إنه السبت في 5 حزيران 1982. عنوان «السفير» الرئيسي يقول: «حرب إسرائيلية ضد لبنان: 14 غارة على بيروت والجنوب». كان الاجتياح قد بدأ يوم الجمعة في 4 حزيران.
في 3 حزيران، كتب الزميل مصطفى كركوتي من لندن: «أصيب السفير الإسرائيلي لدى بريطانيا شلومو أرغون إصابة بالغة في محاولة اغتيال تعرّض لها أمام فندق دورشستر في لندن فجر اليوم (...) وقال التلفزيون البريطاني إن شاباً ملامحه شرق أوسطية تقدّم من السفير لدى خروجه من الفندق إثر انتهاء حفل دبلوماسي، وأطلق عليه الرصاص. وذكر أن رجلي أمن إسرائيليين لحقا بالمسلح الذي فر هارباً، وأطلقا عليه النار، مما أدى إلى إصابته أيضاً».
اعتقلته الشرطة، ونبّه الخبر إلى أن شلومو مقرّب من رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن.
أما بيروت فهي في ذلك الوقت، مركز الثورة الفلسطينية، ومدينة تعاني من انقسام سياسي وشعبي، فيما بشير الجميّل يتحضّر للترشّح للرئاسة. كتب جوزف سماحة في عدد الجمعة 4 حزيران، تحت عنوان «الحاكم القوي»: «حين حدد بشير الجميّل، قائد القوات اللبنانية، مواصفات رئيس الجمهورية الذي يريده، كان كمن يصف نفسه. فهو «الماروني»، «القوي»، الذي «لم يهاجر ولم يساوم»، والذي «لا يجيّر مكتسبات المقاومة اللبنانية إلى أحد». تفيض هذه المواصفات حتى عن كميل شمعون، رئيس «الجبهة»، الذي تخلى عن ريمون إده وسليمان فرنجية، وعن ولديه دوري وداني، حتى لا ينفصل عن حزب الكتائب ومشروعه السياسي».
لحظة حادة سياسياً، لكنها تترافق مع فلتان أمني. فلتان من النوع الفارغ والدموي، الميليشياوي، الشوارعي. في 2 حزيران، نشرت «السفير» مجموعة صور لأناس يدفنون أحباءهم وآخرين ينتظرون في طوابير الخبز والأمن والمدرسة، مرفقة بتعليق حمل عنوان «آخ يا قضية»، يقول: «لقد فقدوا كل الأسلحة. فقدوا الأمل والصمود. فقدوا همّ الدفاع عن قضية، فقدوا راحة البال (...) لقد دمّرتنا حروبكم وغاراتكم ونزاعاتكم وعصبياتكم. إنكم بالتأكيد لا تدافعون عن قضية، لا تتقاتلون من أجل قضية، إنكم فقط تحترفون فن الحريق».
أما الخبر الأمني يومها فكان: «تجدد المعارك بين أمل وحزب البعث (العراقي) في البسطة والخندق الغميق وزقاق البلاط». وقد أدّت إلى سقوط 5 قتلى و52 جريحاً. وليفهم المرء سبب التقاتل بينهما، يجب العودة إلى الصفحة الأولى في تلك الآونة. حرب الخليج مستعرة بين إيران والعراق، و«بغداد وطهران تتبادلان الاتهامات بقصف أهداف ومنشآت مدنية».
أضف إلى المشهد صورة أساسية فيه، الحدود اللبنانية الإسرائيلية التي لا تهدأ: «لغم يدمّر سيارة إسرائيلية قرب مرجعيون» و«رابين (رئيس وزراء سابق) يرد على إيتان (رئيس الأركان): الحل العسكري خطأ جسيم» في لبنان.
لكن، هناك دائماً شيء ما يضيء، إلى جانب البارود، في القصة، كملعقة السكر التي تساعد على هضم الدواء. إنه إعلان الصفحة الأولى في عدد 2 حزيران. نص خطّه كبير يقول: «الآن بالأسواق / «فيلم أميركي طويل» / تأليف وتلحين زياد الرحباني / بالحوار الكامل على ثلاثة أشرطة / كاسيت داخل علبة بالسيلوفين / تباع في جميع محلات الأسطوانات / من انتاج وتوزيع ليبافون / 816629». لا ضرورة لتحديد (01) قبل إيراد الرقم، فلا هاتف خلوياً حينها ولا أرقام مفاتيح للمناطق.
