اعتمدت إسرائيل في عملياتها العسكرية واحتلالها لمزيد من الأراضي العربية المحيطة بفلسطين على رؤى وتوجهات إستراتيجية وضعتها الحركة الصهيونية، استهدفت من خلالها احتلال الأراضي العربية ومن ثم العمل على تهويدها.
وفي هذا السياق كانت عملية التوسع الإسرائيلية في يونيو/حزيران 1967، حيث تمّ احتلال هضبة الجولان السورية التي تعتبر إستراتيجية في مستويات مختلفة لدى الإستراتيجيين والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ عام 1948.
الأهمية الإستراتيجية للهضبة إسرائيليا
تشير الدراسات الصادرة عن مراكز البحث الإسرائيلية إلى أن ثمة بعدا إستراتيجيا لهضبة الجولان السورية في المنظور الإسرائيلي، من أهمها البعد العسكري، حيث رأت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وكذلك القادة العسكريون أن الموقع الجغرافي الهام للهضبة بتضاريسها الخاصة، مثلت جدارا ومجالا دفاعيا حيويا عن غور الأردن والجليل الشرقي وإصبع الجليل، وجميع أنحاء المناطق المحتلة في شمال فلسطين المحتلة. وما يعطي الهضبة أولوية في الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية هو إطلالتها على بحيرة طبريا وإشرافها على سهل الحولة.
"
رأت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وكذلك القادة العسكريون أن الموقع الجغرافي الهام لهضبة الجولان بتضاريسها الخاصة، مثلت جدارا ومجالا دفاعيا حيويا عن غور الأردن والجليل الشرقي وإصبع الجليل وجميع أنحاء المناطق المحتلة في شمال فلسطين
"
إضافة إلى ذلك تعتبر الهضبة السورية في المنظور العسكري الإسرائيلي ذات بعد استباقي للردع، حيث يرى الإستراتيجيون في إسرائيل أن وجود الجيش الإسرائيلي في الهضبة عبر احتلالها يشكل أهمية ردع استثنائية بسبب ميزات الجولان الإستراتيجية والطبوغرافية الخاصة، كما يؤكد القادة العسكريون أنه باحتلال الهضبة يمكن ردع أي تحرك عسكري للجيش السوري، فضلاً عن كون التواجد الإسرائيلي في الهضبة يحقق أهداف الرصد للجيش الإسرائيلي لمساحات جغرافية كبيرة حول الهضبة، وقد يساعد في ذلك وجود قمم عديدة فيها تفسح لرؤية شاسعة نحو المناطق الشرقية والجنوبية من سوريا.
ولم تغفل إسرائيل الأبعاد الإستراتيجية الأخرى للهضبة السورية وخاصة المائية منها، حيث أمّنت باحتلالها أجزاء كبيرة من الهضبة أكثر من ثلث الاحتياجات المائية الإسرائيلية.
النشاط الاستيطاني في الجولان
ركز الإعلام الإسرائيلي في الآونة الأخيرة على المخططات الإسرائيلية الجديدة الداعية إلى تعزيز النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في هضبة الجولان السورية المحتلة، وذلك عبر مسميات مختلفة أهمها التطوير، هذا في وقت تم التأكيد فيه على رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير خارجيته العنصري أفيغدور ليبرمان لأي عملية انسحاب من الهضبة في المستقبل.
وقد سعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ عام 1967 إلى فرض الأمر الواقع الاستيطاني في الهضبة الذي يعتبر منافياً لقرارات الشرعية الدولية التي أكدت بطلان قرار الضم الإسرائيلي للهضبة الصادر عام 1980، وأكدت عدم شرعية الاستيطان الإسرائيلي الذي يعتبر أحد أهم معالم إجراءات وسياسات الاحتلال في الهضبة السورية.
ومن الناحية الإستراتيجية يعتبر أصحاب القرار في إسرائيل بأن هضبة الجولان المحتلة تشكل موقعا إستراتيجياً هاماً لإسرائيل كما أشرنا سابقاً، هذا فضلاً عن الأهمية المائية التي أشارت الأدبيات الصهيونية الصادرة عن المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية في أغسطس/آب 1897 إليها بوضوح جلي، حيث لا حياة للدولة الصهيونية المنشودة دون تحقيق ذلك -حسب قادة الحركة الصهيونية- وقد أكدت كافة المؤتمرات الصهيونية على ذلك.
