آخر الأخبار

أدونيس: الظاهرة الشعرية

اشتهاءات دافئة تغمر صقيع اللغة نارا تحت الرماد، رمال شاحبة تستسقي السماءَ المصادَرة أبوابُها منذ اكتشاف الطباعة: موحشة أخيِلة الكِبار، مدهشة أوهام الكائن المسكون بالفراغ صغيرا و عند المهد..
اِنفصال مُتعمَّد، قتْل جهْر تجترحُهُ الخيبة بيَد العُزلة..أدونيس، كوكب العزلة العاقلة و جوهر الشعر الرقراق يزمّن اللحظة التي يستقيل فيها الواقع من تراتبياته و اللغة من سُباتها لتنهض كاسِرة مكشرة أنيابَها بكل ألم الحياة رفضا و سؤالا..
وطاويط الحضارة الحديثة تعزف ترانيم الموت الأخرس، و تُعْلي اللامعنى و لكن الشاعر الذي أتقن كل منافذ الضوء و العتمة و تاخَم البدايات و النهايات و عرفَ الألم أقصاهُ ،و اللذةَ (اللذةُ) أقصاها، و إن خيالا، يميزجيدا بين الموت و الحياة، هذا البيانو المتتالي السواد و البياض.
إن ما يميّز أدونيس هو الشعرية المتأمِّلة فتراه -بِوعي- يشاكس الظاهرة الشعرية و اللغوية يأتيها من أطرافها و من داخلها، يختبرها و يختبر ذاته دون مجاملة أو نرجسية فالنرجسية لها محلّها الأرفع، هناك في لحظة الشعر فقط حيث يكون هو الشعر و الشعر هو و يكون هو التاريخ و التاريخ هو أما في تفاصيل النصّ فهو شِغّيل كادح في مُختبره لا يعترف بدُوَار الأبجدية و هو يجوس خلال اللغة و لا يهتمّ لتقلّب درجات الحرارة بين مختلف أضدادها.
ينقسم الديوان إلى قسمين: الأول قسم الغيوم و فيه يحاول الشاعر أن يتخلص في تقنية علاجية عبر اللغة من كل ما يقيّد تجربته "هذه غيوم تحجبني و هي كثيفة على جسدي/ من يُخلّصني منها"ص117 و القسم الثاني عبّر عنه الشاعر بسياسة الضوء و فيه يُرسي علاقة جديدة بين الأضداد و يقوم بتجارب تحررية شخصية لغوية علّه يتمحض على الصورة التي يُريد و لكن محدودية الفعل الابداعي في الواقع تجعل الشاعر ينحسر أو يتخفّى في ثوب العدد مهما كان النص جبارا.
"ليس الماء وحده جوابا عن العطش" نص جبار لا يُنكر محدودية الكتابة و لكن حسبُنا أن نكبر به و نتعرف من خلال شاعر كبير مزالق اللغة و أضدادها من خلال علاقات جديدة صنعها هو.

الفن في اللغة كون بأكمله...إنه بلسم فُتوقها و الهنداس الذي يعيد تشكيل ثوبها ليتسع للسماء و المُحيط و آهات القلوب الممزقة بين الخلود و الفناء و الفراق و اللقاء و اليأس و الرجاء و لكن الفن الذي لا تكون من ورائه فكرة جمالية أو فلسفية يظل مائعا، مبتورا عند المتلقي لا يترك أثرا و لا يُثير أيّة متعة عقلية إنما تكمن قوة الأثر الفني في أن يكون جِماع كل الأشكال الثقافية التي أنتجتها البشرية من فنون و علوم و معارفَ و صنائع و يُحافظ مع ذلك على ما يجعل منه فنّا فهو يعيد إنتاجها وفق ذائقته و يُعيد قراءتها وفق رؤيته و يستفيد منها -ضرورة- في مسيرته و شعر أدونيس تجربة فريدة في الشعر العربي اضطلعت إلى دورها الجمالي بدور فكري ناقد عاضده بحث دؤوب في اشكاليات اللغة و التاريخ و الواقع و قد اُنبنى ديوان "ليس الماء وحده جوابا عن العطش" على أسلوب من اللوحات المتراكبة جعلت من النص مجموعة من الأضداد تناجي بعضها في حركات دائرية مرّة و لولبية أخرى حين يستعصي التواصل و الهدف من ذلك نقد العلاقات القديمة في اللغة و الواقع و إرساء علاقات جديدة بديلة لا تكون فيها السيطرة لطرف على آخر و لكن السيادة تكون للحركية التاريخية.
