ألياس سحاب
لا شكّ في أنّ مؤرّخي الفنون العربيّة في القرن العشرين سيقفون طويلاً أمام ظاهرةٍ استثنائيّةٍ أثبتتْ وجودَها، بل تألّقَها ولمعانَها أيضًا، في ثلاثة حقولٍ رئيسة: الموسيقى، والمسرح، والإذاعة. إنها ظاهرةُ زياد الرحباني، ابنِ الفنانيْن الكبيريْن عاصي الرحباني وفيروز. وسيتوقّف المؤرّخون وقفةَ حائر أمام هذه الظاهرة الفنيّة المتألّقة لأنّها كانت تعبّر عن نفسها في كلّ حقلٍ بأساليبَ شديدةِ الغرابة والتجدّد والتفرّد... حتى لكأنها نبتةٌ بريّةٌ، غريبةٌ عن القوانين الطبيعيّة التي تحْكم النباتاتِ الأليفة، مع أنّ جذورَها ضاربةٌ عميقًا في أرض هذه الفنون، قبل أن تتمرّدَ وتعبّرَ عن نفسها بأشكالٍ ومضامينَ جديدة.
وفي هذا المجال لا بدّ من تأكيد مسارين متداخلين ومنفصلين، تكوّنتْ فيهما العناصرُ المميّزةُ لشخصيّة زياد الفنّيّة المركّبة:
1) المسار الجينيّ الذي جعله وريثًا شرعيّاً لإرثٍ فنيٍّ مركّبٍ ومتعدّدِ العناصر، ورثه عن والده الموسيقيّ والشاعر الغنائيّ والمسرحيّ المتميّز عاصي، وورثه عن والدته المطربة والمؤدّية المتميّزة فيروز. لكنْ من العبث والظلم اعتبارُ هذه الوراثة الجينيّة مسؤولةً وحدها عن تميّز شخصيّةً زياد الفنّيّة؛ ذلك أنّ العائلة الرحبانيّة أنجبتْ ورثة كثيرين لم يصل أيٌّ منهم إلى مستوى زياد في أيّ من تلك الحقول. ويصحّ الأمرُ بالدرجة نفسها إذا خرجنا من الدائرة الرحبانيّة: فالقاعدة، لا الاستثناء، هي أن يكْبر أبناءُ عباقرة الموسيقى أو المسرح وهم أبعدُ ما يكونون عن عبقريّة آبائهم.
2) المسار الفنيّ الذي تكوّنتْ فيه شخصيّةُ الطفل زياد في إطار والديه، عندما كان ما يزال في سنّ التكوّن والتلقّي. لكنّها ما لبثتْ، حين بلغتْ مرحلةَ النضج، أن انطلقتْ في المسارات المتجدّدة إلى درجة الغرابة، بل التناقض أحيانًا مع عناصر تكوينها التأسيسيّ.
أما ملامح العصر الفنيّ الذي ظهر فيه زياد، فيمكن اختصارُها بأنها تَجْمع بين ذروة عصر النهضة الموسيقيّة والمسرحيّة والإذاعيّة في لبنان في الربع الثالث من القرن العشرين، وبين بداية ذبول هذه النهضة تحت ضربات الحرب الأهليّة اللبنانيّة في السبعينيّات والثمانينيّات ــ وهما العقدان اللذان شهدا بالتزامن تفتّحَ بذور الإبداع عند زياد، ووصولَ هذا الإبداع إلى أعلى ذراه في الحقول الفنيّة الثلاثة.
فـي الـمـوسيقـى
لا يغيبنّ عن البال أنّ المواهب الفطريّة الموسيقيّة الاستثنائيّة التي وُلدتْ مع زياد شكّلت العنصرَ الأساسَ في إبداعه الموسيقيّ؛ فلولاها لما أمْكنَ التربيةَ الموسيقيّةَ التي تلقّاها، ولا البيئةَ الموسيقيّةَ التي تكوّنتْ ونمتْ فيها شخصيتُه، أن تعطيا الثمارَ الناضجةَ والمتنوّعةَ التي ملأتْ أشجار بستان إبداعه الموسيقيّ.
