آخر الأخبار

قصة اختراع (2)

الحاجة أمُّ الاختراع

في كثير من الأحيان كان يتردد على زيارتي في ألمانيا ، أو في أثناء مشاركتي في المعارض العالمية لآلات النسيج أصحاب معامل نسيج من البلاد العربية ، كان بعضهم يجلب معه بعض أنواع هذه السلكات ، ليسأل عن أنوال حديثة لإنتاجها ، فلم يكن بوسعي غالباً إلا أن أقدم اعتذاراً لبقاً مع ترك الأمر مفتوحاً للمستقبل . في مرة من المرات ، سألت أحدهم عن المصدر الذي يشترون منه هذه الأنوال حتى الآن ، فكان الجواب : أن هذه الأنوال ، التي صممت ، وصنعت في فرنسا في النصف الأول من القرن العشرين تُشترى غالباً مستعملة فتجدد ، أو تشترى جديدة من اليابان ، حيث قامت إحدى الشركات اليابانية على تقليد النسخة الفرنسية . هذه الأنوال عملها معقد ، وكثيرة الأعطال ، وثمنها باهظ مقارنة بسرعة إنتاجها

بحثت في كتب ومراجع النسيج في أوروبا ، فوجدت أن هذه الأنوال تدعى بأنوال البروشيه ( بروشيه كلمة فرنسية وتعني الإبرة أو السنارة ) . الإيضاحات الكتابية والرسوم الهندسية المتوفرة لشرح تقنية البروشيه ضئيلة جداً ، بحيث لا يمكن للمرء أن يصل عن طريقها إلى فهم آلية عمل هذه الأنوال . وتذكر هذه المصادر ، أن تقنية البروشيه معقدة جداً ، وقد اختفت هذه الأنوال من أوروبا بشكل كامل تقريبا . واستعاض الأوروبيون عن هذه التقنية بطرق أخرى ، مثل نقش القماش بواسطة آلات الجاكارد ، أو استخدام تقنية الشيرلي
( شيرلي اللحمة : هي أن نقوم بإضافة خيط لحمة ملون إضافي ، بحيث يخفى هذا الخيط خلف القماش ، ويظهر فقط في موضع النقش . الجزء المختفي من الخيط خلف القماش يقص ، ويزال من القماش بواسطة آلة إضافية ) . كلتا الطريقتين لم تجد لها في إنتاج السلكات سبيلا . السبب يكمن في أن وزن المتر المربع للقماش يزداد بشكل لا يتناسب مع ارتداء هذا القماش على الرأس ، أو أن المظهر والممسك والملمس السطحي للقماش قد تغيروا بشكل ، لا يشبه ما كان عليه قماش السلكات من قبل

حُرص العرب على اقتناء هذه السلكات على رؤوسهم أبقى هذه التقنية محفوظة عن طريق بقاء هذه الأنوال القديمة في معامل النسيج في الشرق الأوسط في حيز الاستخدام ، وأدى أيضاً إلى قيام بعض مصانع آلات النسيج في اليابان بتقليد النسخة الفرنسية

طريق البحث

في عام 2007 الميلادية أتيح لي زيارة دمشق ، بعد غياب زاد على الثلاثة عقود . أثناء هذه الزيارة كان لدي رغبة ملحة لزيارة معمل للنسيج ، يستخدم مثل هذه الآلات بعد ، ولأطلع على تقنية عمل هذه الأنوال عن كثب ، وخاصة بعدما بلغت من الفهم في هذه المهنة ما بلغت . سألت أخي محمد ( صاحب معمل لإنتاج البشاكير والمناشف ) فقال : الأمر بسيط جداً ، إن جاري في المنطقة الصناعية لديه هذه الأنوال . في اليوم التالي وقفت أخيراً أمام هذه الأنوال . أنوال مكوكية تعمل بسرعة ثمانين حدفة بالدقيقة تقريبا . هي بطيئة جداً - حسب ما تعودته من الأنوال الحديثة ، التي تنسج القماش بسرعة تقارب الألف حدفة بالدقيقة - ولكن عملية تكوين القماش الأبيض ، والنقش عليه بالخيط الأسود أو الأحمر بديعة جداً ، أدهشتني ، وأخذت عقلي - كما أخذت عقلي مهنة النسيج منذ أكثر من أربعين عاما - . ابتدأت أتفحص النول من الأمام ، ومن الخلف ، ومن الجانبين . حركات ميكانيكية ، رزينة ، منتظمة ، متناغمة ، ومعقّدة بنفس الوقت . كل وظائف الحركات لنسج أي من السلكات من أوله إلى آخره مبرمجة ومخزنة بشكل ميكانيكي كامل . الكهرباء لا تستخدم في هذه الأنوال إلا لتحريك الموتور الرئيسي ؛ الذي يقوم بعملية الدفع . عندما تنظر إلى النول ، ترى كأن كل الأمور بسيطة ومسلم بها ، وإذا أدرت ظهرك ، وحاولت أن تتخيل كيفية عمل هذه التقنية ، أدركت أنك لم تفهم شيئاً بعد ، من حسن الحظ أنني كنت مصطحباً لآلة تصوير ، فأخذت بعض الصور من مواقع مختلفة ، وأدرت فيلماً قصيراً ، علّه يساعدني على متابعة الفهم ، إذا ماعدت إلى مكتبي في قسم تطوير آلة النسيج في ألمانيا
[img]http://www.jablah.com/uploads/extgallery/public-photo/medium/cache_14612...

نول نسيج مكوكي مع تقنية البروشيه

بعد مرور بضعة أشهر على الزيارة الأولى لدمشق زرت دمشق ثانية ، وعاودت الذهاب إلى معمل النسيج ، علّني أكون في هذه الزيارة تصوراً أكمل لآلية عمل أنوال البروشيه المكوكية . عند دخولي المعمل لاحظ أحد العمال تكرار قدومي ، وتفحصي للأنوال ، فما كان منه إلا أن أوقف عمل أحد الأنوال ، وابتدأ يشرح لي آلية عمل نول البروشيه بشكل واضح ومتأن . بعد هذا الشرح ابتدأت أدرك المعوقات ، التي تحول دون إمكانية دمج هذه التقنية في الأنوال الحديثة التي تستغني عن المكوك في نول النسيج

عن طريق المتابعة المتواصلة لما ينشر في بنوك المعلومات ، التي ترصد كل ما يسجل من اختراعات في معظم دول العالم ، لاحظت أن العديد من المخترعين الأوروبيين ، بدأوا في السنوات الأخيرة يسجلون بعض الأفكار والمقترحات ، لنقل تقنية البروشيه إلى الأنوال غير المكوكية الحديثة ، ما يدل أن حاجة نقلها أصبحت ، أو ما زالت واردة في عقول الفنيين ، لكنه حسب تقديري ، أن كل ما سجل حتى تاريخه لا يرقى بنا بأي حال من الأحوال لإحداث نقلة واقعية أو عملية في هذا المجال

يتبع...