يقوم مشروع أدونيس في هذا الديوان على نقد الجسد بما هو إرث مخصوص في الحضارةالعربية يتعرض لبرمجة اُضطهادية باُسم القداسة و الروحانية (رغم أنها تجربة متقدمة في المعرفة و مرقى من المراقي لا يصل إليه الكل بالضرورة) فالانسان العربي لا يملك أية فكرة عن جسده إذ أنه لا يعرفه و لا يستعمله و لا يتحرر عقلُهُ لأن نصف كيانه مشلول و قد تجلّى موت الجسد من خلال النص في مظاهر عديدة: ""اِنطمِسِي، أيتها الحواس/ لا أقول ذلك انتصارا لكِ/ أقولهُ لكي أعزّي الأبجدية/تعرفين/ وُعِدْتُ بالجحيم/ كما يُؤكد أعداؤك الفقهاء/ لهذا قررت أن ألمس الجنّة/ لكن بِغيْر أصابعي/ و أن أتحدث إليها/ لكن بصوت غير صوْتي/ في الليل/ قرب جدار عال/ فيما يخُبّ حولي حصان روماني/ واضعا على رأسه/ خوذة هذا العالم" ص19.
جريحٌ هو أدونيس بين كينونة فيزيائية شرقية و عقل إنساني حرّ و عبثا يستحيل إقناع الأنا/الآخر، الآخر/الأنا بأنّ العقل لا ينتمي عكسَ الجسد و أنّ هذا الجسد بِدوْرِهِ، في عالم الشِعر فقط، يستطيع أن يُغيّر احداثياتهِ و يُعيد ترتيب رسائل الحسّ لديْهِ و يسير وفق "التانغو" و "الصالصا" و "الفالس" و "الجاز" لأنه يستبطنها علِم بذلك أم لم يعلم بل يستطيع أن يتواصل مع العالم المادي و غير المادي حين يتسامى عبر اللغة ليجعلها أفعى تخلعُ إهابها كلما ضاق عنها.
و إذا كان الكاتب و الشاعر برؤيته المخصوصة للوجود قادرا على إيجاد بدائل ذاتية يتحرر من خلالها و لو لفترات مُعيّنة من سيطرة السياسي و الديني و الاجتماعي فإن المجتمع ليس كذلك لأن المجتمع الذي يعترف بجسده خارج نطاق التأميم يحكم العالم في حين أن المجتمعات التي تؤمم أفرادها لا يمكن أن تكون لها سيطرة على العالم لأنها غير قادرة على حكم نفسها.
من عوائق الجسد لدى أدونيس ذكورية المجتمع العربي التي تنتج عنها عقدة الأب و هي أساس فشل النموذج الديمقراطي في هذه البلدان "كان أبي يزور أصدقاءه في القُرى/ يسير حاملا عصاه المقوسة الرأس وراء ظهره/ كنت أسرّح بصري في خطواته/ إلى أن تُصبح ضبابا/ و كان فيما يبتعد/ يمدّ أحيانا هذه العصا/ في اُتجاهي، كمثل شهاب نحيل/ و لم يكن يعرف أن يحمل لي عندما يعود/ أية هدية(...) مرّ على موت أبي أكثر من نصف قرن/ فلماذا أشعر كأنه لا يزال حيّا/ و لماذا أشعر كأنه يموت كل يوم"ص104-105-110
إن هذه العدائية في العلاقة و التي تكسر ذلك الجسم الأثيري من الانتظارات التي يحملها الصبي تجاه علاقته بوالده تظل تصبغ رؤيته للأب و لنفسه و للحاكم "انتحبي إذا و اُعرُجي أيتها المدن/ في ظل حاكم السماء/ الذي يُقفل أبوابَه/ بالمفاتيح نفسها التي يصوغها حاكم الأرض" ص50-51 فكل ما يصل حدود الأبوي يموت، يفقد هويته "أرسل الربيع زهرة إلى أبيه الزمن/ فعادت إليه لابسة عباءة الخريف"ص123 فالرجل في وعي الطفل العربي كائن لا لحم و لا عظم له، إنه كائن خرافي يتغذى منه الطفل كما يتغذى من إلاه سماوي " يشبهُ الفلاحون في قُرانا أبراجا تتنقل/ كما لو أنهم يتحركون بأرجلهم وحدها/ تخرج من بين الأثلام في حقولهم/ أشباح تبدو كأنها تجيء من المستقبل/ فلاحون- فرسان هواء أخر/ و طواحين أخرى"ص105-106 و لهذا يهرب الشاعر في لاوعيه إلى إقليم الاسماء المؤنثة:
"للعطورهنا/ رسالات و رُسل و لها مراكب و مرافئ(الحواس)
و للواقع هنا/ جسم بأطراف و عضلات حادة (المقاومة و العدائية)
غير أنني لا أرى في أحضانه غير المخيّلة/ هكذا يبتكر إقليم الحلم ينابيعه و أشجارَه في تراب آخر"ص67 بل يلجأ الشاعر أحيانا إلى تأنيث الأشياء للتخفيف من عدائيتها "غير أن السرير كان رغبة و الوقت اُمرأة"ص50 .
