كان شاكر حسن آل سعيد (1925 - 2005) من أكثر فنّاني العراق نفوذاً وإنتاجاً. فمن موقعه كمنظّر وأستاذ ومؤرِّخ، جسّد توليفاً استثنائياً للحداثة والإسلام والعروبة علماً بأن فلسفته للفن كانت متجذّرة في الصوفية الإسلامية والفكر الغربي الحديث: فإذا به يجمع بين البنيوية، والسيميائية، والتفكيكية، والظاهرتية (الفينومينولوجيا)، والوجودية. إن أعماله تمثّل نماذج" "عراقية" تحاور حالتي الحداثة وما بعد الحداثة. وقد رسمت نظرياته ملامح فن معاصر فريد "عربي إسلامي" ممهداً السبيل للبديل الممكن لتقييم الفن المحلي والإقليمي استناداً إلى فئات مغايرة لتلك التي تسمح بها شريعة تاريخ الفن الغربية الاستثنائية.
مع جواد سليم، شارك آل سعيد في تأسيس جماعة بغداد للفن الحديث في العام 1951 وكتب أول بيان صادر عنها. وقد عبّرت أعماله في خمسينيّات وستينيّات القرن العشرين عن مُثُل روّجتها الجماعة في بحثها عن نمط محلي مميّز يجمع بين النزعتين المحلية والدولية ويعبّر عن الفردية والاستقلالية في آن: "كنا نريد أن نوضح للفنان العراقي عامة، ولأنفسنا كجماعة فنية خاصة، بأن استلهامنا للتراث في الفن هو المنطلق الأساسي للوصول بأساليب حديثة إلى الرؤية الحضارية". [1]
وفي ظل تأثير الصوفية، تحولت أعمال آل سعيد إلى بحث في المجال الروحي في الفن من خلال التجريد. بيد أن بحثه هذا لم يكن يركّز على مضمون الفن وشكله وحسب، وإنما يتخطاه لينظر في المعنى المعرفي للفن بحد ذاته. في الواقع، يعدّ مفهومه لصناعة الاتجاه الفني شكلاً من أشكال الفن الجمالي الإسلامي الجديد بمبادئه التي تؤيّد إلغاء الفردية. فلم يكن يعتبر الفن عملية "خلق" وإنما "تأمّل". إنه بطبيعة الحال تأمّل في مجد الله حيث تنحلّ الذات الفردية في الذات الأبدية. وقد فسّر مفهوم "الفن التأملي" في البيان التأملي الذي أصدره في العام 1966 [2]. فإذا به يعتبر التأمل دعوة الفنان الحقة بما أن الفن التأملي يسلّم بالعالم خليقةً تكون فيها البشرية جمعاء، بمن فيها الفنانون، قادرة على التعبير عن آرائها وحسب. وبهذا، أصبح الفن التأملي وصفاً مجرّداً للوجود وقوة إيجابية توحّد البشرية مع الكون. ولا معنى لهذا الوصف إلا من خلال الارتقاء من الذات إلى المستوى الكوني والهبوط من المستوى البشري إلى المستوى الجنيني.
حرص آل سعيد على التوقّف عند نوعين من التأمل: السلبي والإيجابي. فرأى أن التأمل السلبي ليس إلا شهادة على "الحقيقة" المتواجدة في الكون، تتحول إلى إيجابية فقط عند اكتشاف "الحقائق الكونية" من خلال الأعمال الفنية. [3] فالفن بالنسبة إليه شكل آخر من العبادة. وبناء عليه، لا يعتبر آل سعيد التأمل تعبيراً عن الروح كما في التجريد، أو عن المرئي كما في الاتجاهات التصويرية، أو عن اللاوعي وعالم الأحلام كما في السريالية، أو عن الزمان والمكان كما في التكعيبية. لذا، يصف العالم من خلال تحقيق وجوده برفع ذاته إلى مستوى التأمل الظاهراتي. [4] وبالتالي، يشكل الفن التأملي فناً روحياً يدمج بين الظاهر والباطن (فيعبّر كل منهما عن الآخر). وليس التعبير التجريدي إلا البداية.
