نادراً ما كان العالم في الأزمنة الحديثة عالماً يصعب حكمه كما هو اليوم. فالمشاكل العالمية تحيط بنا من كافة الجهات من دون أن تلوح أي حلول عالمية لها في الأفق.
وعوضاً عن الحلول العالمية، نشهد الحروب والمجازر والأزمات المالية التي لم يسبق لها مثيل والنزاعات التي لم تحلّ وكثافة سكانية وانعداماً في الأمن الغذائي والمائي وهجرة كثيفة مؤسفة وأضراراً ناتجة من تغيّر المناخ، وفي عدد كبير من أنحاء المعمورة هناك سلسلة من الأنظمة الفاسدة والعنيفة.
فقد ولّت الأيام حيث كانت حفنة من رجال الدولة الحلفاء تقوم بفرض القانون ورسم الحدود ومعاقبة البعض ومكافأة البعض الآخر وفرض سلام المنتصر كما كان الحال بعد الحربين العالمية الأولى والثانية. كما ولّى زمن العالم الذي سيطرت عليه ثنائية القطبين، والذي ساد خلال الحرب الباردة عندما فرضت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي توازناً مربكاً.
يبدو العالم عوضاً عن ذلك عبارة عن مجموعة من البلدان المتخاصمة والمتنافسة، تحاول كل منها حماية مصالحها الوطنية من دون إيلاء اهتمام ولو صغير بالمصلحة المشتركة.
من الواضح أن العالم يعاني أزمة حكم كبيرة. فالتنازع على السلطة منتشر في كل مكان فيما تعجز المؤسسات عن فرض سيطرتها بالكامل. وفي زمن انعدام الأمن، عندما لا يمكن أحداً معرفة طبيعة المخاطر الجديدة التي قد تبرز في المستقبل، يميل الناس إلى البحث عن دولتهم الخاصة التي تحميهم، بالتالي يساهمون في تقويض القيادة العالمية وغضّ النظر عن القيم العالمية التي كانت مقبولة من الجميع في السابق.
وفي معرض البحث عن تفسير لهذه الفوضى السائدة حالياً، أشار عدد من المعلّقين إلى تراجع في قوة الولايات المتحدة وسلطتها وسمعتها التي تشوّهت جميعها جرّاء السنوات التي أمضاها جورج بوش في الحكم. ويعمل الرئيس باراك أوباما جاهداً على تغيير هذا المنحى، إلا أن إرث الماضي يُرخي بثقله عليه. في هذا الوقت، تلقّى الدولار الأميركي ضربةً قاسية نتج منها ارتفاع في سعر صرف اليورو ما أدى إلى تراجع التوقعات على صعيد الصادرات وأضرّ بالانتعاش الاقتصادي في دول منطقة اليورو.
تبقى الولايات المتحدة أقوى من أي بلد آخر، إلا أنها لم تعد القوة العظمى التي لا يمكن تحدّيها كما كان الحال قبل سقوط جدار برلين منذ عشرين سنة، وهو حدث هزّ العالم وأدى إلى انهيار الاتحاد السوفياتي والنظام الشيوعي ككل.
وقد دعا مسؤول الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا الاتحاد الأوروبي إلى اعتماد سياسة خارجية تتناسب والقرن الحادي والعشرين. فلا شك في أن أوروبا تملك قدرات هائلة إلا أن الانقسامات الحاصلة بين أعضائها سلبت منها قوتها السياسية الحقيقية. وعلى رغم الثروة التي يتمتّع بها الاتحاد الأوروبي والإنجازات الكبيرة التي حقّقها وعدد سكانه الذي يقدّر بنحو 500 مليون نسمة فانه لا يُعتبر لاعباً عالمياً أساسياً.
سيتوجّه زعماء العالم إلى برلين في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) ليحتفلوا بذكرى سقوط الجدار إلا أن مشهد وحدتهم لن يساهم سوى في إخفاء خلافاتهم العميقة وضعفهم الجماعي.
وفي تشرين الثاني، من المتوقع أن يجتمع وزراء المال وحكام المصارف المركزية في الدول العشرين التي تتمتع بأكبر اقتصاديات في العالم والتي تدعى مجموعة الدول العشرين في مدينة لندن ليناقشوا كيفية معالجة الانهيار الناتج من الأزمة المالية التي لم تنته بعد. وكانت عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية من صلاحية الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. وترمز مجموعة الدول العشرين إلى دخول اقتصادات جديدة وقوية، كالصين والهند والبرازيل وروسيا الصاعدة، في صورة الاقتصاد العالمي.