على فكرة، في اليوم ذاته، نشرت الصفحة الثقافية رسالة من مهرجان «كان» الجاري في تلك الأثناء، يقول: «سبيلبرغ: إي. تي. شيء من أينشتاين وشيء من همنغواي». لقد صدر الفيلم.
كانت الجامعة اللبنانية قد أعلنت مواعيد امتحانات كولوكيوم الطب العام، ما يخبر عن مضي الحياة على دربها المتعثر المعتاد خلال الحرب. وكان لبنان ينتظر يومياً وصول المبعوث الأميركي فيليب حبيب لحل الأزمة بين لبنان (منظمة التحرير) وإسرائيل. والأخير يتأخر، ويؤخر.
قبل الخوض في يوميات بلدٍ خلال الاجــتياح، من اللطيف استعادة خبر ورد في عدد 3 حزيران، يقول إنه قد «ترددت أنباء أمس عن عزم مجلس الوزراء على اتخاذ قرار بعدم التجديد لرئيس لجنة الرقــابة على المصارف في مــصرف لبنان فؤاد السنيورة»! وعلى فكرة، لقد سبب هذا القرار «مفاجأة الوسط الرسمي والمصرفي، خصوصاً أن السنيورة أبدى تمرساً وكفاءة عاليين في الوظيفة التي تعتبر من أدق المهمات الرسمية على الصعيد المالي والمصرفي»، بحسب «السفير».
.. وبدأ الاجتياح.
«اسرائيل تستبق الغارات بالدعوة لتدمير المنظمة / تل أبيب: العملية رد على حادث لندن وعمليات خرق وقف إطلاق النار في الجنوب». السفير الإسرائيلي ما زال في خطر، وتم اعتقال خمسة يحملون جوازات سفر عربية، و«منظمة التحرير نفت علاقتها بالحادث».
لا يعني النفي شيئاً، فـ«ريغان وهيغ (وزير خارجيته) يتضامنان مع بيغن» وواشنطن ترى بسرعة قصوى أن «الاعتداء على السفير أدى إلى دورة عنف جديدة».
رسم ناجي العلي في العدد الأول من أعداد الاجتياح، أعلى الصفحة الأخيرة: «من الآن وحتى يحين موعدنا مع فيليب حبيب، نستمع إلى فاصل موسيقي تعزفه لنا سيارات الإسعاف في بيروت».
في جريدة يوم الأحد 6 حزيران، 23 شهيداً و53 جريحاً. وبدأت الحياة تسلك مجرى غير معتاد، فتلك ليست حرب شوارع: «نعلن للمدعوين الكرام أنه قد تم تأجيل حفل زفاف السيد مالك زنتوت والآنسة سمر هيكل من تاريخ 17 حزيران 1982 إلى أجل غير مسمى، وذلك نظراً للظروف الراهنة».
بشير يقول: «نأسف لما حصل، ونلفت الفلسطيني إلى ممارساته».
في اليوم التالي، «الجنوب يقاتل» و«غزو إسرائيلي يطوق صيدا وصور والنبطية». والدليل: صورة على الصفحة الأولى ترسل القارئ إلى خبر في صفحة داخلية. كلام الصورة يظهر أن الرجال الثلاثة الماثلين فيها ما هم إلا مقاتلان فلسطينيان يحيطان بأسير. طيار إسرائيلي أسير، منذ اليوم الأول!