هذه ملاحظة أولى. أما الملاحظة الثانية فهي أنّ إتقانه المبكّر للعزف على آلتين شديدتَي الاختلاف، هما آلةُ البزق التي تنطق بروح الشرق (وكان قد ورثها عن والده مباشرةً) والبيانو التي تنطق بروح الغرب (وكان قد تلقّى عليها دروسًا جادّةً إلى جانب علوم الموسيقى الغربيّة)، كان ذا أثرٍ مبكّرٍ في اتساع آفاق التعبير الموسيقيّ لديه. وهذا الأمر كانت له أفضلُ النتائج عندما بلغ زياد مرحلة النضج الفنيّ: إذ كبر، وكبر معه عشقُه للآلتين.
من المؤكّد أنّ زياد تربّى، منذ تفتّحتْ عيناه وأذناه على الدنيا، في الورشة الفنيّة الباذخة للأخوين رحباني وفيروز. وهذا ما أتاح له، في الغالب، الاطّلاعَ على أجواء ولادة الأعمال الفنيّة، كلامًا ولحنًا، ثم الغوص في ورشة التنفيذ الفنيّ مع الأوركسترا. ولا شكّ في أنّ وعيه الفنيّ كان ينضج بالتوازي مع تعمّق تجاربه العمليّة تلك في الورشة المذكورة.
ومن المؤكّد أيضًا أنّ هذه التجارب التأسيسيّة البالغة الغنى لم تتمّ عفويّاً، بل برعايةٍ خاصّةٍ أبيه العبقريّ، الذي كان بلا شكّ أولَ مَنْ تنبّه إلى مواهب ولده المبكّرة. ويبدو أنّ هذه الرعاية أتاحت لمواهبِ زياد التنفّسَ بشيء من الحريّة، بعيدًا عن الإكراه التربويّ، بدليل أنّ ظهوره الفنّيّ الأول في مطلع السبعينيّات تمّ بعملٍ مستقلٍّ له، هو مسرحيّة سهريّة.
قد نجد في نصّه المسرحيّ الأول هذا تأثّرًا مباشرًا ببدايات الأخوين رحباني الإذاعيّة والمسرحيّة. لكننا إذا انصرفنا إلى الناحية الموسيقيّة، فسنجد أنّ ألحان تلك المسرحيّة كانت البشير المبكّر بنفَسه المشرقيّ الخاصّ، الذي يختلط فيه تأثرُه بالفولكلور المشرقيّ، كما بالنفَس الشرقيّ في الموسيقى الرحبانيّة، إلى جانب تأثرٍ واضحٍ بألوان فيلمون وهبي. وهذا هو الطابعُ الذي طغى على لحن زياد الأول لفيروز "سألوني الناس عنك يا حبيبي،" في مسرحيّة المحطّة في العام 1973.
بعد ذلك، عادت بداياتُ زياد الموسيقيّة الأولى تغرف من ينابيع الأخوين رحباني، في نفَسها المتأثّر بألوان الموسيقى الغربيّة. وقد بدا ذلك واضحًا في ألحان مثل "قدّيش كان في ناس" (1973) و"نطّرونا كتير" (1974) و"حبّو بعضن"(1975).
لكنّ استقلال شخصيّة زياد الخاصّة في ألحانه لفيروز بدأ يعبّر عن نفسه بشكلٍ واضحٍ وناضجٍ منذ العام 1979، وذلك في لحن "وحدن" (من أشعار طلال حيدر). كما أنّ الأسطوانة التي تحمل عنوان هذه الأغنية تضمّنتْ ثلاثةً من ألحان زياد ذاتِ النكهة العربيّة، ولكنْ في إطار الشخصيّة الخاصّة التي أشرنا اليها؛ وهذه الألحان هي: "أنا عندي حنين،" و"بعَتِلكْ،" و"حبيْتَكْ تنسيتِ النوْم."
