ان لوركا انشودة رائعة، خالدة، من أناشيد البطولة والمقاومة الانسانية. وليس
مصرعه التراجيدي في العام 1936، وشعره الباقي على الدهر في المقاومة
الاسبانية والجمهورية الاسبانية، وفي نشدان الحرية، وتمجيد الفداء والبطولة،
وأبناء الشعب البسطاء، سوى الدليل الراسخ على تعلق لوركا الاندلسي (الغرناطي)
بالحرية والمقاومة ضد اعدائها.
وقد فرض شعر لوركا الانساني ولوركا، القيثارة الاندلسية، نفسه، على ساحة
النقد العالمي في الشرق والغرب. ففي روسيا وبلدان (الاتحاد المؤمنين
بالاشتراكية في الاقطار الرأسمالية (أراغون وايلوار ونيرودا مثلاً لا حصراً)،
وبلدان عدم الانحياز، ينظر السوفيتي السابق، والبلدان الاشتراكية الحالية
(الصين وفتنام وكوبا وفنزويلا) وفي ترسانة إلى شعر لوركا وابداعه عموماً
بمنظور الاحترام الشديد، والتعاطف العميق، ويعد أحد رواد ادب المقاومة
الاوائل ضد الفاشية العالمية (ممثلة في الفاشية الاسبانية في الثلاثينات).
وسنتحدث عن ذلك، بما يسمح به الحيز المتاح، مستثمرين ترجمة زميلنا الشاعر
الكبير الراحل كاظم جواد وزميلتنا الناقدة الكبيرة سلافة حجاوي لبعض أشعار
لوركا.
الشاعر في نيويورك
كتب لوركا الكثير من الشعر والمسرحيات والمقالات والاوجركات ومن اهم دواوينه
الشعرية المنشورة- "كتاب الاشعار"، و"قصيدة الاغنية العميقة"، و"اغان"،
و"حكايا غجرية"، و"شاعر في نيويورك" (حيث كان الشاعر قد حل في الولايات
المتحدة، في صيف العام 1929، واصطدم بعالم الامبريالية الامريكية في
المتروبول). وتميز شعره في اميركا، بثورة عارمة بوجه هذا العالم المتوحش (حيث
كان اديب اميركا الكبير ارنست همنغواي، يقول: الانسانية مضيمة في اميركا، حيث
لازالت الغابة اكثر "انسانية" من المجتمع الامريكي"). وكذلك تميز الشعر
اللوركاوي الامريكي، بالضرورة بالانتصار للزنوج الامريكيين، والتعاطف النضالي
مع قضيتهم وصراعهم في سبيل نيل حقوقهم المدنية ومساواتهم الانسانية
بالامريكيين البيض- مواطنيهم في الدولة الواحدة- الولايات المتحدة الامريكية.
لقد كتب لوركا العديد من القصائد في "الموضوعة الامريكية"، ومن ذلك قصيدته
"الغجر"، حيث يصف فجر نيويورك الامبريالية مضطهدة الفقراء والزنوج، وصفاً
يميز اروع خصوصيات شعر لوركا في الحرية والمقاومة وحقوق الانسان:
- لفجر نيويورك
أربعة اعمدة من طين
وزوبعة حمائم سود
تتمرغ في مياه اسنة
...
يطلع الفجر ولا من يتقبله بفمه فليس هناك من صباح
ولا امل منتظر
وتبحث النقود احياناً
مثل وحوش ضارية
عن الاطفال المشردين وتلتهمهم".
ويصور، بفنية رفيعة، وحساسية جمالية موارة، ملامح من حياة الجماهير المستلبة،
في هذا العالم الامبريالي الذئبي:
- "يعون لحظة يولدون،
....................
يعرفون انهم ماضون
إلى وصل الارقام والقوانين،
إلى ألعاب بلا فن او روح،
إلى كدح بلا ثمر...
النور يرن في السلاسل،
والضجيج في تحد،
لعلم بلا جذور...
الجموع الارقة في الضواحي تترنح
وكأنها طلعت لتوها من طوفان قوي"
مع الجمهورية الاسبانية
ان كفاح لوركا ضد الامبرالية العالمية، وامبرالية اليانكي الامريكية، بخاصة،
يرتبط، على نحو عضوي، بكفاحه ضد الفاشية، وبخاصة ضد الفاشيين الاسبان في
الثلاثينات. وهم الذين هبت لنجدتهم كل قوى الفاشية والرجعية في العالم، في
وقتها، وفي مقدمتها المانيا النازية وايطاليا الفاشية، بينما توحدت،
بالمقابل، قوى التقدم في العالم لنصرة الجمهورية الاسبانية الديمقراطية،
الوليدة، في صراعها ضد الفاشية الاسبانية (الفرانكوية) والعالمية، ولعل ذلك
هو أحد جذور حقد الفاشيين الاسبان الضاري على لوركا وتدبيرها جريمة اغتياله.