تخلّى آل سعيد عن التعابير الرمزية تدريجاً ليعتمد الحرف العربي كنقطة التقاء يرتكز عليها في مؤلفاته. وفي خلال الفترة الممتدة من العام 1958 إلى العام 1965، شكل الحرف جسر العبور من الرمزية إلى التجريد، فباتت الحروف والكلمات وسائط تتماهى في المؤلَّف أو تظهر كجزء من الجسد الإنساني (أسرة مشرّدة، 1961). وقد عرضت أعماله الكاملة تجارب فريدة ومهمة مع الحرف العربي في الفن العربي المعاصر يمكنها أن تلخّص وحدها التاريخ الكامل للحروفية. فمن شأن افتتانه بالخط، الظاهر في أعماله الأولى أيضاً، أن يشكل تجربة فريدة من نوعها في تأمل الزمان والمكان ومحاورتهما. وقد برز فهم آل سعيد للزمان من خلال انطوائه في المكان في مختلف مراحل تطوره الفني. وظل لتجاربه تأثير بالغ على مفهوم الزمان في الفن العراقي المعاصر.
بدأ آل سعيد بالبحث في مفهومي الزمان والمكان وعلاقاتهما باكراً كعضو في جماعة بغداد للفن الحديث ومُثُلها حيال استلهام التراث المستند بحد ذاته إلى مفهوم انطواء الزمان والمكان. ومع ذلك، كان البعد الواحد المجسّد لنظريته المركّبة، بما تشمله من فلسفة وتقنية وأسلوب، البدايةَ وأوج بحثه في الحرف العربي. [5] فقد عبّر عن العلاقة المتبادلة بين الزمان والمكان، والمرئي واللامرئي، مؤكّداً تشابهها مع العلاقة القائمة بين الجسد والروح. [6] وقد اعتمد على دراسة مرلو - بونتي حول المنظور واللامنظور [7] ليحدد البعد الواحد بين مجاز هذين العنصرين. فمن وجهة نظر فلسفية، يعتبر آل سعيد أن البعد الواحد هو الأبدية أو امتداد لماضي الزمن السابق لوجود سطح اللوحة، إلى الباطن. ويرى أن وعينا للعالم هو وجود نسبي. فهو يمثل وجودنا الذاتي فيما يشكل غيابنا وجودنا الأبدي. [8]
ويعتمد تحقيق البعد الواحد على تحويل الوعي الحضاري من خلال الأبعاد من مستوى الأزل إلى الآن، فمستوى الأبد. [9] وبفعل تخطّي السطح يتحول الوجود النسبي إلى وجود أبدي. فيفترض "البعد الواحد"، كمنهجية لتأمل العالم المرئي، أن سطح اللوحة الثنائي الأبعاد يشكل وجوده أيضاً قبل أن يغدو سطحاً. ولا ينتهي العمل الفني أو يبدأ عند السطح وإنما يتغلغل عبره إلى العالم الآخر. أما الخط، بمعناه الفعلي كسلسلة متواصلة من النقاط الخالية من الأبعاد المرئية أو المادية، فيشكل أبدية السطح. ويعود تحديد آل سعيد للخط إلى الفكر الإسلامي. فوفقاً للخوارزمي (توفي في العام 846)، يساوي الخط بعداً واحداً يقتصر على الطول ولا يمكن رؤيته إلا بوجود السطح (الطول والعرض). [10] وأضاف إخوان الصفا (في نهاية القرن العاشر ميلادي) أن أصل الخط المرئي نقطة إذا ما تم ضبطها، يصبح الخط مرئياً. [11] وبالتالي، يعدّ الخط التحليل النظامي للبعد الواحد.