في هذه الاثناء، أيْ في النصف الثاني من السبعينيّات، بدأ زياد بإنتاج عمله المسرحيّ الناضج (قياسًا إلى مسرحيّته الأولى سهريّة)، وتمثّل في نزل السرور وبالنسبة لبكرا شو؟. وفيهما سنلاحظ نضجًا واضحًا للونٍ موسيقيٍّ كان يُطلّ برأسه بخجلٍ منذ سهريّة، ألا وهو عنصرُ السخرية في الموسيقى والغناء. ومع أنّ هذا العنصر سبق أن أعلن عن نفسه في تجارب كبار الملحّنين أمثال سيّد درويش ومحمد عبد الوهّاب منذ النصف الأول من القرن العشرين، إلاّ أنّه اتّخذ لدى زياد حيّزًا أوسعَ واهتمامًا أكبر، ربما بسبب شخصيّته التي لم تكن تعبّر عن نفسها بالسخرية اللاذعة في الموسيقى وحدها بل في نصوصه المسرحيّة والإذاعيّة كذلك. وتبدو معالمُ هذه السخرية بارزةً في ألحانٍ وأغنياتٍ مثل: "أنا اللي عليكي مشتاق" و"إسمعْ يا رضا" و"عايشة وحدا بلاكْ" في تلك المرحلة المبكّرة من أعمال زياد. لكنّها ستتخذ مجرى اعمق في أعماله الغنائيّة اللاحقة، كما سنرى في السطور القادمة.
ما إنْ أطلّ عقدُ الثمانينيات، حتى دخل عملُ زياد الموسيقيُّ، بالتزامن التامّ مع عمله المسرحيّ، مرحلةً من النضج في مسرحيّة فيلم أميركي طويل (1980)، حيث ستدخل السخريةُ الموسيقيّة (والمسرحيّة) لديه أعماقَ الكوميديا السوداء مع أغنيات مثل: "يا زمان الطائفية" و"قومْ فوتْ نامْ" و"راجعه بإذْن الله." وسيغدو ذلك العقدُ أنضجَ مواسم الخصب الفنيّ لدى زياد، في الموسيقى وفي المسرح، وفي ألحانه الخاصة أو في تلك التي خصّ بها حنجرةَ فيروز. كما ستبرز في موسيقاه آنذاك ملامحُ تأثّره الخلاّق بموسيقى الجاز، التي ستتحوّل ملعبًا محبّبًا لنفسه، يغوص أحيانًا في بحرها العميق، مستسلمًا لأمواجه الآتية من وراء البحار، ويمارس أحيانًا أخرى لعبةَ اكتشاف المساحات المشتركة بين الجاز ومزاج الموسيقى العربيّة.
وإلى جانب لحنين مميّزين لحنجرة فيروز في تلك المرحلة (هما "سفينتي بانتظاري،" و"مِنْ يومِ اللي تكوّنْ")، أنتج زياد في العام 1985، وبالاستعانة بحنجرة سامي حوّاط، شريط أنا مشْ كافرْ. ويَعتبر بعضُ النقّاد هذا الشريط من بين أنضج ما أثمرته موهبةُ زياد الموسيقيّة الاستثنائيّة، وبخاصةٍ في معالجة بعض المقامات الموسيقيّة العربيّة (الهزام مثلاً)، مع استمرار تعمّقه في التعبير عن روح السخرية المريرة إلى حدود الكوميديا السوداء.
بعد ذلك أصدر زياد لفيروز أسطوانة معرفتي فيك، التي تميّز فيها لحنُ "خلّيكْ بالبيْت" ولحنُ "زَعَلي طَوّلْ". وإذا عطفنا هذين اللحنين على لحن "وحدن" في أسطوانة سابقة، وعلى ألحان أسطوانة كيفك إنتَ، فستبدو أمامنا كاملةً ملامحُ حساسيّةٍ خاصّةٍ في ألحان زياد الفيروزيّة، واكتشافُه لحساسيّاتٍ جديدةٍ في صوتها وأدائها... جديدةٍ إلى درجة أنّ كثيرًا من مدمني أداء فيروز في إطار النمط الرحبانيّ الكبير لم يرعوُوا عن مهاجمة زياد في ألحانه الجديدة التي "سَرقتْ منهم فيروزَهم"، كما كان بعضُهم يقول صراحةً!
