آخر الأخبار

الكاتب و البترول

--------------------

قد تبدو العلاقة متعددة الوجوه بين الكاتب و البترول و أوّلـُها التشابه في المنشأ فالكاتب الذي تتمثل فيه روح البلاد و فكرها و يكون إبداعه حاملا لِطعم و رائحة الأرض التي زُرع فيها و مناخها الجمالي الخاص لا يُولـَد بين عشية و ضُحاها، إنه عصارة سلاسل وراثية ضاربة في القِدم و متفاعلة مع غيرها في نفس المكان بحيث يظل الجوهر كلما قـُدِح نارا بان ضياؤه و معدنه و كذلك البترول فهو نتيجة دينامية طويلة تحدث في باطن الأرض عبر مئات السنين ليحصل الإنسان في عصرنا على هذه المادة النفيسة التي لولاها لتوقفت عجلة التطور و لما شهدت الدول القوية هذه الطفرة الخارقة على مستوى التسلح و التلوث و التي ستسرع بالفناء العاجل للبشرية.

و إذا كانت الدول العربية لا تملك بأجهزتها التعليمية الكفاءة في تمييز الموهبة و العبقرية لدى الطفل و توجيهه وفقها (إلى مراكز قد توجد و قد لا توجد) و إذا كان بعض القائمين على المؤسسات الثقافية لا يتمتعون بالوطنية الكافية لإفساح الطريق(التعريف و النشر) أمام المواهب التي يتعرضون إليها في مشوارهم الثقافي و يفضلون تكريس أسماء تنام في الأرشيفات لعشرات السنين و تعتمد على أقدميتها و شبكة علاقاتها في البقاء مدى الحياة لاستنزاف ثروات قطاع الثقافة فإن الشعوب تظل في شلل دائم و هو ما يجعلنا نتحدث عن الرواية الرسمية للأدب و التي تقدمها هذه الفئة من الأدباء و القائمين على الأدب على حساب المواهب الممكنة أو الأصوات المعارضة (التي تملك نفس الحق في إتاحة الفرص) التي لا تتفق إيديولوجيًا مع النخبة السائدة على مستوى الثقافة أو قد لا ترقى هذه النخب المكرسة إلى البدائل الجمالية و الفكرية المقترحة فتمنعها من الظهور بدعوى الإساءة للدين أو النظام الحاكم أو القيم و التقاليد ضمن تـُهَمٍ فضفاضة يمكن أن يندرج تحتها أيّ نص أو عمل فني فكيف نكتب دون رفض لشيء ما و كيف نرفض دون ثورة داخلية تتجلى فنّـًا في مفرداتنا و صُورنا نقدم من خلالها بدائلنا الفكرية و الجمالية؟

