تداول أهل الساحل السوري منذ قرون طويلة العلوم الفلكية بمفهومها التقليدي البسيط وما انطوت عليه من أخبار الأبراج والنجوم والقمر والجهات وكانت هذه العلوم بشكلها البسيط البعيد عن البراهين والتفسيرات العلمية آنذاك جزءا لا يتجزأ من حياتهم اليومية فلا يقومون بعمل مهم ما سواء كان تجاريا أو زراعيا أو اجتماعيا دون دراسة نتائجه المتوقعة ومدى صوابه حسب العرف الفلكي التقليدي السائد.
ويعتبر القمر سيد الأيقونات الفلكية سواء في العلوم الحديثة أو في العرف التقليدي لأهل الساحل في سورية وسواهم فترتبط به الكثير من الظواهر والسلوكيات الإنسانية والحياتية والطبيعية ويستدل بواسطته على العديد من الأقدار والمستقبليات المتوقعة في حياة الناس على مختلف أجناسهم.
وقالت الباحثة التراثية فريا ل سليمة الشويكي أن أهل الساحل استرشدوا بالقمر في تأدية الكثير من أعمالهم وإدارة شؤونهم الحياتية فساد لديهم إعتقاد قوي بما يسمى الأيام البيض أو الأيام الطيبة وهذه الأيام هي السابع والثامن والتاسع والسابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر والسابع والعشرون والثامن والعشرون والتاسع والعشرون من كل شهر قمري وتعد هذه الأيام الأفضل لإنجاز الأعمال المهمة فيستحب فيها الزواج والخطبة والسفر والبناء والزراعة والانتقال إلى مسكن جديد.
ومن الأيام الطيبة الخاصة هناك أيضا أيام اكتمال القمر أي الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر من كل شهر إلا أن هذه الأيام في المعتقدات الساحلية ورغم أنها مباركة إلى حد كبير إلا أنها تستوجب كما يقال أن يكون الإنسان أديبا تجاهها فلا يصح في أي منها الاحتفال بالمناسبات الاجتماعية أو السفر أو الغسيل أو شراء الخيول أو جني المواسم بل يجب تأجيل هذه الأعمال إلى وقت آخر.
وأضافت الشويكي انه لطالما لجأ الفلاحون إلى الزراعة في أول الهلة أي عند طلوع القمر ولاسيما في أيام الأول والثالث والسابع والتاسع من الشهر القمري فهي تنجح في هذا الوقت نظرا لأن الأرزاق كما يقال تنمو وتكتمل بنمو القمر واكتماله والأمر نفسه لدى جلب العروس إلى المنزل حيث يتم اختيار أحد هذه الأيام لهذا الغرض وأيضا في الانتقال إلى منزل جديد فلا يدخل إليه كما درج العرف الساحلي حتى لو كان مقبيا بسبع قبب إلا في يوم طيب.
وعرف أهل الساحل ما يسمى أيام النقصة وهي الأيام التي يبدأ فيها القمر بالتراجع والنقصان وقد عرفت مواليد هذه الأيام بالذكاء والحكمة وقوام السلوك وكانت صفات الشخص وطبائعه تدرس بناء على يوم مولده كما يحدث اليوم في أحدث العلوم والدراسات الفلكية حيث تربط حالة المواليد بالقمر وتحولاته من زيادة ونقصان.
وفي أيام النقصة هذه تصح أعمال ويتم تجنب القيام بأخرى فعادة ما يقوم أهل الريف في هذه الأيام بتجفيف كل ما يلزم من خضروات للمؤونة الشتوية كالبامياء والفاصولياء والبانجان واليقطين واللوبياء والأمر نفسه بالنسبة لجرش البرغل وسلقه وتجفيفه وحفظ الليمون الحامض في الرمل وقطف الزيتون وجمعه وكل ما قد يتسرب الدود إليه أو يرجح تلفه.
واعتمادا على هذه القاعدة لا تقطع الأشجار التي ستستعمل لسقف البيوت إلا في النقصة أي بعد سبعة عشر يوما من عمر القمر لئلا يتسرب الدود إليها من ناحية ولأن الخشب الذي يقطع في النقصة يغدو كالحديد حسب اعتقاد الساحليين في سورية لأن المياه في نسغ النباتات تكون قليلة في هذه الأيام وهي كما هو معروف مصدر التسوس.
من هذا المنطلق يعمد الناس إلى قلع البصل والثوم في الفترة الممتدة ما بين الثامن عشر من أول هلة للقمر وحتى التاسع والعشرين منه حيث يكون الماء آخذا بالتراجع والنقصان.