ومع إنشاء الدولة الصهيونية يوم 15 مايو/أيار 1948 على الجزء الأكبر من مساحة فلسطين التاريخية، ومحاولة أصحاب القرار فيها جذب مزيد من يهود العالم إليها، بات التفكير الإسرائيلي ينصب على احتلال أجزاء من الأراضي العربية المحيطة بفلسطين والغنية بالمياه لدعم النشاط الاستيطاني في فلسطين وتحقيق خطوات متقدمة من المشروع الصهيوني برمته عبر التوسع مائيا باتجاه الشمال والشمال الشرقي من فلسطين المحتلة.
"
رغم احتلال إسرائيل للجولان قبل 42 عاما ودخولها في مفاوضات عام 1991 فإن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة سعت إلى فرض وقائع استيطانية على الأرض يصعب الانفكاك عنها في حال انطلاق مفاوضات جدية مع سوريا
"
وكانت هضبة الجولان وجنوب لبنان وروافد نهر الأردن في إطار الهاجس المائي الإسرائيلي على الدوام لأسباب ذكرت. ويلحظ المتابع للشؤون الإسرائيلية أنه على الرغم من مرور 42 عاماً على الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان السورية (1967-2009) ودخول إسرائيل عملية مفاوضات منذ نهاية عام 1991، فإن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ ذلك الحين سعت إلى فرض وقائع استيطانية على الأرض يصعب الانفكاك عنها إذا انطلقت مفاوضات جدية مع سوريا، وكان من أخطر هذه المخططات الاستيطانية ما ظهر إلى العلن في بداية ديسمبر/كانون الأول 2004، حيث تمت الإشارة في المخططات إلى إمكانية مضاعفة عدد المستوطنين في الهضبة السورية المحتلة.
ولم تتوقف الأنشطة الاستيطانية، وقد تحدثت الصحف الإسرائيلية في نهاية العام المنصرم 2008 عن مخططات لبناء مئات الوحدات الاستيطانية في هضبة الجولان السورية المحتلة خلال العام الحالي 2009.
وقد استطاعت إسرائيل من خلال نشاطها الاستيطاني تشييد 33 مستوطنة في هضبة الجولان يتركز فيها نحو 18 ألف مستوطن إسرائيلي، في مقابل ذلك تشير الحقائق أيضا إلى وجود نحو 16 ألف عربي سوري في أرضهم في ست قرى سورية بالهضبة.
الجغرافيا والديمغرافيا في الهضبة
في الجانب الجغرافي تشكل مساحة هضبة الجولان السورية 1% من إجمالي مساحة سوريا، حيث تصل مساحتها إلى 1860 كلم2، وقد احتل الجيش الإسرائيلي يوم 5 يونيو/حزيران 1967 حوالي 67.2% من مساحتها، أي تمت السيطرة الإسرائيلية المباشرة على 1250 كلم2 وبهذا تكون قد تحققت الأهداف المائية للحركة الصهيونية ووليدتها إسرائيل.
وقد تمت الإشارة إلى المطامع الصهيونية في مياه الهضبة السورية حين تقدم زعماء الحركة الصهيونية إلى المجلس الأعلى لمؤتمر السلام في باريس يوم 3 فبراير/شباط 1919 بمذكرة يعتبرون فيها أن جبل الشيخ بالنسبة للدولة اليهودية المستقبلية يشكل مصدراً غنياً بالمياه. وجاء في مؤلف الكاتب الصهيوني هوارس مئير كالين "الصهيونية والسياسة العالمية" أن فلسطين بأكملها بأيدي الدولة التي تبسط سيطرتها على الليطاني واليرموك ومنابع نهر الأردن.
وفي الجانب الديمغرافي، استطاع الجيش الإسرائيلي طرد نحو 90 ألف عربي سوري من الهضبة السورية من أصل عدد سكانها آنذاك البالغ 130 ألف نسمة، ينحدرون من أصل 139 قرية و61 مزرعة ومدينتين، ولم يبق سوى ست قرى يقطنها نحو 16 ألف عربي سوري. ولكي تمنع السلطات الإسرائيلية عودة المهجرين من السوريين إلى قراهم، أعلن الجيش الإسرائيلي تلك المناطق مغلقة وعسكرية، وسيطلق الجيش النار على كل من يحاول العودة إلى مكان سكناه، وقد شمل التحذير والقرار أيضاً السكان الذين صمدوا في القرى الست.