لا يشك أحد في أن الإبداع في الدول النامية يمرّ عبر القنوات الرسمية دون غيرها و حتى الخاصة منها تتجنب الأسماء المحظورة و التي لا تتفق مع آلة السلطة و تتصرف كما لو كانت قنوات محلية فيما يتعلق بالتابوهات التي تضعها الدولة بل تكتفي هذه القنوات بصنع الإثارة عن طريق كـُتـّاب الجنس المجاني الذي لا ينطوي على دور درامي أو فكري بقدر ما يحقق غايات تجارية بحتة تفيد في التوزيع أو صنع فرقعة صحفية أو مواضيع أخرى تتعلق بالقضايا الدينية السطحية من لباس و سلوكات اجتماعية متضاربة سببها الغزو الفكري الأجنبي الذي نُحمّله كل أوزارنا و نقائصنا. و في الحقيقة إن الجمهور ليس في قطيعة مع الكاتب المحلي و إنما مع الأطر الرسمية التي تقدم المنتوج الذي ترتئيه و الذي يكون في الغالب خاليا من الإبداع و روح النقد في حين يُصادَرُ الإبداع بكل أشكاله أو يقع قتلـُهُ بتسميم التربة التي ينشأ فيها (بإفساد التعليم) و إذا كانت كل الأشكال الفنية تخضع للرقابة فإن الرقابة على الكِتاب أشد خطرا و أبعد أثرا.
و بسبب وساطة الأجهزة الرقابية و السياسية نظل شعوبا لا يصل فكرُها إليها و ما الكتب الممنوعة رسميا أو بصفة غير رسمية إلا شكل من أشكال هذا الحجب و ما دعوة بعض الشخصيات الفكرية إلى البرامج الثقافية التي تشرف عليها السلطة و توجيه الأسئلة نحو أفق سطحي لا يقدم مشروع تلك الشخصية و بدائلها الفكرية إلا نوع من الحجب أيضا و هذا ما يجعل هذه الشخصيات نفسها ترفض دعوة هذه البرامج لأنها لن تكون إلا ديكورا فيها و دليلا على مصداقية السلطة و اُحترامها للفكر في حين أن هذا غير صحيح. و علاقة النصوص بالأجهزة الرقابية للسلطة ليست حديثة فلأدبنا القديم و الحديث نسبيا روايته الرسمية أما روايته غير الرسمية فتظل منتوجا شفويا ينكشف في الجلسات الخاصة و فيها يموت و توثيقها أو إعادة كتابتها على الأقل هي من صميم عمل الكتاب و النقاد و المحققين و تقاعسهم عن هذا الدور أو خوفهم من الاستبداد السياسي فتح المجال للإعلام الذي ليس سوى سلطة إضافية و حيوية في يد السلطة السياسية لتناول ذاكرة ليست ملكه و تسطيحها و تفتيتها و تتفيهها و تقديم طرحِهِ على أنه الطرح الوحيد و ذلك لخلق القطيعة التي نتحدث عنها بين الكاتب و الجمهور و بين الكتاب أنفسهم و لهذا لا توجد ثنائيات أدبية في تاريخ الأدب العربي كما توجد في التاريخ الغربي و لا يذكر التاريخ إلا مي زيادة و جبران خليل جبران و إن لم يكوّنا ثنائيا حقيقيا أضاف لتجربة كليهما الإبداعية إضافة واضحة تناولها النقاد بالدرس.
و لا يمكن تجاهل دور البرامج التعليمية في صياغة ثقافة مُسَيّسة تبتعد بالكتاب عن روحه و بالعقل عن شوقه للمعرفة و الجمال و نقد الكلمة التي ليست مقدسة إلا بالقدر الذي نسبغه عليها و عدم اُستنادنا لإحصائيات محلية و نزيهة يجعل الإحصائيات العالمية النزيهة و غير النزيهة تتحكم في نظرتنا لواقعنا و تزيد الكاتب إحباطا على إحباط و تعطي المستهلك شرعية وهمية لعزوفه عن الكتاب في حين أن العلاقة بالكتاب ليست سوى صورة عن تفاعل هذا الشعب أو ذاك مع واقعه و محيطه الجغرافي القريب و البعيد لأن الكتاب ليس تحفة فنية متخارجة عن الزمان و المكان و الإنسان و نوعا من الترف الخالص و ليس مُهرجا من ورق يبعد عنا السأم إنه دعوة للتفكير في واقعنا و تحليل لمشكلاته و استشراف لآفاقه و تلمّس لعوائقه و القدرة على استنتاج إمكاناته الخاصة و هو دعوة للتغيير على المستوى الشخصي و رؤية اليومي بوضوح و بمسافة نقدية كافية يمكّن الشخص من التغيّر تدريجيا و تغيير محيطه الضيق بنسبة أقل (بعض أفراد العائلة أو بعض الأشخاص في محيط العمل). و لكن إزاء خوفنا (أو تخويفنا) من مخيلتنا التي تنتمي لواقع محدود بالجهل و الحرمان نسرّب خوفنا لأطفالنا الذين يحبسون مخيلاتهم و قد لا يكون لهم علم بهذا "العضو" أصلا ما لم تقع الإشارة إليه من قِبَلِنا و تحفيزه. و إزاء خوفنا (أو تخويفنا) من عقلنا و إمكانياته يظل هذا "العضو" يعمل بنسبة ضئيلة جدا من إمكانياته تقتصر على التقليد و التنفيذ و التبرير مما يزيد استثمار الأنظمة الاستبدادية في بلداننا لقاعدة أوسع من الجمهور لا تعمل إلا على إطالة حكمها.
و إذا كان سعر النفط يرتفع و ينزل حسب المعايير الاقتصادية فإن عقول مفكّرينا التي لا تقدر بثمن تجد دائما من يستغني عن خدماتها إذا لم ينفع معها الترغيب و الترهيب و إزاء تجميد السعر يرتفع سعر كل شيء حسب العرض و الطلب في حين لا تجد عقولنا طلبا من أسواقها المحلية فضلا عن العالمية.