غير أنّ زياد خاض مع حنجرة فيروز مغامرةً لقيتْ حظّاً أقلّ من النجاح في أواخر التسعينيّات، عندما أنتج لها أسطوانة مش كايِنْ هيْك تكونْ، حيث لم يتورّعْ عن إنزال فيروز عن عرشها الكلاسيكيّ إلى عالم ألحانه الساخرة وروحه الغنائيّة الساخرة. لكنه قبل ذلك، في منتصف التسعينيّات، أنتج أسطوانةً بالتعاون مع أفخم الأصوات الرجاليّة التي تعاون معها (عنيتُ المرحوم جوزف صقر)، وهي أسطوانة بما إنّو، فجاءت في رأيي تتويجًا ناضجًا لروح سخريته الموسيقيّة، ولاسيّما في أغنيات: "ليه عمْ تعْملْ هيك" و"من الأفضل إنِّكْ تحتشمي" و"تلفَنْ عيّاشْ" و"بما إنّو." لكنّ ذروة السخرية الموسيقيّة العميقة في هذه الأسطوانة، وربما في كلّ أسطوانات زياد، إنما جاءت في معالجته العبقريّة لفنّ "العتابا" اللبنانيّ الفولكلوريّ، سواءٌ باستغلال هذا اللون في التعبير عن نصوصٍ ساخرة، أو ابتكارِ لازمةٍ موسيقيّةٍ فاصلةٍ بين بيت العتابا والبيت التالي بدلاً من لازمة "يا ميجانا."
ومع أنّ إنتاج زياد الموسيقيّ ما زال متواصلاً في العقد الأوّل من القرن الجديد، فإنّ ملامح عبقريّته الموسيقيّة بلغتْ ذروتها ـ في رأيي ـ بين عاميْ 1970 و2000. فهذه مرحلة بالغة الخصب والنضج والتجديد في إنتاجه الموسيقيّ، وتستحقّ كلُّ أسطوانة فيها دراسةً خاصةً، يتأكّد لنا في نهايتها أنّ زيادًا كان نبتةً بريّةً متفرّدةً في تطوّر الموسيقى العربيّة المعاصرة، برزتْ في عصرٍ كانت فيها النهضةُ الموسيقيّةُ في القاهرة ـ كما في بيروت ـ قد توقّفتْ عن التدفّق.
كما يمكن القولُ إنّ جرأة زياد في تجديد النصوص الموسيقيّة قد ترافقتْ مع جرأةٍ موازيةٍ في استخدام الآلات الموسيقيّة في توزيعٍ اتّسم، عند الضرورة وعند حاجة التعبير الموسيقيّ، بعمقٍ لافتٍ للسمع.
فـــــي المـســرح
يُعتبر المسرحُ الضلعَ المهمَّ الثاني في شخصية زياد الفنيّة. بل لاحظ بعضُ النقّاد أنّ جمهور مسرح زياد (في عزّ ازدهاره) كان أوسعَ من جمهور موسيقاه. وذهب آخرون إلى حدّ اعتبار مسرحه هو المسؤولَ الأولَ عن اتساع جماهيريّته إلى المدى الذي كان يصل دائمًا إلى قطاعاتٍ جماهيريّةٍ على خلاف، أو تناقضٍ، مع اتجاه زياد السياسيّ.
توزّعتْ مسرحيّاتُ زياد على عقدين كاملين، بين سهريّة (1973) ولولا فسحة الأمل (1994). وهي فترة تكاد تكون، عدا سنواتها الأربع الأخيرة، مطابقةً للحرب الأهليّة اللبنانيّة. ومع أنّ أحداثًا عنيفة قد تكون لدى معظم الفنّانين موضوعًا مؤجّلاً، أيْ إنّهم لا يجرؤون على التعبير الفنيّ عنه إلاّ بعد مرور فترةٍ كافيةٍ لهضم تلك الأحداث واستخراج التعابير الفنيّة اللائقة بها، فإنّ زيادًا رافق الحربَ اللبنانيّة بتدفّقٍ مسرحيٍّ مدهش، كان فيه (كما في إبداعه الموسيقيّ) نبتةً برّيّة. فقد تمكّن من ابتكار لغته المسرحيّة الخاصّة، نصّاً وإخراجًا وتمثيلاً، بعيدًا عن أصول المسرح الكلاسيكيّ، بل بعيدًا عن المسرح الغنائيّ الرحبانيّ. وأستثني من ذلك مسرحيّتَه الأولى سهريّة، التي يمكن اعتبارُها امتدادًا للاسكتشات الإذاعيّة التي كان يصف فيها الأخوان رحباني تفاصيلَ حياة الضيعة تنقلاً بين شخصيّات فارس وسبع ومخّول ونصري بودربكة؛ إذ جاءت سهريّة نوعًا من مسرحَةٍ لهذه الأعمال الإذاعيّة المبكّرة الجميلة.