يصف لوركا الحرس القومي، وهم الحرس الفاشي الاسباني، فيجعلك ترى وتشتم هذا
الحرس، كما قال وقتها بالحرف، أحد قادة الجمهورية الاسبانية. هنا، يقدم لوركا
لوحة واقعية موشحة بالتهاويل الرومانتيكية والسريالية والرمزية لمدينة الغجر
(رمزاً، ومعادلاً موضوعياً لفقراء الشعب الاسباني)، هذه المدينة التي يفترسها
الحرس القومي، ويلتهمها في عملية تأديب انتقامية، (تماماً كمل فعل الفاشيون
الالمان في كل جزء من اوربا المحتلة، وكما فعل ويفعل الفاشيون الصهاينة في
ارضنا العربية المحتلة والفاشيون الاخرون وكتائب حرسهم المناظرة).
يقول لوركا في هذا الحرس الفاشي، ومدينة الغجر:
- "خيولهم سود،
سود حوافرها الحديد،
تشع على مآزرهم
بقع من الحبر والشمع،
وما دامت جماجمهم من رصاص
فلن يبكوا
يتقدمون بأرواحهم الجليدية
وقبعاتهم الملونة
عبر الطريق
متكورون كالحدب،
قاتمون حيث يمرون،
ينشرون صمت المطاط المعتم،
ورعب الرمال الناعمة".
وتختتم اللوحة بنهاية فاجعة، تصور نهاية المدينة الغجرية، وهي نهاية كل مدينة
ثائرة، عقب عملية تأديب فاشية (وقد عرفنا مثل هذه النهاية في فلسطين المحتلة
وسواها، وحيثما تسلطت الفاشية):
- "وحين لم تعد السطوح
غير أخاديد من الارض
هز الفجر كتفيه على سرب طويل
من الاحجار...
ايه يا مدينة الغجر
بينما تحتضنك الحرائق
كان الحرس الاهلي يتوارى
في سرداب من الصمت"
مع الانسان ضد اعدائه
يرافق لوركا هذا الحرس الفاشي الذي يتقدم زارعاً الحرائق، التي تشعل الخيال،
على حد قول لوركا، يرافقه في كل قصيدة قالها، تقريباً. فالحرس الاهلي
(القومي) هو رمز للفاشية والغجر هم رمز الشعب الاسباني، كما اسلفنا القول.
ونجد هذه المرافقة في قصيدته وفي مصرع انطونيو آل كامبوريو، وفي قصائد متميزة
مثل "صرخة إلى روما" و"أغنية الفارس" و"القديس ميكويل" وغيرها من القصائد.
وفي قصيدته "صرخة إلى روما"، يصور لوركا الصراع بين الانسان واعدائه، بين
الشعوب والامبريالية وبين الطبقة العاملة والرأسمالية، من مثل هذه الاشعار:
- "هنا لا شيء سوى مليون حداد،
يسبكون القيود
لاطفال لم يولدوا بعد...
هنا لا شيء سوى مليون نجار
يصقلون التوابيت،
توابيت بلا صلبان".
ويتوعد لوركا اعداء الانسان واعداء الحرية والظالمين جميعاً، بثورة الانسان،
وانشودة الحرية الشاملة المدوية المتوصلة التي لابد ان تنتهي بالنصر:
- "أما الانسان فسيتكلم
وسيصرخ عارياً بين الاعمدة الشامخة
سيقول: الحب، الحب، الحب، حتى تتحول شفتاه إلى فضة".
ويفسر لوركا، محقاً، سر الصراخ الامبريالي المسعور، بأنه النهم المجنون،
والسعي المتوحش وراء الارباح، وبأنه الارتعاب الامبريالي وارتعاب الظالمين
جميعاً، امام يقظة الفقراء، وثورة المظلومين. ويتكلم لوركا باسم الفقراء
والمظلومين عامة، محدثاً البشرية كلها باستمرارية الثورة، وتواصل انشودة
الحرية الانسانية، ومفسراً سعار اعداء الانسان من امبرياليين وظالمين من
مختلف الصنوف بالصراع الظافر، في خاتمة المطاف:
- "لاننا نريد خبـــزنا اليومي
ونريد ازهار الحور والسنابل ذات النضارة الابدية
ولاننا نريد وفاء الارض
يهب الفاكهة للجميع".
* * *
ويتمكن الفاشيون، أخيراً، من القضاء على جسد لوركا، لكن روحه الانسانية
المناضلة، وأشعاره الانسانية ذات الفنية الرفيعة، والحداثة الاصيلة ذات
السمات اللوركاوية الخاصة التي خاطبت المظلومين والطبيعة والانسان اينما كان،
وكذلك اغانيه ومسرحياته وكلماته ظلت نبراساً يستضيء به شعراء المقاومة في
اسبانيا، وانحاء العالم كافة، على مدى العصور.
ألف ياء -جليل كمال الدين