إلا أن آل سعيد كان يسعى من خلال مفهومه للبعد الواحد إلى بلوغ التجذر المكاني الذي حدده على أنه دراسة اختزالية في جوهر البنية التحتية تتخذ شكل "المنهجية الأثرية" ويشمل التجذر الزماني أيضاً. وكان يعني به تحقيق التقاطع بين الإيديولوجيا (إيديولوجيا التفكير الفني المركّز على التصوير من خلال المجال الثلاثي الأبعاد) واليوتوبيا (تجارب المرحلة التجريدية اللاحقة)، والاندماج، والتدمير. وقد استمد تحديدي الإيديولوجيا واليوتوبيا من كتابات بول ريكور بحيث أنه يمكن تحقيقهما عبر خطوات تحاور انطواء معيّن للزمان والمكان. فيعبّر عن "الزمان الحالي" من خلال الوسائط المكانية.
تقنياً، حاول آل سعيد تحقيق التجذر المكاني من خلال السمو على السطح التصويري. فباختراقه له عبر الشقوق والفتحات، نجح في تأمين أواصر التواصل بين عالم الفن الثنائي الأبعاد والفضاء المجرّد من الأبعاد. أما وجود السطح فيكون مصوّراً من خلال الأبعاد نفسها بحيث أن الفضاء يتحول إلى بعد فيما يتحوّل البعد إلى لا بعد (رسائل الزمان والناس والطبيعة والفكر). ولكن "التجذر المكاني" بقي بالنسبة إلى آل سعيد رؤية فنية تعتمد على الأبعاد. فرأى أن الفضاء ملكية للفنون التشكيلية خلافاً للزمان الذي لم يكن سوى عنصر ثانوي واعتبر أن الفتحة في سطح اللوحة تشكل فراغاً زمنياً. وقد اختبر تقنية أخرى تمثلت بالرسم على السطح المزدوج: أي الرسم على الجانبين. وفي هذه التقنية، حرص على تشخيص الزمان كعنصر فني في تلقّي اللوحة عبر حركة التجسيد الدائرية الكاملة التي يقوم بها المشاهد حول اللوحة.
يعود توله آل سعيد بفكرة البعد الواحد إلى قدرته على إدراك تطور الشكل من الشرق الأدنى القديم إلى القرون الوسطى (العصر الإسلامي) عبر الأساليب الحديثة، ما سمح بتأمين الاستمرارية التاريخية من دون إنكار الانقطاع وبشّر بالتجلّي المطلق لاستلهام التراث الذي بات بالنسبة إليه مرادفاً لاستلهام الحرف باعتبار الحرف أو الرقم المنطلَق للوصول إلى معنى الخط كقيمة جمالية خالصة. [12]
فضلاً عما تقدّم، اختبر آل سعيد علم الجفر في دراساته حول البعد الواحد من خلال الحرف وسعيه إلى تحقيق مفهوم الزمام أي نقطة الالتقاء بين البداية والنهاية. وتعتمد هذه الرمزية الرقمية للحروف التي أنشئت كعلم في العصر الإسلامي على الحرف كتصوير للفضاء وصفاته، وعلى العلاقة القائمة بين الحروف والأرقام، بحيث أن الحروف تمثل صفات المواد فيما تكشف الأرقام خباياها. [13]
أفضت تجارب آل سعيد في الزمان والمكان إلى ما يعرف بتجربة "فن الحقيقة المحيطية". وكشكل جديد لتحقيق البعد الواحد، بات استلهام السحنة الجدارية هوسه الأخير بتعبيره عن انطواء الزمان في الفضاء إلى حين وفاته في العام 2005 نتيجة لاكتئابه السريري الثاني الذي أوهنه في العام الأخير من حياته. إن أعمال آل سعيد شاهد على عمق الاختلاف النظري والتاريخي (المحلية) بالرغم من نقاط التشابه المرئية "الشاملة".