إن نظرية الجسد في "ليس الماء وحده جوابا عن العطش" تجعل من الجسد الفردي مرآة للجسد الجغرافي (القدس/الخريطة العربية الاسلامية) "كانت القدس تجدل شعرها/لكي تتسلق الكواكب/ و كان المارقون يصرخون/ للجيوش آلهة/ ليست للحقول و ليست للينابيع/ في القدس، كدت أن أتبرك بحجر/ يتحول إلى جبين للكون/بجدار/ يصيرسُلّما للفضاءات / لكن/ هو ذا أرى المكان كمثل الحساء/ و أرى ملائكة/ يسجنون الهواء و يحاربون العشب/ أوه! ليس في حب السماء للأرض/ غير القبور"ص20-21 أليست الأغلال التي تكبل المكان و تميّعه هي ذات الأغلال التي تنفي الجسد؟
هنا يختلط المقدّس بالحِسّي/الواقعي في علاقة فهم فريدة فهذه الكينونة الفيزيائية تجد نفسها منحسرة في شبكة من الاحداثيات تحدّ من تحرّرها مادّة و فكرا ففقدان الثقل الجغرا/سياسي هو الذي يُهدر حقيقة الذات بما هي جزء من جغرافيا محدودة بتحكّمات الأقطاب الاستراتيجية و السياسية "فيما يخُبّ حولي حصان روماني/ واضعا على رأسه خوذة هذا العالم/ و فيما تلمع نجوم/ في عنق كل منها حبل أحمر" ص19هنا تتمفصل علاقة الجسد في بُعده الفيزيائي و الحضاري بالعالم إذ أنه ليس منفصلا عن المكان بتاريخِهِ و علاقات القوة الآنية التي تحكمُهُ فالمكان الذي طالما عبق برائحة التاريخ و القداسة صار لا يعرف نفسه في عصرنا الحالي: "هو ذا أرى المكان كمِثل الحِساء/ كيف حدث أن صار الوقتُ يشنق المكان" ص18/20 إن هذا التحول الفيزيائي يُنتِج تحوّلا خطيرا في شبكة القيم و الأفكار، إنه شعور بأن الأرض تميد تحت قدميك و أنك لم تعد حتى سيد نفسك فضلا عن سيادة العالم فالحضارة العربية التي أثرت طويلا و سادت العالم لقرون تفقد سيطرتها لأنها تقتل مستقبلها فالفرد هو حاضر البلاد و مستقبلها و البلاد التي لا يجد أفرادها أنفسهم و لا يشعرون بدورهم و اختلافهم لا يمكن أن تكون أو تظلّ حضارة قوية و لهذا يتساءل أدونيس سؤالا انكاريا "لماذا يبدو "الجسم" في الثقافة العربية-الاسلامية، مرذولا؟ لماذا يُدمَر يوميا باُستخفاف و اُحتقار و على نحو مُنظم، بشكل أو بآخر؟ هكذا "نفكر" كما لو أن الجسم غير موجود لا واقعا و لا رمزا و هو ما أدّى إلى عدم الاكتراث بخسارته أو موته و اُنظر إلى الخريطة العربية الاسلامية:جسمها كوكب ضخم لكن صوتها صوت عصفور يكاد أن يختنق"ص43-44-45-46 أليس الجسد بوابتنا لمعرفة و فهم العالم "تشعر، فيما ترى، أنك لا ترى"ص37 أليست معرفتنا بالجسد معرفة كافية تساعدنا على تحريره من عقده و من العلاقات العمودية التي تضطهده (طفل/كهل-امرأة/رجل- حاكم/محكوم-الجسد/المكان) فإلغاء الجسد لفائدة السلطة أو المجتمع أو الدين ينعكس حتما على موازين القوة الحضارية و لهذا تبدو البلاد العربية غافية حالمة تشعر بعدائية الواقع فتفر إلى عالم من القداسة و الحلم و النرجسية الكاذبة صنعته لنفسها و أقامت فيه "و في هذا يقول أدونيس:"ما أشقى وضوحك أيها الموت!" ص75 لأن بالموت يموت الجسد و يتوقف عمل المخيلة فيفقد الوجود اُمتداده و لو في الخيال.