لا أحد ينفي معرفة مكانه، لا أحد يخفيه ويطالب بتبادل. لا، أبداً. فمن نص الخبر، يبدو وكأن المطلوب منه عنوانان فقط: إثبات أن معاملة منظمة التحرير كانت طيبة معه، بعد الأسر، ما يعني أن المنظمة التي ما زالت تعرّف بنفسها للعالم، تحترم الحقوق والإنسان في العالم الحديث، ما يتيح لها المطالبة بتطبيقها في التعامل معها. أما العنصر الثاني المطلوب من الطيار الأسير فهو التأكيد على أن إسرائيل قررت الهجوم في وقت سابق، ولم تكن محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي إلا حجة. تأكيد سيتكرر في تموز 2006 حين اجتهدت المقاومة لتثبت أن العدوان كان مقررا في وقت سبق عملية الأسر عند الحدود اللبنانية. في العام 1982، كانت المنظمة تحاول كشف مخططات العدو السرية. أما في العام 2006، فكانت المقاومة تحاول أن تنفي عن نفسها تهمة افتعال عدوان من ذاك الحجم: «عرض الطيار الإسرائيلي الأسير الكابتن أخيعاز أهارون في مؤتمر صحافي عقده مساء أمس في مستشفى غزة، الأهداف التي كان يقصد ضربها في الجنوب وكيفية اعتقاله والمعاملة التي تلقاها من قبل المقاتلين في القوات المشتركة. الأسير أهارون يبلغ من العمر 33 سنة، حضر إلى القاعة التي عقد فيها المؤتمر سيراً على الأقدام يرافقه بعض الحراس، وكان يعالج في المستشفى من الرضوض التي أصيب بها في ظهره. تحدث الأسير باللغة العبرية حيناً والإنكليزية أحياناً، وقال: خرجت لضرب موقع مدفع شمالي قلعة الشقيف، وفجأة أصيبت طائرتي من طراز فانتوم وسقطت من دون أن أجد إطلاقاً الهدف الذي جئت لقصفه».
على «هامش» العسكر والسياسة، استشهد أمين سر نقابة المعلمين المربي سليم النقاش وزوجته، في ذلك اليوم. وقد رسم ناجي العلي ختاماً لصفحاتها: «لا تبكي أحسن ما يشمتوا فينا الحكّام العرب».
في اليوم التالي، أي يوم الثلاثاء 8 حزيران، انتحر الشاعر خليل حاوي. أنهى الشاعر حياته برصاصة خرجت من بندقية صيد ودخلت من الزاوية بين العين اليمنى والأنف. ووجد على شرفة شقته، منذ يومين، في شارع المكحول في الحمراء.
يوم الأربعاء 9 حزيران، أعطت «جامعة بيروت الأميركية» للطلاب حق اختيار التقدّم إلى الامتحانات النهائية. أما «جامعة بيروت العربية» فقد أعلنت بوضوح عن تأجيل امتحاناتها.
في اليوم التالي، وبينما «طائرات ودبابات إسرائيلية تحترق في البقاع وخلده»، ألقت الطائرات الإسرائيلية فوق المخيمات الفلسطينية أقلاما «مطلية بمواد سامة، ما أدى إلى إصابة حوالى 20 شخصاً بالتسمم».
يوم السبت 12 حزيران، تظهر «النداءات»: «غادر عدنان عبد الله كوراني (30 عاماً) منزله في بيروت في سيارة مرسيدس 200 زرقاء اللون موديل 1973، ولم يعد». و«يرجى من فضيلة الشيخ عبد الكريم هواري الاتصال بعائلته في طرابلس الميناء للاطمئنان عليه». النداءات تعلو خلال الحرب، وحربنا كانت طويلة، لم تكن اجتياحاً فحسب، ولم تقتصر الأضرار على الماديات.
يوم الأحد، وجّه (لاحظ طول الألقاب حينها) الأمين العام التنفيذي للمجلس السياسي المركزي للحركة الوطنية محسن ابراهيم نداء أيضاً، لكن إلى المقاتلين: «ثقتنا بانتصاركم الحتمي مطلقة وليكن شعاركم الشهادة أو النصر».
في اليوم التالي، صدرت «السفير» بمانشيت من خمس كلمات: «أيها اللبنانيون، الوطن في الأسر». فقد حاصرت الدبابات الغازية قصر بعبدا (رئيس الجمهورية إلياس سركيس). وقد شهد هذا اليوم أيضاً إعلان وفاة الملك خالد ليخلفه الملك فهد ويعيّن الأمير عبد الله ولياً للعهد في «المملكة العربية السعودية».