وبفعل الزيادة الطبيعية بين أهالي الجولان الذين اقتلعوا منها، يصل مجموعهم في العام الحالي 2009 إلى أكثر من 400 ألف نسمة، القسم الأكبر منهم يقطن في مناطق مختلفة من العاصمة السورية دمشق.
ولتثبيت خطواتها الاستيطانية والتهويدية على الأرض، ولقطع الطريق أمام أية مفاوضات جدية حول الهضبة السورية المحتلة، استصدرت إسرائيل قراراً بضم الجولان عام 1980، ورغم رفضه من الأمم المتحدة واعتباره لاغياً وباطلاً من أساسه، فإن المخططات الإسرائيلية استطاعت عبر الزحف الاستيطاني المنظم إنشاء عشرات المستوطنات كما أشرنا.
وتسعى حكومة نتنياهو إلى تعزيز النشاط الاستيطاني من خلال بناء المزيد من المستوطنات في الهضبة المحتلة وجذب مزيد من المهاجرين اليهود إليها عبر إغراءات مالية لفرض وقائع استيطانية على الأرض يصعب الانفكاك عنها في حال التفاوض بشأنها، إلا أن الموقف الرسمي السوري خلال المفاوضات التي تلت مؤتمر مدريد أكد على الثوابت السورية الداعية إلى الانسحاب الإسرائيلي إلى حدود 4 يونيو/حزيران 1967.
وقد تمحور الخطاب السياسي السوري في المؤتمرات الإقليمية وفي الأروقة الدولية حول تلك الثوابت، وعزز هذا الاتجاه أيضاً تأكيد أهل الجولان في كافة المناسبات الوطنية وخاصة في يوم الاستقلال -الموافق لـ17 أبريل/نيسان من كل عام- أن هضبة الجولان جزء من الوطن الأم سوريا.
"
بين الثوابت السورية والتعنت الإسرائيلي إزاء الصراع على هضبة الجولان، ما تزال الأبواب موصدة أمام انطلاقة مفاوضات جدية محتملة بين سوريا وإسرائيل، خاصة بعد تربع حكومة إسرائيلية أكثر يمينية وعنصرية على سدة الحكم
"
آفاق الصراع على الجولان
المتابع لتصريحات القادة الإسرائيليين بعد تشكيل حكومة نتنياهو، يلحظ بوضوح أن ثمة تعنتا إسرائيليا عند الحديث عن تسويات محتملة مع سوريا بشأن الجولان المحتل، وتؤكد خطابات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وتوصيات مراكز البحث الإسرائيلية ضرورة أن تفضي أية مفاوضات إلى سيطرة إسرائيلية كبيرة على مصادر المياه في الهضبة بحجة الحاجة الإسرائيلية للمياه، ناهيك عن محاولة إبقاء عمق كبير من أراضي الهضبة من جهة الشرق تحت سيادة قوات بمسميات مختلفة تقوم بدور مراقبة للتحركات السورية، أي تقوم بدور مخفر أو مستوطنة إسرائيلية متقدمة. وقد رفض المفاوض السوري تلك التوجهات الإسرائيلية وأصر على الانسحاب الإسرائيلي إلى حدود 4 يونيو/حزيران 1967.
وبعد مرور 42 عاماً على احتلال القسم الأكبر من الهضبة السورية و18 عاماً على انطلاقة مؤتمر مدريد، لم تتقدم عملية التسوية إزاء الهضبة.
وفي عام 2008 حصلت أربع جولات من المفاوضات غير المباشرة حول تسوية محتملة في الجولان بين سوريا وإسرائيل عبر الوسيط التركي، بيد أن سوريا أعلنت على لسان رئيسها بشار الأسد وقف تلك المفاوضات أثناء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بداية العام الحالي.
وبين الثوابت السورية والتعنت الإسرائيلي إزاء الصراع على هضبة الجولان، لا تزال الأبواب موصدة أمام انطلاقة مفاوضات جدية محتملة بين سوريا وإسرائيل، خاصة بعد تربع حكومة إسرائيلية أكثر يمينية وعنصرية في تاريخ الحكومات الإسرائيلية على سدة الحكم في إسرائيل.(نبيل السهلي-الجزيرة)