يحاول أدونيس أن يُعيد الحضارة إلى ماديتها و مباشرتها لأن ذلك هو السبيل الوحيد لنهوضها ثانية فالتعلق بالروحانيات لا يُغني عن الواقع "لا تشرب، لنا موعد آخر مع شراب آخر" ص52 و التعلل بعالم أفضل في السماء لا يمنعنا من تحقيق فرديتنا في الأرض "لم أصدّق أن السماء كُوّرت لتخنق الأرض"ص22 فللديني محلّه و للدنيوي محلّه و رؤية الشعر عن الله و السماء و البدايات تتعارض كليّا مع اُستخدام الدين لتكريس علاقات قوى مُعيّنة. و لهذا يقول أدونيس: "الكرسي لله و الأرض للجحيم (للأقوى)"ص16 ويعرض أدونيس مثلا عن الدول القوية التي لا تجعل من الدين خطابا اضطهاديا يوميا، إنها حضارات مادية لا تجعل السماء تنزل إليها بل هي التي تصعد إلى السماء على الصواريخ و ناطحات السحاب "و كانت الحداثة خاتما/ يتلألأ في عالم/ يتحول إلى إصبع الكترونية/ في يد نيويورك/ فيما تُواصل زيزان الحضارة/ عزفها القاتل في أذنيّ/ و رأيت وطاويط/ تلبس خُوَذ القادة/ من أية سلالة اُنحدروا/ كل منهم يتوسّد ثدي مُرضعة سماوية/ فيما تغسل الصواريخ أقدامها/ بماء الملائكة"ص17-18 فالروحانية تبدو سمة للمجتمعات الشرقية و صِفة متلبسة بكينونتها المكانية إذ أن منبت الرسالات السماوية و مطلع النبوءات كان محدودا تقريبا في تلك الرقعة الجغرافية، أما أدونيس، ماركس الشعر- لأنه فعل بالشعر ما فعله ماركس بالفلسفة إذ جعلها "تسير على قدميها" مادية واقعية تتخلى عن أبراجها العاجية و أوثانها الكاذبة لفائدة الإنسان و التاريخ- فلا يَرضى أن تكون الحتمية المكانية عائقا أمام إثبات الوجود في عصرنا و هي ليست كافية أيضا لإثبات الوجود الآن، إنه ينادي بمادية الحضارة بما هي أخذ بأسباب العلم و الحياة و الحقيقة. و المادية مع هذا لا تختلف اختلافا جوهريا مع الروح لأن الروح ليست سوى المادة في تكثيفها و لهذا فهو يقول: "في النشوة الجنسية/ يقول الجسد كل شيء/ يقول الروحَ نفسَها"ص133 و الحضارة المادية في أوجها تُنتِج الروح أي الفكر و الفن، فكرا و فنّا حقيقيين ينبعان من كيانات مشبعة لا عن أجساد و فرديات جائعة تعيد انتاج الخنوع و الخوف بالحلم و تختفي وراء القداسة التي لم يكن لها يد فيها فالقداسة التي تقتل الجسد و تعيق حركته و بالتالي حركة التاريخ لا يُمكنها أن تُثمر حياة و دَوْرا في المُستقبل "النور عُرْي، و كل غطاء عَماء/ ما أشدّ حاجتَهُ، الآن، إلى أن يُعلن/ في النور-الجنس/ يشعر كأنّه مولود قبل الأبجدية/ و أنتِ، أيتها السماء/ لماذا لا يفرح لسانُكِ إلا بالموت؟(...) ما أشدّ حاجتَه الآن/ إلى أن يُلامس عنق الريح/ و ما هذه الأرض التي قُدّستْ/ و التي ينتمي إليها/ البحر نفسُه ميّت فيها/ لكن/ هل يُقال ذلك في رسالة/ إلى اُمرأة أحَبّها/ أو إلى اُمْرأة يُحبّها"ص162-163 فالمؤنث رغم رحلات التحرر التي يقوم بها الشاعر يظل فيه المكان متلبّسا بالانسان فالمرأة هنا وطن قبل أن تكون إنسانا. و لكن أدونيس مع هذا يقوم بتجربة التحرر الجسدي و لو على مُستوى فردي باحثا عن مُصالحة ما بينَهُ و بين جَسَدِه من خلال المعرفة و من خلال الشعر و إذا كان الرجل هو الذي يُعطي المرأة ماهيتها من خلال الخطاب المكتوب فإن أدونيس