إذا ما تجولنا في عالم الأرقام نجد أن المدنيين يشكلون نحو 90% من ضحايا الحروب والنزاعات المسلحة التي اندلعت خلال العقود الماضية، ويمثل الأطفال ما يقرب من نصف مجموع الضحايا، نعم لقد قُتل أكثر من مليوني طفل نتيجة مباشرة لتلك الحروب والنزاعات خلال العقد الماضي، وأصيب ما يزيد على ثلاثة أمثال هذا العدد، أي ما لا يقل عن 6 ملايين طفل، بعجز دائم أو بجراح خطيرة، وأصبح أكثر من مليون طفل يتامى، أو منفصلين عن ذويهم، كذلك يتعرض ثمانية آلاف إلى عشرة آلاف طفل كل عام للقتل أو الإعاقة بسبب الألغام الأرضية وباقي مخلفات الحروب القابلة للانفجار، لقد أجبر ما يقدر بعشرين مليون طفل على الفرار من ديارهم بسبب النزاعات وانتهاكات حقوق الإنسان، ويعيشون لاجئين في بلدان مجاورة، أو نازحين داخل حدودهم الوطنية.
تشير الدراسات في منطقتنا العربـية إلى أرقام كبيرة لضحايا العنف، والنزاعات المسلحة والاحتلال، فقد قتل أكثر من 650 ألف مدني في العراق منذ الاحتلال الأمريكي في عام 2003، وتشتت أكثر من 5 ملايين لاجئ ونازح، وكذلك أكثر من مليوني فلسطيني تضرروا بشكل شديد بفعل حصار غزة وبناء الجدار العازل، وملايين غيرهم في السودان والصومال قد قتلوا وجرحوا وفقدوا وهجروا.
إن المبادرة العربية القطرية التي أطلقتها صاحبة السمو الشيخة موزة بنت ناصر المسند بإنشاء مؤسسة "التعليم فوق الجميع" Education above Allالعالمية تستحق التوقف عندها لأنها جاءت في عالم يعج بالنزاعات المسلحة وضحاياها المدنيين الأبرياء، ولأنها انطلقت من منطقة طالما عانت ويلات الحرب والاحتلال، وطالما كانت منفعلة لا فاعلة تنتظر المبادرات العالمية لتقديم يد العون لها، تستحق التوقف عندها لأنها ركزت على الحق في التعليم الذي كثيرا ما أغفل وانتهك في مناطق الحرب والنزاع، وهي ترفع شعار حماية ودعم وتعزيز الحق في التعليم وتسعى المؤسسة إلى تحقيق أهدافها من خلال إجراء دراسات وبحوث وتنظيم حلقات دراسية ومنتديات ومؤتمرات وإطلاق برامج إعلامية متعددة الوسائط وذلك بغرض نشر المعرفة وتعميقها وزيادة الوعي الفردي والمجتمعي والدولي بشأن الأخطار التي تتسبب فيها الأزمات والصراعات والحروب، كذلك تعمل على رصد وتحري وتوثيق كافة الانتهاكات التي تطال المنظومة التعليمية في وضعية الأزمات والصراعات والحروب، كما تسعى إلى تطوير آلية قانونية دولية للدفاع عن الحق في التعليم وحمايته من كافة الانتهاكات والتجاوزات ومتابعة المتسببين فيها ومقاضاتهم.
لا أعتقد أن هذه المبادرة "التعليم فوق الجميع"، سوف تتوقف عند الحق في التعليم باعتباره حق من حقوق الإنسان وفقاً للمادة /26/ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنص فقرتها الأولى على أن / لكل شخص الحق في التعليم / . . ووفقاً للمواد / 22 و 50 و 94 و 108/ من اتفاقيات جنيف لعام 1949 بشأن حماية المدنيين أثناء الحروب. إن هذه المبادرة سوف تتعمق وتمتد لتجعل من التعليم في المجتمعات الخاضعة والمهددة بالحروب والنزاعات أداة لحماية هذه المجتمعات من هذه الويلات وتداعياتها الاجتماعية النفسية psychosocial consequences of war، بل ومواجهة الغزاة وتجار الحرب، وحماية المجتمع سيما الأطفال والشباب من ظواهر قد تتفشى في صفوفه كالأطفال الجنود، والجريمة المنظمة وشبكات التهريب والمخدرات وغيرها. نعم إنه التعليم الذي أصبح أداة تعزيز السلم الأهلي والمجتمعي وبناء مستقبل أفضل للمجتمعات المنكوبة في العالم.
إن رؤية وتطلعات هذه المبادرة تلقي على أكتاف المؤسسات الحكومية والأهلية والخاصة مسؤولية كبيرة، فلا يمكن أن تحقق مبادرة "التعليم فوق الجميع" Education above Alغاياتها المنشودة إلا بالعمل الجماعي الجاد والاحترافي على كافة الصعد المحلية والوطنية والإقليمية والدولية.