في القصة الشهيرة: عنبر رقم_6_ للكاتب الروسي الفذّ أنطون تشيخوف, تشخيص مركّز وسابق لأوانه, للطاعون السوري الذي يعصف بالبلاد منذ دخلها جمال عبد الناصر حاكما مطلقا, هو اقرب للإله منه للبشر. الهوس مرض فردي خطير له أشكال متعددة ومتنوعة, لكن نتائجه تقتصر على الفرد البائس والمحيطين به مباشرة, عزله ممكن وكذلك معالجته, عند توفر الطبيب المناسب والإرادة الطيبة للمحيطين بالمريض, وقبل تفاقم المرض وتحوّله.
المشكلة في سوريا اليوم أن المريض هو الجسم الاجتماعي, بكافّة مكوناته الأخلاقية والنفسية والفكرية, والأنكى من ذلك, أن المريض يرفض العلاج وينكر المرض من أساسه, لقد وصل الأمر إلى درجة " الذهان" المرضي والصريح, وتم إنكار الواقع واستبداله بالأخيلة والرغبات المكبوتة بمعظمها. يسهل على كل زائر لبلادنا,سواء كانت الزيارة الأولى, أم بعد فترة انقطاع تكفي لتكوين رؤية مختلفة, ملاحظة ذلك. من شرطي المرور إلى القاضي إلى المفكر إلى ممثل الشعب إلى العاشق إلى الأب إلى الأم, نحن جميعا نشرب من ماء ملّوث بدون بديل.
إدراك ذلك والوعي به مؤلم وشديد القسوة, والحل البديل المتوفر هو إنكار الواقع بالجملة.
*
هوس التملّك فاق الحدّ المحتمل للفرد السوي, تعرف ذلك المرأة السورية أولا كما يعرفه الزوج والأبناء, وبقية أطراف السلالة. ملاحظة هوس التملك ممكنة حتى للمرضى بسبب اختلاف المواقع فقط, أما هوس البراءة الوجه الآخر لهوس الأمن, فهو محصلّة لأمراض مختلفة المنشأ والأعراض, يتعذر إدراكه, فهو ممتزج بكثير من الرغبات والمتطلبات الضرورية, كما أنه استقّر في الأغوار السحيقة للنفس, مع الاحتياطي الهائل من الخوف والغضب والعدوانية, الذي يغمر الشخصية السورية, والتي وصّفها بدقة نادرة أنطون تشيخوف, والمفارقة المضحكة المؤسية, في تشابه واختلاف روسيا وسوريا, والفرق الحضاري قرن من الزمن.
هل من أمل؟ إذا كان المشهد بهذا السوء, فما الفائدة من الكلام والحوار والمحاولات؟
أليست أفعالنا وكلامنا شبيهة بما يحدث في مصحّ عقلي؟ لو عقدنا مقارنة بين سنة 1955 وسنة2005 وفي جميع المجالات,من الأسرة والمدرسة إلى البرلمان أو مجلس الشعب, ألا تؤكد النتيجة, معظم ما ورد في العرض السابق!؟ أخشى أن الإجابة فقط بنعم!
يوجد بصيص أمل في الهامشيين, فالهامش السوري ما زال مجهولا بمجمله, وهو المصدر الوحيد لبقاء الأمل.الفلاحون, عمال النظافة, الأطباء, التجار, المهندسون, الكتاب ربما, السكارى والمعتزلون وحدهم من رأوا أبعد من أنوفهم.المرأة السورية ما زالت خارج الأيديولوجيا السائدة, تأنيث سوريا ضرورة قاهرة لا تحتمل التأجيل.
*
يوجد إجماع سوري مطلق حول"ضرورة المصالحة الوطنية" وبنفس الوقت وبنفس الإجماع يتم الرفض بالممارسات المختلفة فكرا وسلوكا, لعناصر ومكونات المصالحة الفانتازية.
المصالحة المتحققة مع المرآة فقط. هوس الأمن, الثأرية المضمرة, الرغبة المسعورة في إلغاء الآخر وليس إقصائه فقط, يمكن ملاحظته في شتى المجالات!هل أنا مخطئ !؟ ليتني أكون كذلك. حياتي بمجملها كانت سلسلة مستمرة من الأخطاء, ولم يفارقني الشعور الخفي بذلك, وهو السبب في التغيير المستمر لأفكاري, أما اليوم فيقيني تام بأن ما أراه هو الواقع ,وأرى الكارثة بوضوح استثنائي, كما أن رائحة الموت تزكم أنفي وعيوني ودماغي.
كيف تثبت أنك برئ!؟ المعرّي وديستويفسكي وتشيخوف وكافكا, فتحوا الباب لفرويد, ودخل إلى القبو النتن بشجاعة قصوى, وحتى اليوم معظمنا لا يجرؤ على سماعه يتحدث عمّا وجد ورأى! على بعد كيلو متر من منزلي يرقد عبد الله عبد, منسيا ومجهولا لأنه تجرأ ووصل إلى العتبة, ومعه كان يغني شاعر سوريا العظيم رياض الصالح الحسين: يا سوريا السعيدة كمدفأة في كانون, يا سوريا التعسة...نحن أبناؤك الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك...
بعدهم تجرأ سعد الله ونوس وكتب وصيّته لديما, ولجميع ديمات سوريا, فشلنا:قالها بالفم الملآن, ونحن الورثة التعساء سنقتتل بالأسنان والأنياب والأظافر, ولا أحد أكثر شفقة ورحمة من أحد, حملة المناجل والمطارق وحملة السيوف والخناجر وحملة الفؤوس, ولا يستغرب أحد أن تستخدم الكمبيوترات والهواتف المحمولة لصرع الخصم وتحطيمه, وليس الخصم سوى ذلك المسخ الهائل, المكبوت الجنسي والديني يحالفهم اليوم وحش لا يقل خطورة هو المكبوت السياسي. لا أمل في الغد القريب, لا أمل.
لنردد مع هيرمان هيسّه: ما كان بالأمس خمرا, صار اليوم خّلا, والخل لا يعود خمرا, أبدا, أبدا.