا مكيفا.. معطرا.. واسعا... فيه كل شخصيات المجتمع.. ليذهب إلى مكان قفر لا يتوفر فيه ولو مقهى يحفظ المقام.. !"
وتواصلت خلواتهما وهي قانعة منه ببضع ليلة أو بضع ساعة أحيانا.. لم تكن تسأل.. ولم تكن تريد أن تعرف شيئا..
لقد نذرت نفسها لحبّه ولقلمه..كان يكبر و يكبر.. وكانت تفتخر بذلك بينها وبين نفسها.. بل تمدح وفاءه لها ..طول هذه السنين.. وتعبد تلك الشّعيرات القليلة البيضاء التي بدأت تظهر في مفرقيه.. كانت تمازحه قائلة:" لقد صرت عجوزا.."
فيقول:" أعلم أنّك لا تكبرين أبدا"
فتبسم شفتاها وتغرب عيناها وراء السنين.. ويخرس قلبها...
كانت زوجته امرأة عقلانية لا تهتمّ إلا بالمراكز والمظاهر الاجتماعية.. وكان ولداها يشبهانها أما ابنتها فكانت كأبيها..
معجبة به لحدّ التقمص.. تقرأ كلّ ما يكتب وتحاول أن تعرف القلب الذي يختفي وراء السطور.. فأمّها غير قادرة على أن تكون ذلك القلب.. وحسّ الرسامة فيها لا يخطئ..
صار أحمد الكحلاوي رئيس تحرير المجلة بعد سنين قليلة.. ثم أسّس شركة نشر وتوزيع تحت اسم منشورات أحمد الكحلاوي و صار اسمه لامعا في عالم المال و الأعمال... وصار لا يؤمن إلّا بالأوراق الرسمية و كلّ ما هو قابل للإثبات أمّا غير ذلك فلا وجود له...وكثر أعداؤه حتى كان يوم.. قرر فيه العودة إلى البيت في ساعة متأخرة من الليل فاعترضته سيارة وضيّقت عليه المكان فلم يكن باستطاعته تفادي الحاجز الحديدي الذي يفصل بين طريقين رئيسين.. مات الكاتب الكبير في ساعته.. واجتمع الصحفيون و رجال الأعلام وصفوة المجتمع.. كان الشيء الوحيد القابل للإثبات هـو عـلاقته الزوجيـة وأبنـاؤه و ممتلكاته.. أمّا هي فلا وجود لها.. كانت ابنته في تلك الأثناء ترسم لوحة تمثّل
والدها محاطا بجمع كبير من الناس و في يسار اللوحة.. في أقصى اليسار.. صورة امرأة شديدة بياض البشرة.. شديدة سواد الشعر، ترتدي وشاحا بنفسجيا.. وتختفي وراء الباب...
2003/05/10