كانت زيارة العقيد القذافي الأولى لإيطاليا وخطواته على أرضها خطوات الفاتحين ودخول الغزاة الجبارين , كان يبدو ممتلأً بالعظمة, مُتخَمَاً بالكبرياء, طافحاً بالعزةِ ,ناشراً جناحيه,منتفخَ الأوداج مجللاً بالنشوة,واثقَ الخطوةِ يمشي ملكاَ على السجاد الأحمر ومن حوله رجالات الدولة الطليان -دولة الاحتلال والإستعمار الليبي- يتسابقون في الإحتفاء به وفي ابداء السعادة بوجود هذه الشخصية التاريخية في ضيافتهم . من ثنايا هذا المشهد أطلت شخصية القذافي لتلقي ظلها على هذا الزمان ,وتبعث الى الأذهان شخصية تاريخية أخرى يُعَنوَِنَ بها عصرٌ سابقٌ عصر الممثل محمود شكوكو .
كان شكوكو-رحمه الله ممثلاً هزلياً بسيطاً, ساذجاً ,محدود المواهب وكان أداؤه الهزلى يثير إعجاب البسطاء من الناس حتى وصل الأمر أن تماثيلاً من الجبس لشكوكو كانت توزع في أرجاء مصر من شمالها لجنوبها مقابل بعض أصناف الروبابكيا والزجاج المكسور, ويسجل لهذا الرجل البسيط أنه الممثل بل المواطن الوحيد في تاريخ مصر الذي صُنِعَت له تماثيلٌ توزع وتباع ويتهافت عليها الأطفال وبسطاء الناس ,ولكن بعض مفكري مصر وعلى رأسهم الأديب العظيم" يوسف إدريس" أطلق على حقبة الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي "عصر شكوكو"حيثُ رأى أن شكوكو هو نتاج و رمز لعصرٍ تتلخص فيه ثقافه وذهنية الشعب الجمعية , يعبر شكوكو الرمز-وقد يكون الانسان فيه بريئاً من ذلك - عن سذاجة الأفكار وهزلية السلوك وسطحية المشاعر إنه ترجمةٌ للتكوين الثقافي والحضاري لمواطن ذلك العصر "عصر شكوكو".
كان عصر شكوكو سمتاً للشعب في ذاك الوقت.
وفي زمننا هذا؛ أما وأن المواطن العربي قد تراجعت قيمته وبهتت شخصيته وطُمِست هويتُهُ وإغتيلت إرادتهُ ومُحِيَت ذاكِرَتَهُ فلن يُنسَب للزمان ولن يُنسَب لهُ زمان , بل حكامه منه أولى وأجدر أن تُوسَم بهم الأيام .
فإن تأمَّل العقلاءُ العقودَ السابقة ودققوا النظر في "تكاثف الغمة في أحوال الأمة" وسجلوا الخنوع والإستسلام الذي يجمع الحكام و حاولوا أن يجدوا رمزاً وأنموذجاً يجسد ويعبر عن هذا الزمن وحكام هذا الزمن فلن يجدوا خيراً من العقيد القذافي لتُتَوَجَ به هامة زماننا هذا ليُسَمىَ "عصر القذافي".
في عصر القذافي ؛ يتنطع العسكر في ثكاناتهم فيستحيل كل الوطن معسكرَ إعتقال وثكنةَ عسكريةَ , ويمتطي العسكر ظهر الوطن - فهم لم يظاهروه كظهر أمهاتهم - بل هو إمتطاءٌ أبديٌِ بلا إنتهاء ,
أربعةُ عقود من الديكتاتوريات العسكرية والولايات المورثة العربية في ليبيا ومصر وسوريا واليمن وتونس وعراق البعث و.. و.. وكل بلاد الأعراب حيث القذافي وأمثاله من حكام " عصر القذافي" يجثمون فوق صدر الوطن بأنظمة حكمٍ عاتيةٍ تحتقر حقوق الإنسان بل تسحق الإنسان نفسه .
وتُملأُ السجون والمعتقلات بالشرفاء , ويُسحَلُ المعارضون- يُقتَلوا ويشَردوا في الشتات , ويفلح العسكر في قهر المواطنين , وينشروا رجالهم الفاسدين والفشلة من العسكريين والبيرقراطيين ,في كل الوظائف والدواوين هدماً لأساسات الدولة,فلم تعد حكومات تحكم وإنما عصابات تسطو وتخرب تنهب وتهرب , يسلبوا الأمة ثرواتها ونفطها ويبددوا طاقاتها وأرضها وتاريخها , يفسدوا التعليم ويفسدوا الأخلاق ويعودوا بالأوطان قروناً للوراءِ .
في عصر القذافي زمن العنتريات والفرزدقيات فإن قهر الشعوب ورَغِمِ أنوفها في التراب هو الوسيلة المثلى لجلب الزعامة وإشباع شبق التسلط و"بارانويا" المجد .
في عصر القذافي : كلهم يكذبون يدًّعون الوحدة ويأكلون لحوم شعوبهم أحياءً وأمواتاً , يتشدقون بالوطنية وقد باعوا فلسطين والمقاومة وباعوا العراق ودارفور , وتحولوا لتجارٍ، فمن بيعٍ لمقدرات شعوبهم من ثروات ونفطٍ وغازٍ وتاريخ , الى بيع ارادتهم .
يرفعون شعارات التحدي والوطنية والمقاومة وحين تقترب من مؤخراتهم العصا الأمريكية التى أسقَطَت من قبل صدام وعصبته ينكصون على أعقابهم , فلا تحدي ولا وطنية ولا مقاومة ولا يحزنون ؛ بل لعقٌ لعتبات الغرب المقدسة والتخلي عن مفاتيح الوطن والوطنية ,وتسليمٌ لمشروعات الوطن النووية ووثائقة التاريخية , و تقديم الوعود لعقد مصالحةً تاريخية مع إسرائيل بل الإنضواء في حلفٍ معها , والإلتفاف حول كل ما هو مقاومة في فلسطين ولبنان والعراق ومحاصرتها والتآمر على تصفيتها ,
وسعيٌ حثيثٌ لتوريث الحكم ,وفي الطريق إلى التوريث يهدر ما تبقى من ثروات الوطن لصالح اليهود والغرب, وتراق الدماء ,وتكتمل منظومة التسلط لتعد المسارح على جثث الأحرار والمعارضين ,لتنصيب الوريث بين أطلال الوطن.
رحم الله شكوكو وعصره , وبتر الله حكام زمن القذافي ليتلاشوا في ثنايا التاريخ بوارثيهم وعامليهم وحواريهم ليكونوا أثراً بعد عين,فلعل الحياة تعود للأمه بعد زوال الغمة وإندثار الطغمة .