تجدر الإشارة الى أنه في تلك الآونة بدأت تظهر اعتداءات في أنحاء العالم على المصالح اليهودية والإسرائيلية، كتفجير مقهيين في باريس. إلا أنها ووجهت بـ«اغتيال المسؤول الفلسطيني حسن كمال (33 سنة) والطالب اللبناني المؤيد للمنظمة عزيز مطر في وسط روما على يد منظمات صهيونية».
على المستوى الداخلي، ورغم الإشارات الكثيرة إلى حجم الشماتة التي يعيشها «حزب الكتائب»، إلا أن الأخبار حتى اللحظة كانت بلا صور. في عدد الخميس 17 حزيران، نشرت صورة في الصفحة الأولى، إلى جانب صور المعارك، فيها «فتاة في بعبدا تقدّم قرنفلة إلى جندي إسرائيلي». في الصورة، هي بصراحة لا تقدمها له، بل تزرعها فوق أذنه لجهة اليمين.
وفي العدد ذاته، أضيفت إلى زاوية «نداءات»، زاوية «مفقود»، وفيها صور أجانب وسيدات وأطفال (أكثر من سواهم) وشبّان. كما تكثفت صور البسطات التي تبيع الغاز وسلع الطوارئ والغالونات في فردان وسواها من مناطق «الغربية».
كانت «السفير» تعنون «وحدنا نقاتل»، وكانت تلك حقيقة على الأرض. إذ كان يحق لإسرائيل أن توقف التسهيلات التي أعطتها لشبكة التلفزيون الأميركية «أي بي سي» وأن تتهمها بأنها انتهكت بشكل خطير الرقابة المفروضة على وسائل الإعلام في وقت الحرب، لأن الشبكة بثت مقابلة مع أبو عمّار! الصورة تحت سلطتها، والخبر كذلك. من يتحرك لأجلنا؟
وبينما إذاعة الرياض تعلن يوم الجمعة 25 حزيران على الصفحة الأولى أن «اجتياح بيروت يبدو وشيكاً»، كان ناجي العلي يرسم في الأخيرة: «نذر عليّ إن خلّفت صبي لأعلّمه كيف يحارب هالأنظمة المهتريّة قبل ما يحارب إسرائيل».
حتى اللحظة، «إسرائيل تعترف بضراوة المعارك، وبمقتل 22 إسرائيلياً وجرح 47». الأرقام سترتفع سريعاً، ويومياً، وستضاف إليها أعداد الآليات المدمّرة. فعلاً، لم تكن بيروت نزهة لطيفة للإسرائيليين، مثلما استنتجوا هم لاحقاً.
لكن، على مستوى لبّ الاجتياح، أسبابه الرئيسية، فقد بدأ الكلام العلني في عدد 28 حزيران: «المقاومة تقدّم تصوراً جديداً لوجودها في لبنان»، لكن أبو عمّار ما زال يؤكد أن «مغادرة بيروت دعاية سخيفة».
في هذه الأثناء، سجّلت «السفير» ولادة ما اعتبرته «تطبيع السير»، إذ ان الباصات العادية والآليات العسكرية التي تحمل كلاماً بالعبرية، تكزدر بأمان في الحازمية. كما ظهر الجنود الإسرائيليون وهم يبتاعون أحذية في بحمدون، أو يجلسون إلى طاولة في مقهى أبو خضر على كورنيش المزرعة، يملأون فراغه ويتصورون. من صورهم، ولد حتى اللحظة فيلمان إسرائيليان شهيران فائزان بجوائز عالمية: «فالس مع بشير»، و«ليبانون».
في 5 تموز، سار مئة ألف إسرائيلي في تل أبيب ضد الغزو. أما مرفأ بيروت فلم يعد يقصده أحد، حتى مالكو الباخرة «جميل» أعلنوا «للسادة الشاحنين لبضائعهم على متنها من مرفأ كالاتز إلى مرفأ بيروت»، أن الباخرة متوقفة حالياً في مرفأ اسطنبول، «حتى إشعار آخر».