وكان ينبغي على أعضاء مجموعة الدول العشرين أن يتفقوا على تنظيم المصارف والمؤسسات المالية وتقليص المكافآت المالية ورزمة الحوافز التي كانت تهدف في أوج الأزمة إلى إنقاذ العالم من الكارثة الاقتصادية. وكان من المتوقع أن تتوصل مجموعة الدول العشرين إلى اتفاق دولي جديد. غير أنه لم يبرز أي تحرّك عملي واضح على رغم الكلام الطيب الذي صدر خلال المحادثات.
ويطغى بروز الصين كقوة اقتصادية عملاقة جديدة في العالم على هذه الأحداث. فقد يؤيّد البعض وضع استراتيجية اقتصادية عالمية في يد دولتين هما الولايات المتحدة والصين وهو اقتراح يؤكّد أن أميركا خسرت تأثيرها.
هل يمكن أن يأتي الخلاص من المؤسسات الدولية؟ الحقيقة هو أن الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والاتحاد الأفريقي ورابطة دول جنوب شرقي آسيا (آسيان) التي تضمّ عشرة أعضاء تعاني خلافات بين أعضائها وفوضى عارمة.
أضرّت الحرب الكارثية في العراق بأميركا وبالتسوية الغربية لا سيما أنها أخلّت باستقرار الشرق الأوسط من خلال تدمير هذا البلد العربي الأساسي. ولا تزال النتائج المأسوية كالعنف الأعمى والنزاع الطائفي والفقر الكبير في صفوف عدد من اللاجئين والأشخاص المهجّرين موجودة. وقد بدأت الولايات المتحدة تنسحب أخيراً من العراق إلا أن الضرّر قد حصل وسيحتاج عقوداً لتعويضه.
من جهة أخرى، تُشنّ حرب غير مجدية في أفغانستان يتمّ من خلالها اختبار الولايات المتحدة التي تبدو فيها غير كفوءة. وفي معرض البحث من دون جدوى عن تنظيم «القاعدة»، تعمل الولايات المتحدة وقوات حلف شمال الأطلسي على شنّ حرب لا يمكن الفوز بها ضد القبائل الأفغانية المستقلة التي تكره الأجانب والتي تصدّت في الماضي لمحاولات الإمبراطورية البريطانية والاتحاد السوفياتي تقويض سلطتها، وتتصدى اليوم للحكومتين الباكستانية والأفغانية أيضاً.
يدعو هذا النزاع إلى إيجاد حلّ سياسي تشارك فيه كل الدول المجاورة لباكستان والتي يصل عددها إلى ست أو سبع دول، فيما لا تزال بعض الأصوات النافذة في الولايات المتحدة تطالب بتحقيق «النصر» مجبرة بذلك الرئيس باراك أوباما على اختيار الحرب عوضاً عن الإصغاء إلى ضميره. وفي الوقت نفسه، لا تزال قوة أميركا تضعف ويبدو أن حلف شمال الأطلسي على وشك الانهيار تحت الضغوط.
يبدو الضعف وغياب الوحدة داخل المجتمع الدولي واضحاً في منطقة الشرق الأوسط أكثر من أي مكان آخر. أما إسرائيل، وهي البلد الذي لا يتجاوز عدد سكانه سبعة ملايين نسمة، فلا يتحدى حليفه الأميركي الكبير فحسب بل العالم العربي والإسلامي بأكمله أيضاً وربما الرأي العام المتحضّر في العالم. فهو يرفض أن يضع حدّاً للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية واحتلاله للضفة الغربية أو حصاره لقطاع غزة والدخول في مفاوضات جدّية حول قضايا الوضع النهائي كالحدود والقدس واللاجئين والمياه والأمن والسلام.
لقد سمح ضعف النظام الدولي للصقور في إسرائيل بأن يستمروا في سياساتهم العنيفة والخاطئة والقصيرة النظر التي قد تُلحق في نهاية المطاف هزيمة بهم.
بالطبع، تبقى طريقة حكم العالم أحد أكبر الألغاز في زمننا هذا
(الحياة)