بصدد البحث عن هويته الثانية من خلال المرأة ليكتمل "اُتركُوا النساء يرسُمن دُروبَ شهواتهن و اُتركوا الرجال لاُقتفاء الرسوم" ص77 فهذه الحضارة الذكورية التي ضيّعت نصفَها "كأن الأنبياء حقول خصبة/ و كأنّ النبوءة زهرة ذابلة" ص65 بإلغاء الأنثوي فيها ما عليها إلا أن تستعيد أضدادها "قلتُ للمُحيط: لستَ إلا ذكورة طاووسية و ها أنذا أوقظ فيك أنوثة المادة" ص98 لأن الحضارة التي لا تتغذى من أقطابها تموت و في إلغاء الواحد منها اُفتقارها و اُختلال توازنها "قولي لجسدك: أنتَ البحيرة المُفردة لمائنا المُثنّى" ص80 أيّ رقة في التعبير و أيّ دقة في التصوير، لقد سقط الكثير من الكتّاب في مستنقع الاندروجينية الفنية بدعوى معرفة الجنس الآخر و البحث عن الذات في الآخر و لكنهم لم يرسموا الحدود الفنية الحقيقية بين القطبين بل أضاعوا الأنوثة و الذكورة معا من حيث أرادوا الجمع بينهما، وحدَهُ الشعر العظيم يحافظ على بكارة الأشياء قبل تلوّثها بالمدنية و التفكير.
لقد سعى أدونيس أيضا من خلال هذا البحث المُضني إلى قلب الموازين و الصور الشعرية القديمة و البحث عن علاقات قوى جديدة لإرسائها على الأقل في عالم اللغة، علاقة دائرية للأشياء و الكون الهدف منها المساواة في القوة و قد اُشتمل النص على العديد من الأضداد بدءا من الأبجدية التي تبدو كأنها الذكورة (حرف الألف) تسيل نحو الأنوثة نزولا (الياء) و الأنوثة (حرف الياء) تصّعّد نحو الذكورة اُرتقاء (الألف) "الحياة كتاب/ في الفرح، يُقرأ من الياء إلى الألف/ و في الحزن/ يُقرأ من الألف إلى الياء" ص124. كما طرح أدونيس علاقة الأنا بالآخر في جدلية من الضوء إلى الضوء بعيدا عن الاقصاء و الكراهية لأن الضوء يُلغي كل المعاني السلبية و المُظلمة بل إن أدونيس لا يضع الظلام نقيضا للضوء بل الغيمَ و الظِل و الغُبار فهل بَعد هذا شفافية في التعامل مع الظاهرة الانسانية: "اِصعد في الضوء لكي تقرأ الآخرين/ و اُهبط فيه لكي تقرأ نفسك" ص150 إن الحوار مع الآخر يجب أن ينبني على قاعدة الشبه في الاختلاف فكلنا إنسان و كلنا مُميّز كما يقيم أدونيس علاقة هندسية بين الكتابة و الواقع تقوم كذلك على جدلية الذكورة و الأنوثة "كيف تخرج دائرة مشعّة من مُربّع مُظلم؟/ أهذه هي الكتابة؟" ص151 أليس المكان جريرة الطائرالحُرّ؟ و طالما أن الانسان نصف طائر فسيظل يحلم في علاقة جدلية بين السماء و الأرض ببدائل أخرى "كأن المكان مُقعد و مرضوض و ثمّة ريح كأن لها ذاكرة تقتل فيها القدرة على تحريك الغيم" إن هذه العلاقات الضِدّية قديمة الجذور لا يُمكن أن تُحل في وقت قصير فلها العديد من الوجوه و هي تتلبس بالذاكرة أكثر مما تتعلق بالواقع و الشاعر وحده هو الكفيل بدور الوساطة الجميلة بينها "عندما اُلتقيت بها، و اُنسكبت عيناي على جسدها/ كنتُ قد جمعتُ كل ما اُستطعت من مقصّات النهار/ و خبّأتها بعيدا عن جدائل الليل" ص 155