لكنْ بعد انتهاء هذه المرحلة التمهيديّة الأولى، بدأ زياد يدخل مرحلة النضج، وذلك عبر مسرحيّتيْ نزل السرور وبالنسبة لبكرة شو. وكان مسرحُه يأتي قراءةً فنيّةً في تفاصيل الحياة اليوميّة، في زمنٍ معيّن، ومنطقةٍ جغرافيّةٍ محدّدة. حتى إنّ شخصيّات هاتين المسرحيتين بالذات تحوّلتْ عند الناس إلى شخصيّاتٍ شعبيةٍ يشبّهون بها كلَّ شخصٍ يحْمل من المواصفات الاجتماعيّة والسياسيّة ما لهذه الشخصيّات!
غير أنّ مرحلة النضج المسرحيّ الكامل عند زياد بلغتْ ذروةً شامخةً مع مسرحيّتيْ فيلم أميركي طويل وشي فاشل. في الأولى لخّص زياد كلَّ مظاهر الحرب اللبنانيّة بعمقٍ فنيٍّ مدهش، وبروح الكوميديا السوداء، كما في ألحانه الموسيقيّة الساخرة. وكانت كلُّ شخصيّةٍ من شخصيّات مستشفى المجانين، الذي اختير إطارًا لهذه المسرحيّة، تعبّر عن ظاهرةٍ من ظواهر الحرب، كما كان "مستشفى المجانين" كلُّه تعبيرًا فنيّاً رائعًا عن الإطار الإنسانيّ العامّ لتلك الحرب.
أما مسرحيّة شي فاشل فلم تكن، في رأيي، مجردَ نقدٍ لمسرح الأخوين رحباني، بل كانت، بشكلٍ دقيق، تعبيرًا عن التناقض الصارخ والتصادم الكامل بين الجماليّات والأخلاقيّات المثاليّة التي يعبِّر عنها مسرحُ الأخوين رحباني من جهة، وبين قتامةِ وقائع الحرب الأهليّة اللبنانيّة من جهةٍ ثانية، بحيث بدت الأولى على درجةٍ مريرةٍ من السذاجة عندما اصطدمتْ بالثانية.
ثم جاءت المرحلةُ الرابعة في مسيرة مسرح زياد، وتمثّلتْ في مسرحيتيْ بخصوص الكرامة والشعب العنيد ولولا فسحة الأمل. هنا دخل مسرحُ زياد، في رأيي، مرحلةً من التعقيد الفنّيّ، ربما كان انعكاسًا لاضطرابٍ ما في حياة زياد الشخصيّة، أفقدتْه كثيرًا من ملامح السلاسة والعمق الشفّاف اللذين ميّزا مسرحيّاته السابقة. وانعكس هذا التعقيدُ على جمهور زياد، الذي لم يُقْبل على مسرحيّتيه الأخيرتين بالكثافة التي قوبلتْ بها مسرحيّاتُه السابقة، مع أنه (أي الجمهور) كان يبدو مستعدّاً لتقبّل أيّ إنتاجٍ فنيّ تجود به قريحةُ زياد. وبعد الإعجاب شبه المطْلق الذي كان يحاط بزياد سابقًا، ارتفع في المرحلة الرابعة صوتٌ ينقد مسرحَه. ولم يُستثنَ من هذا النقد إلا جموعُ الشباب الذين تعوّدوا أن يقابلوا أيّ عملٍ فنيّ لزياد بلا أيّ احتمالٍ للنقد أو النقاش. ومنذ ذلك الوقت توقفتْ قريحةُ زياد عن التوهّج مسرحيّاً، ويا للأسف. وقد عزا ذلك إلى أنه لم توجدْ في الواقع اللبنانيّ منذ ذلك الحين أحداثٌ كبيرةٌ تشكّل له حافزًا فنّيّاً كافيًا.