أما في عدد اليوم التالي فيقول عنوان الصفحة الأولى إن «بيروت أسيرة حرب التجويع والقصف»، وفي أسفل صفحة داخلية يرد عنوان صغير يقول: «مي المر تتابع مديح الغزاة».
مرّ شهر على بدء الغزو، حتى اللحظة. و«كشفت إذاعة إسرائيل عن تمرّد داخل إحدى الوحدات الإسرائيلية المرابطة في لبنان»، وقد أرسل المتمردون رسالة إلى بيغن يطالبونه بإقالة وزير دفاعه أرييل شارون. لا، لن يقيله. لكن سيتشاجر معه في 10 تموز.
يوم الثلاثاء 13 تموز، نشر خبر غريب: «لوحظ في اليومين الماضيين انفراج واسع في أزمة الخضار والفاكهة لم يرافقهما انفراج في الأسعار. وتقول بعض المصادر وعدد من تجار الجملة إن مصدر هذه المنتوجات هو إسرائيل، لا سيما بالنسبة إلى البطيخ. ومما يرشح صحة هذه المعلومات كون معظم المعابر مقفلة والحصار التمويني ما زال قائماً بين الشرقية والغربية، إضافة إلى التدهور الأمني الواسع خلال يومي السبت والأحد، التاريخ نفسه الذي أنزلت فيه الخضار والفاكهة إلى الأسواق. وهكذا، فإن الإسرائيليين وميليشيات الكتائب يشددون حصارهم التمويني فقط على الإنتاج الزراعي اللبناني للافساح في المجال أمام المنتوجات الإسرائيلية مقابل أثمان مرتفعة جداً».
وبدأ اقتراح المخارج.. تحت النار.
«دمشق ترفض طلباً أميركياً باستضافة المقاومة / خدام: قرار سوريا نهائي ولا عودة عنه تحت أي ظرف» (الجمعة 16 تموز). لقد بدأ الحديث عن ترحيل المقاومة الفلسطينية من لبنان يتخذ منحى جدياً: «ريغان يوسّط السعودية، ورابين يقترح انتقال الفدائيين إلى طرابلس كمرحلة أولى». أما الجنوب فتقترح تل أبيب صيغة له: «حداد لاند من الأولي إلى القرعون».
ولتوصيف الوضع بدقة في بيروت، سنلجأ إلى عنوان من الصحف الفرنسية نقلته «السفير» في عدد 17 تموز: «بيروت صامدة... ظهرها إلى الحائط في مربّعها الأخير».
وفي اليوم التالي، اعتذرت «السفير» من قرائها عن توزيع أعداد الاشتراكات في بيروت، وارتفعت النداءات إلى «المحسنين من الجمعيات الخيرية». وحلّ عيد الفطر في يوم 21 تموز من هذا العام.
تفجير المصالح اليهودية والإسرائيلية في العالم يستمر، أما سعر صرف الدولار في بيروت فهبط من 512.50 قرشاً إلى 507.50 قرشاً (عدد 24 تموز).
في عدد اليوم التالي، ترشّح بشير الجميل، و«المسلمون يرفضون رئيس الأمر الواقع». الشركات تعلن أنها نظراً للظروف ستحسم أيام العجز عن الوصول إلى مراكز العمل، من إجازات موظفيها في فروع «الغربية»، الاجازات السنوية والمتراكمة.
تشتد حدّة المعارك، «قصف بيروت براً وبحراً وجواً.. وبيغن يهدد بتدميرها»، فسقط في الروشة وحدها يوم 28 تموز 84 شهيداً و142 جريحاً. ماذا يجري؟ فيليب حبيب يأتي بمشروع جديد لترحيل المقاومة، وبيغن ينتظر «تعهداً خلال 48 ساعة بمغادرة الفلسطينيين بيروت ولبنان».
بيروت باتت جحيماً.
في 31 تموز، تصدر قصيدتان جديدتان لمظفر النواب، «نداء إلى الطيارين العرب» و«صامدون».