وقالت الشويكي: كان محبذا في هذه الفترة ممارسة أعمال وتدابير معينة كقص الشعر الذي غدا ضعيفا ومتقصفا كي يعاود النمو تبعا لسريان الماء في الطبيعة في الفترة التالية للنقصة وأيضا كي الجروح وتطبيق الحجامة ومداواة أمراض باطن الفم كالقلاع وزهرة الحليب التي تصيب الرضع.. و بالطبع قابلت الأيام البيض أيام محظورة أو كما تسمى بالعامية الريفية المحدرة وعددها سبعة وفيها يتم التوقف عن فعل أي من الأعمال المهمة تحديدا في الثالث والخامس والثالث عشر والسادس عشر والحادي والعشرين والرابع والعشرين والخامس والعشرين من الشهر القمري.
وعمد أهل الساحل السوري منذ آلاف السنين إلى ربط الإنسان ومصائره المختلفة بحركة النجوم والأبراج والأجرام الفلكية فعرفوا الكواكب والأبراج الإثني عشر وأسماءها موردين إياها بالشكل التالي.. الحمل..الثور..الجوزاء..السرطان..الأسد..العذراء..سنبلة..ميزان ..عقرب..جدي..دلو..حوت ومنهم من أوردها بترتيب مختلف.
وقد وضعوا للحروف المعجمية قيما عددية مشكلين ما يسمى فلكيا بـ الجمل الصغير .
بعد ذلك كانت هذه الأرقام كما تطبق على اسم الإنسان ونسبه وفق عملية حسابية معينة لاكتشاف طالع الشخص وربط مجريات حياته بالنجوم وقد اعتمدت هذه الطريقة ولا تزال من قبل أهل الساحل السوري وغيرهم لتقويم أعمالهم وأحوالهم الحياتية وطبقت بشكل واسع في أمور كثيرة كالزواج والتجارة والسفر والمرض عن طريق ما يسمى شرح البرج لاكتشاف ما إذا كان هوائيا أو ناريا أو مائيا ودراسة صفاته واقتراح ما ساد الاعتقاد بقدرته على حل ما هو مستعص.
ورغم ما يراه كثيرون من أن هذه السلوكيات هي مجرد بدع وهرطقات لا أساس لها من الصحة والعلم إلا أن العلوم الحديثة تؤكدها يوما بعد يوم وقد رأى أسلافنا الساحليون منذ أمد بعيد أن كل ما يقومون به في هذا المجال هو نوع من التواصل مع القدرة العليا وإيمانا منهم بأن الكون كله وحدة متصلة يؤثر كل من عناصرها في الآخر.
وتتابع الشويكي: إن هذه المعارف التقليدية قد تجسدت في حياة أهل المنطقة الساحلية وتعمقت حتى صارت مفرداتها جزءا من التراث الفني الساحلي فترددت أسماء النجوم والكواكب والأشهر القمرية والجهات الأربع في زجلهم وأشعارهم وفي أغاني ومواويل العتابا والميجانا والزلف والبيا.. ودخلت كذلك إلى صلب أمثالهم الشعبية ومصطلحاتهم وأوصافهم وتعابيرهم الكلامية ترسيخا لعمق هذه المعارف والخبرات.
فذكروا الشمس والقمر في الزغرودة التالية يا عروسنا شوفي القمر خجل منك.. ويا ورد فتح عا خدك وعا تمك.. والشمس أخدت نورها منك.. بيك بيفرح والهنا لأمك وأوردوا الهلة والأشهر القمرية في الموال ومنه هلي يا دموع العين هلي.. حتى تنقضي تسعين هلة وبالله يا دموع العين هلي.. وابكي عالصباح وعالمسا .
ووردت النجوم والكواكب في العتابا كما في آه يا خي شوف قوم يا خي شوف.. لبست للدهب سبع تمان صفوف.. علوا يالمحبوب تنظرها وتشوف.. خدا نجم سهيل الغرار بينا أما عن الجهات فقد غنى أهالي الساحل و قالوا يا زين يا زين أهلك رابطين شمالا.. تا روح قبلي وقلبي ملتفت لشمال .
وفي الأيام المحظورة قالوا شعرا توقى من الأيام سبع كوامل.. لا تبتغي فيهن بيع ولا سفر ولا تحفرن بيرا ولا دار تشترى..ولا تقرب السلطان فالحذر الحذر فثالث وخامس ثم ثالث عشر.. وسادس عشر جاء يا صاحب الحشر .. والواحد وعشرين احذر شره.. ورابع وعشرين والخامس في الأشهر ..فاحذر ما استطعت منهم لأنهم.. كأيام عاد لا تبقي و لا تذر .
رنا رفعت -سانا