غير أنّ الثغرة الكبرى في المسيرة التاريخيّة لمسرح زياد تتمثّل في أنه كان يصرّ، منذ نزل السرور، على عدم تصوير أيٍّ من مسرحيّاته، إنْ بالفيديو أو السينما، وذلك لأسبابٍ غير مقنعة. وها نحن لا نملك حاليّاً من هذه المسرحيّات سوى تسجيلاتها الصوتيّة. غير أنّ هذه المسرحيّات، وإنِ استُوحيت في معظمها من أحداث الحرب اللبنانيّة، ما زالت صالحة لإعادة العرض؛ ذلك لأنّ نصوصها لم تتوقفْ عند سطح الحرب، بل ذهبت إلى أعماقها التي ما زلنا نرى تجلّياتٍ أكثرَ بشاعةً لها في الواقع الاجتماعيّ اللبنانيّ الحاليّ. وأعتقد أنّ النصّ الصوتيّ المسجّل لهذه المسرحيّات يَصْلح، بشيءٍ من الجهد، أساسًا لإعادة تقديمها مسرحيّاً، وبإشراف زياد نفسه، إذا اقتنع بذلك.
فــي الفـن الإذاعــــيّ
يمكن اعتبارُ الفنّ الإذاعيّ الذي مارسه زياد في برنامجيه الشهيرين: بعدنا طيبين قولوا الله (مع زميله جان شمعون في الإذاعة اللبنانيّة)، والعقل زينة (مع نخبة من الممثلين في إذاعة صوت الشعب)، الضلعَ الثالثَ في شخصيّته الفنّيّة. ولكنْ بالإمكان أيضًا اعتبارُ فنّه الإذاعيّ امتدادًا طبيعيّاً لنصوصه المسرحيّة أيضًا. فقد جاء كثيرٌ من المشاهد الواردة في هذين البرنامجين الإذاعيين أشبهَ بمشاهدَ مقتطعةٍ من مسرحيّةٍ كبيرة.
وإذا كان فنُّ زياد المسرحيّ يُعتبر حضنًا فنّيّاً عامّاً للإطار العامّ الذي دارت فيه أحداثُ الحرب اللبنانية، فقد جاءت المشاهدُ اليوميّة التي كانت تشكّل هيكلَ برنامجيْه الإذاعييْن اليومييْن أشبهَ باليوميّات التفصيليّة لتلك الحرب، مكتوبةً بنفسٍ ساخرٍ أحيانًا، ومريرٍ أحيانًا أخرى، وتحريضيّ في أحيانٍ ثالثة. حتى إنّ الكاريكاتوريست المصريّ الكبير الراحل الصديق بهجت عثمان كان يؤكّد لي أنه درس في المانيا الشرقيّة (سابقًا) أصولَ الفنون التحريضيّة، لكنه لم يفهم من تلك المحاضرات شيئًا عن روح الفنّ التحريضيّ كما فهمه عند الاستماع إلى تسجيلات برنامج بعدنا طيبين!
ومع أنّ زياد الرحباني اندفع في خضمّ هذا الفنّ الإذاعيّ من غير أن ينتسب إلى أيّ معهدٍ للفنون الإذاعيّة، فإنّ العبقريّة التي تقف وراء كتابة نصوص هذين البرنامجيْن، ووراء فنون الإلقاء فيهما، وبخاصةٍ في بعدنا طيبين، يجعل من تسجيلاتهما مادةً صالحةً للتدريس في أيّ معهدٍ راقٍ للفنون الإذاعيّة.
وما يصحّ على نتاج زياد من الفنّ الإذاعيّ يصحُّ بالدرجة نفسها، وربما بدرجةٍ أعلى، على نتاجه في حقلَي الموسيقى والمسرح... مع أنّ مَنْ يراقب تصرّفَ زياد في مجمل هذه النتاجات يشعر أنه أمام طفلٍ عبقريٍّ كان يلهو وهو صغير بأشكالٍ فنيّةٍ بدائيّة، واستمرّ يلهو حتى عندما بلغ ذروة نضجه (سنّاً وتجربة). فاستحقّ بذلك صفة "نبتة بريّة" في حقول الفنون العربيّة المعاصرة: الموسيقى والمسرح والفنّ الإذاعيّ.
بيروت
*إلياس سحّاب: كاتب سياسيّ وناقد موسيقيّ من لبنان. وُلد في يافا سنة 1937، ويعمل في الصحافة اللبنانيّة والعربيّة منذ العام 1961.
(الآداب)