لقد طرح أدونيس جملة من الاشكاليات من خلال الديوان، اشكاليات تتعلق بالابداع و الحضارة و أولى هذه الاشكاليات محدودية الكتابة إن لم تقل عبثيتها فالرجل حين يكتب يتأنث و إذا كانت الكتابة تقدم حلا يكفينا حتى منتصف الطريق بأن تُعيد إلينا حواسّنا و شعورنا بأجسادنا و لو خيالا و تجعلنا نعيش حالة تتلاشى معها حدود الزمن في الواقع "كان القمر يُسرّح قُطعانه/ و كانت أجساد في حديقة النجوم/ يسيل أحدها في الآخر/ بعضها يُنافس الدم/ و بعضها يغار من الماء/ تنهض حواس الغبطة و ينفرط عقد السلالات"ص 164 و رُبّما اُستطاعت الكتابة بما هي فعل عبثي "زغب و لا أجنحة، صيّادون، و لا شِباك. هل عليّ، إذا كمثل غيري ، أن أختم حياتي كما بدأتُها: أغرس في رأسي قرون الأبجدية و أناطح الورق؟" ص99 أن تُعبّر عن العبث في الواقع و تُشير إليه "العروبة، القومية، الوحدة/ ألفاظ تتكرر اليوم/ بُرهانا على وُجود العبث" ص122 ٍو تضع الاصبع على الجرح فإن الشاعر أيضا يُقدّم نظرته للمستقبل "تلك الليلة/ أحسست أن شمسي العربية /عرجاء خرساء/ و خُيّل إليّ/ كل شيء يُريد أن يظهر في صورة مُختلفة/ هل ترون كيف يتحول البحر الأحمر إلى هرم تنام فيه اللغة" ص16 إن المكان يقتل اللغة و التعبير، إنه يُحنّط الواقع و يجعله مجرّد "كليشيه" أناسُه صُوَر لا يعيشون و لا يموتون" ص17 و الرائي إليه من بعيد يكتشف حجم الجمود و الموت باُسم المقدس و بسبب الاكتفاء به "جُرم السماء طُفيلي يكاد أن يقضي على الأرض- الأم"ص63 "السماء تلعب النرد و الأرض هي الخاسرة فالعلاقات التي يصوغها الحاكم بين الشعب و السماء بواسطة الخطاب السياسي و الديني و الاجتماعي تجعل له شرعية غير قابلة للدحض و تجعل الجميع يدورون في فلك الكلية و الابوية و هذا ما يقتل النقد و يجعل منه خروجا عن الحاكم و سببا في الفتنة "هل تظن حقا أن الشمس سترضع أطفالها غدا؟ كيف حدث أن صار الوقت يشنق المكان؟" ص18 إن قول أدونيس بأفول الحضارة العربية و اللغة العربية هو وصف لواقع و ليس نبوءة فمنذ ألف عام و هذه الحضارة تنازع و لا تحُلّ مشاكلها لا في مُستوى اُتحادى و لا في مستوى كل دولة على حدة و أغلب من يُهاجمون هذا القول يخافون على الدين الاسلامي و القرآن تحديدا في حين أن القرآن هو الذي حافظ على اللغة العربية و قواعدها و ليس العكس كما أن القرآن لاحق للوجود العربي و اللغة العربية و ليس سابقا لهما و كثير من الدول غير العربية في العالم يزدهر فيها الاسلام و القرآن أكثر من الدول العربية كما أن اللغة التي لا تنتج مُصطلحاتها في كافة الميادين و لا تعبر عن عالمها تموت و تندثر و السبب في ذلك أن الدول العربية لا تنتج علما و فكرا و لا فنا حقيقيا لأن الديمقراطية و الحرية عَصَبَا كل انتاج فردي فكيف تعبّر اللغة كما هو غير كائن؟
"ربما لم يعُد هذا العالم (العربي) في حاجة إلا إلى ضوء الذرّة" ص18
أليس هو دعاءَ الفناء ليعيد ترتيب كل شيء و يخلق كائنات فردية جديدة تعيد انتاج ذاتها بمواردها الأرضية المتوفرة و تصنع رؤية بشرية للكون أم أنه متعة مُبهمة في التدمير، انتاج و اعادة انتاج للدمار الذي تستبطنه و ترفضه الذات الشاعرة في الوقت نفسه.

لقد أخرج أدونيس قصيدته من بيت الطاعة العربي و أفردها بمناخاته الخاصة و جعل منها حصانا يقوده من الغيم إلى الضوء في لحظة مكاشفة نادرة كان الشعر خلالها رُبان الأبجدية و سيّدا على المكان و التاريخ و الجسد لانه من يعطيها معناها.