في عدد 1 آب، تخبر «السفير» عن «تدمير 250 بناية في 4 ساعات». ورغم ذلك، الحياة تجد طريقها إلى الاستمرار! ففي العدد ذاته، نشر إعلان يفيد بأن «كاتب عدل بيروت الأستاذ خليل محيو يداوم في منزله حالياً ـ رأس النبع ـ شارع الحوت ـ جانب فرن الغزيري».
وفي الثاني من آب، «185 ألف قذيفة و210 غارات خلال 15 ساعة». واسرائيل «تقصف دار الأيتام مجدداً».
في هذا الخط التصاعدي، تصدر «السفير» بمانشيت: «بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء»، عدد من أربع صفحات، تم توزيعه باليد يوم الخميس 5 آب، في شارع الحمراء والمناطق المحيطة. لم تصدر الصحف يومها، لشدة التدمير. إلا أن «السفير» أرادته عدداً لإثبات الوجود، رغم أنف الإسرائيلي. فدخل تاريخها.
يوم الاثنين 9 آب، يخبر ناجي العلي ما قالته أم لطفلها: «جدك استشهد بعين الحلوة، وأبوك بالبرج الشمالي، وأخوك بشاتيلا». فيجيبها طفلها: «أنا يمّه بدي استشهد بحيفا».
فكرة الرحيل بدأت تترسخ: «سوريا توافق على استقبال المقاتلين الفلسطينيين» (عدد 11 آب)، وفي اليوم التالي يبرق عرفات للرئيس حافظ الأسد شاركاً قبوله استقبال الفدائيين.
على المستوى الداخلي، كان لبنان يشكي من «نهب الجنود الإسرائيليين لمطار بيروت الدولي». قصة ستجد تتمتها في عدد لاحق، نقلاً عن الإذاعة الإسرائيلية: سرق جنديان إسرائيليان طائرة من مطار بيروت وفرّا بها إلى تل أبيب، وألقت الشرطة الإسرائيلية القبض عليهما هناك، لهربهما من جبهة جهنمية، لا لسرقتهما الطائرة (19 آب).
الوضع بات مجنوناً. «الصليب الأحمر» يوجه نداء لأمهات العالم للضغط من أجل فك الحصار. قوات الغزو استولت على مجلس النواب، وصلت الأم تيريزا إلى لبنان عبر جونيه، والاعتصام النسائي في «الأميركية» لفك الحصار دخل يومه الرابع عشر (13 آب). وهناك رجل مقعد يطلب آلة كاتبة لأن «آلتي احترقت مع بيتي، وهي تساعدني على متابعة حياتي بعدما فقدت كل شيء».
أبو عمّار يتجهّز للرحيل، ويقول لوفد الكتّاب والفنانين المصريين الذي أتى لدعم الصامدين: «بيروت أعطتنا ما لم تعطه مدينة، وقرارنا بالخروج يستهدف الحفاظ عليها». الوفد يضم: الكاتبة فتحية العسّال، المخرج علي بدرخان، الكاتبين المسرحيين ناجي جورج وأمين الهنيدي، والصحافي جلال الغزالي (16 آب).
في اليوم التالي، تخبر «السفير» أن «اتفاق بيروت في صيغته النهائية.. والتنفيذ السبت».
في هذه الأثناء، كان النواب المسلمون يقاطعون جلسة انتخاب بشير الجميل رئيساً. وفي عدد 22 آب، «بيروت المحاصرة زحفت لوداع المقاتلين» الذين خطب بهم أبو عمار أمس، بحضور الفنانة المصرية ناديا لطفي، التي ستبقى في بيروت لتودع الراحلين، دفعة تلو الأخرى، حتى نهاية الرحيل، تحت لافتة تقول: «من شعب مصر إلى أبطال بيروت، لقاؤنا معاً على أرض فلسطين»، ممهورة بتوقيع «الفنانون المصريون».
على فكرة، حتى هذا اليوم، لا يزال رجال الدفاع المدني يسحبون الجثث من بناية عكر في الصنائع التي دمرها الطيران الإسرائيلي قبل 3 أسابيع. اليوم، انتشلوا 15 شهيداً، من بينهم الطفلتان: ميشيلا وجمال الأطرش. البناية يقطنها 250 شخصا، وتم تدميرها بقنبلة فراغية.