ملاحظات:
آل سعيد كما ورد ذكره في شربل داغر، الحروفية العربية: فن وهوية، بيروت، شركة المطبوعات والتوزيع، 1990 : 75.
صدر البيان أولاً في الصفحة الثامنة من العدد 880 من الصحيفة العراقية الجمهورية. ومن ثم، نشر آل سعيد مقالاً بعنوان "ملحق ضد الترف الفني" في العام 1966 في العدد 887 من الصحيفة نفسها. وقد استخدمت كلمة ترف في هذا الموضع بالتحديد لتدل على الوعي الطبقي بمدلولاته المرتبطة بالغرور الشخصي والتشامخ وقدرته على التلقين الفني. فيرى آل سعيد أن الترف الفني يشوّه العمل الفني في فكر المشاهد قبل رؤيته العمل، فيصبح بعيد المنال. ويظهر الترف الفني بشكلين: تأليه الفنان كما في المفهوم الغربي للفنان الخالق من جهة، والتجسيد المادي للفنان كما في المقاربات الواقعية والطبيعية والواقعية الاجتماعية. آل سعيد، الحرية في الفن، عمان، الأردن، دار الفارس للنشر والتوزيع، 1995: 161 - 165.
المصدر نفسه، 156 - 159. مع ذلك، يعترف آل سعيد بأن الفنان محدود بوجوده الفاني والمؤقت، ما يمنعه عن التعبير عن الحقيقة الكاملة. مؤسسة عبد الحميد شومان، دارة الفنون، مقابلة مع شاكر حسن آل سعيد، تسجيل فيديوي.
آل سعيد، "البعد الواحد: فلسفة ورؤية"، في آل سعيد، حوار الفن التشكيلي، عمان، الأردن، مؤسسة عبد الحميد شومان، دارة الفنون، 1995: 135.
ساهم اكتشافان في تشكيل المفهوم. تمثّل الأول باطلاعه على الفن الحديث في مختلف معارض (غاليري) شارع السان Rue de Seine في طريقه إلى كلية الفنون الجميلة. أما الثاني فيكمن في اكتشافه الأروقة المخصصة لحضارة بلاد الرافدين في متحف اللوفر ولا سيما السومرية منها التي ظلت صلته الوحيدة بماضيه الثقافي والفكري. فأدرك العلاقة القائمة بين الفن الحديث والفن القديم ولا سيما ارتباطاً باهتمام الفن الحديث بالكثافة اللونية المميِّزة للنقوش السومرية.
آل سعيد، "البعد الواحد: فلسفة ورؤية"، في حوار الفن التشكيلي، 127.
بول كروثر، علم الجمال النقدي وما بعد الحداثة، أوكسفورد، كلارندون برس، 1993: 38 - 39.
آل سعيد، الحرية في الفن، 100.
آل سعيد، دراسات في الزمان المكاني، لائحة المعارض، عمان، المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة، 1992.
الخوارزمي، مفاتيح العلوم؛ في "البحث عن رؤية جديدة"، 169.
إخوان الصفا، رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، الجزء الأول، بيروت، دار بيروت ودار صادر، 1975، 79.
آل سعيد، البيانات الفنية في العراق، 1975: 39.
أحمد البني، شمس المعارف الكبرى، كما ورد ذكره في آل سعيد، "الحروفية والمصالحة وعلاقتهما بالفن في الشرق الأوسط"، في حوار الفن التشكيلي، 320.
ندى الشبوط
[img]http://www.jablah.com/uploads/extgallery/public-photo/medium/-----------...
[img]http://www.jablah.com/uploads/extgallery/public-photo/medium/---------19...
[img]http://www.jablah.com/uploads/extgallery/public-photo/medium/-----------...
[img]http://www.jablah.com/uploads/extgallery/public-photo/medium/-----------...
[img]http://www.jablah.com/uploads/extgallery/public-photo/medium/-----------...
[img]http://www.jablah.com/uploads/extgallery/public-photo/medium/-----------...