أضحكني بعض الأصحاب -وهو موظف في دائرة الأرصاد الجوية ومن المتابعين لتطورات الثورة المصرية هذه الأيام-عندما سألته مازحـا ً: لو سـُمح لعلماء الجيولوجيا الآن أن يثبتوا مقياس زلازل تحت عرش كل زعيم عربي، كم تتوقع سيؤشر المقياس بوحدات رختر من جراء الهزات الارتدادية على تلك العروش بعد ثورات تونس ومصر؟؟ فأجابني صاحبي: إن تأثير الهزات الناتجة عن تلك الثورات لا يمكن تحديده بموضوعية لأن المقياس لا يمكنه التمييز بين اهتزاز العروش نتيجة الثورات وبين اهتزازها نتيجة ارتعاد الحكام الجالسين عليها !
لقد أظهرت هذه الثورات حقا تضعضع الحكام العرب وهشاشة أنظمتهم بوجه الغضب الشعبي الذي قتل الخوف من الموت في النفوس والهيبة من القتل في القلوب..ولقد تقطعت بهم السبل وضاقت عليهم الأرض بما رحبت بعد أن كانت الأرض لهم ولعوائلهم وحاشيتهم..وأصبحوا يتخبطون فلا يهتدون سبيلا ويتلفتون فلا يجدون وليا ً ولا نصيرا.. وأزيحت من أمامهم المرآة السحرية التي كانت تظهرهم عمالقة وتهوّل على الشعوب خطرهم وانجابت تلك الغمامة التي أظلتهم طويلا ً ورسمت حولهم الغموض المخيف، فما عادت شعوبهم ترى منهم إلا ما هم عليه حقا ً: أقزام يرتجفون ويقعون على الأرض مع كل خطوة يخطوها شباب الثورة الجبار باتجاه القصور التي بناها الطغاة من عرق الشعوب ودمائها..
لكنني لن أدع الهزة والعزة التي أشعر بها هذه الأيام والتي يشعر بها كل الشباب العربي بعد الأحداث الأخيرة أن تطغى على رؤيتي كمحلل للوقائع ومستشرف للأحداث..فأنا أعرف أن ما حدث ليس معزولا عن التأثيرات الخارجية ومخططات القوى العظمى في المنطقة..وما يحزنني حقا أن شعورا قويا ينتابني بين الحين والآخر بأن البركان المنفجر في الشعوب العربية تجري حممه ومقذوفاته في طرق ومنعرجات مرسومة ومـُعدّة مسبقا من قبل الإدارة الأمريكية قبل الإنفجار بزمن، وأنّ هذه الحمم ستوجّه تلقائيا ً إلى غايات تريدها تلك الإدارة بعد أن تكون الحمم قد قطعت إلى تلك الغايات دروبا تقع عليها محطات محددة منها محطة قصر الرئيس العربي (السابق)..
إن ثورة الشعوب العربية اليوم ليست ثورة ياسمين ولا ثورة خبز ..إنها ببساطة ثورة الـ Facebook والـ Twitter وهي -بذلك- ثورة تنظمها وتحوطها التقنية الأمريكية بامتياز. ولا تسأل بعد هذا لماذا تبدي الولايات المتحدة قلقها ورفضها بعد كل حجب لمواقع التواصل الاجتماعي قد يلجأ إليه الحكام العرب إزاء هذه الثورات، وهو إجراء دائما ما يأتي متأخرا من هؤلاء الحكام المساكين..
ثم لا تقل كذلك بأن دولة المايكروسوفت والرقابة على الانترنت لم يكن لها علم مسبق بإرهاصات الثورة التونسية أو المصرية في مراحلها الأولى، عندما بدأ الشبان ينشرون أفكارهم على الشبكة العنكبوتية ويتفقون على موعد انطلاق الانتفاضة..لا تقل ذلك وإن أظهرت وزيرة الخارجية كلينتون صدمتها واستغرابها في تعليقها الأول بعد كل انتفاضة..لأن الحقيقة التي غابت عن كلامها وتصريحاتها قد اختبأت بين تلك التجاعيد التي تظهر ذلك الوجه المتغضن.
لستُ من مروّجي نظرية المؤامرة، لكنني أعلم أنّ الامبراطورية الأمريكية كرّست هيمنتها طويلا باتخاذ سياسات متحركة باستمرار وإبداء مرونة في استيعاب المستجدات..لقد تعلمت من أخطائها في العراق بعدما استقبل العراقيون بوش بالمفخخات وودّعوه بالأحذية..فابتكرت تكتيكا جديدا يتيح لها صفع الحكام العرب من بعيد بقفازات حريرية والإطاحة بهم عن طريق شعوبهم..وأصبح الأسلوب الجديد هو ضربَ الحكام بشعوبهم بعد أن كان ضربَ الشعوب بحكامها..
أن وجود سياسات عميلة ثابتة هو الحالة المثالية لأميركا ومصالحها في المنطقة، أما الحكام كأشخاص فهم في القاموس الأمريكي كحروف المطبعة التالفة، متى تكسرت أ ُبدلت بأخرى صالحة واستمرّ عمل المطبعة مادامت المطبوعات الناتجة تخضع لرقابة البيت الأبيض..
نعم إنها في الحقيقة ثورة أمريكية تنفذها الشعوب الجائعة والمغلوبة على أمرها بأسلوب يراد له أن يكون تتابعيا وغير منظم..ولا بأس ببعض المؤثرات المرئية من نهب وسلب مفتعل وقتل متعمد للسجناء في بعض السجون..فأكثرهم في هذه البلدان إسلاميون على أي حال..ثم يخاف الحاكم أو يُخوّف..ثم يرحل دون وداع جمهوري..ثم يتولى الحكم الغنوشي بعد بن علي، وعمر سليمان أو البرادعي بعد مبارك..ثم تـُعلل الجماهير الجائعة بالخبز الديمقراطي القادم، فتـَلوك وعودها الكاذبة وتمضي إلى بيوتها..
هذه هي المسيرة المتوقعة للثورات العربية الحالية، وهي أشبه بالدمامل التي طالما تسبب بها سلاطين السوء تتفجر اليوم في وجوههم قيحا وصديدا ، ثم يعاد تضميدها بضمادات أمريكية قذرة ما تلبث أن تتسبب في تكوين دمامل جديدة..
إن الإدارة الأمريكية اليوم تعرف تماما أين ترمي الحجر من هذه البركة الساكنة لتخلق موجات صناعية متتابعة، لكنها تسلل خلسة بعد ذلك لتنضم إلى جموع المراقبين لتبدي قلقها من تأثيرات هذا الـ (تسونامي) !!
خليل الربيعي