كتب جوزف سماحة في عدد هذا الأحد، تحت عنوان «جيلنا»: «لن تأخذنا الشعارات مباشرةً إلى السياسة، لكنا لن نتخلى عن شعاراتنا وطموحنا وأحلامنا. إننا نشعر بانكسار داخلي عميق، أمام هذا المشهد الختامي للمرحلة الأولى من حياتنا السياسية، لكنه انكسار استفزازي يؤسس على الأرجح لبداية جديدة يتوجب على الجميع حسابها بجدية».
غداً، الإثنين 23 تموز، سينهي النساء اعتصامهن الذي دام 23 يوماً في مستشفى «الأميركية»، وستعقد جلسة ثانية فاشلة لانتخاب الرئيس. لم يعن ذلك شيئاً، فلقد انتخب بشير رئيساً بأكثرية 53 صوتاً.
حاول البعض، كسليمان فرنجية ورشيد كرامي، رفض الانتخابات، «والشمال منطقة محررة». رحلت الدفعة الرابعة من المقاتلين إلى تونس. ناديا لطفي لا تزال في وداعهم. ومتحدث باسم بشير «يبشّر باستفتاء على معاهدة صلح» مع إسرائيل.
يوم الثلاثاء 31 آب سيحمل مانشيت «السفير» التي تقول: «إلى اللقاء... ياسر عرفات».
الشركات تدعو موظفيها إلى الالتحاق بمراكز عملهم «تحت طائلة المسؤولية»، ولغم يصرع المصور الصحافي عبد الرزاق السيد، وتعليق امتحانات الشهادة المتوسطة لهذا العام، ومعارضة شعبية وسياسية لاخلاء المهجّرين قبل تأمين منازل لهم.
تستمر الغارات الإسرائيلية، بينما تنسحب القوات الأجنبية: أولاً الأميركيون، ثم الإيطاليون، فالفرنسيون. وتصدر جريدتان إسرائيليتان بالعربية والإنكليزية (السعر 200 قرش، كجريدة «السفير» حينها) في الجنوب: «الأنباء» و«جيروزالم بوست».
وضع غريب، سقوط القتلى والأبنية يستمر ولا يعيق «التوصل إلى اتفاق»، حتى بات يشبه وضعاً مسلماً به، إلى أن.. «اغتيال الرئيس المنتخب بشير الجميل» (عدد الأربعاء 15 أيلول). رسم ناجي العلي بيت الكتائب ينزف بغزارة دماً وصلباناً. يحاول كتّاب «السفير» الحداد، على مستوى وطنيّ، وتحية «القوات» على عدم تهوّرهم انتقاماً، وتحليهم بالصبر في هذه اللحظة.
ولكن..
«هجوم إسرائيلي على بيروت من خمسة محاور»، «شلل يصيب المصارف والمؤسسات وتهافت على شراء الوقود والخبز».. يوم الجمعة 17 أيلول، أعلنت «بيروت تحت الاحتلال الإسرائيلي».
سجّلت «السفير» في هذا اليوم: «مقاومة عنيفة للغزو في الحمراء والمزرعة والمنارة والمصيطبة والغبيري، تدمير وإصابة 8 آليات إسرائيلية».
كان ذلك التمهيد.. وتلك هي الجريمة: «مذابح في المخيمات» (عدد 19 أيلول). في ساعات قليلة، ذبح 1400 مدني فلسطيني ولبناني.
لا صورة لناجي العلي في هذا اليوم. ولا في اليوم الذي سيليه.
سيعود متعددو الجنسيات لمنع المذابح، بعد وقوعها. وسينتخب أمين الجميل بأكثرية 77 صوتاً.
ولن يعود ناجي إلا في 22 أيلول، ليرسم ستاراً مسرحياً هو العلم اللبناني، يجتمع نصفاه في لحظة «النهاية». وتحت الكلمة، ترى العين موتى بعضهم فوق بعض، بلا وجه ولا عمر ولا أرض ولا هوية، موتى فقط. (سحر مندور -السفير)