آخر الأخبار

قراءة في رواية "سنوات البروستاتا" للصافي سعيد

في ذروة الحياة التي تنفتح تلقائيا على الموت تتلبس مقومات الثالوث المقدس ببعضها و يغذي كل منها الآخر بنفس الشراسة في "سنوات البروستاتا" للكاتب و الصحفي التونسي الصافي سعيد. هذه الرواية التي تحكي سيرة شخصيات حقيقية بحرفية تجعل الكاتب يؤسس لقيم روائية عوض القيم الواقعية المتعارفة، في فترة موبوءة من تاريخ بلاده و قد جعل الكاتب المراوحة بين العالم الواقعي و العالم الآخر لا كأسلوب للمحاكمة فحسب و إنما هي طريقة لجلد هذه الشخصيات التي ما تنفك تكذب و تطمع و تفكر في الإذاية حتى "بعد فوات الأوان".

تنفتح الآخرة كسجن كبير لتكون مبتدى الرواية و منتهاها، مسرحا لعبثية الظلم و سخرية العالم الدنيوي فلا شيء يبرر استعباد الإنسان للإنسان "و الجروح قصاص"...نجد أنفسنا أمام عالم أبي العلاء المعري في رسالة الغفران و هو يمعن في إهانة "ابن القارح" آتيًا بأجمل ما في الأدب من "قلة الأدب"حتى يحصل على المعادلة الصعبة، معادلة المساواة في الإنسانية و نجد أنفسنا من جهة أخرى أمام نص عبد الرحمن منيف و هو يصف العقلية العسكرية من الداخل بأسلوبه التشريحي المؤلم.
و بين النمطين يخرج نص الصافي سعيد كاسرا، مفجرا نمطية كتابة سابقة ليكتب عن الدكتاتور في زمنه و يطوّع طرائق سخرية معاصرة تستفيد من كل أضلاع الثالوث لتلقي الضوء على أحط ما في الجانب البشري لوحوش السياسة فهم على قدر كبرهم و التماع صورتهم إلا أن خلفية تلك الصورة تخفي حقارة و هشاشة و تفككا و كأنهم يقفون على أنقاضهم ليصنعوا قوة موبوءة تصرّفها مشاعر الإضطهاد و النقص و هذه المشاعر ذاتها تفضي بهم إلى المنحدر و لكن الرواية لا تلغي أبدا الجانب التصويري فهي تملك كل مقومات الفيلم و إن كانت أغلب مادتها واقعية فقد ترك صاحبها مجالا واسعا من الخيال هو من صميم مُحتَرَفِه السردي و قال كلمتَه فيها و في زمنها في نوع من البحث السيكولوجي جعلها أقرب إلى الشفقة منها إلى الإضحاك.

*سيكولوجيا اللذة:
تنبني اللذة في الرواية على سيطرة المرأة فالحديث عن اللذة هو فتح لعالم النسوة المغلق و مجال لعلاقات القوة فيما بينهن من جهة و بين الجنس الآخر من جهة أخرى و لا نبالغ إن تحدثنا عن فن إدارة اللذة لأن الجنس حين يتعلق بعالم النفوذ يفقد بداهته ليتحول إلى طرف من أطراف المعادلة فمن خلاله تصل النساء إلى السلطة و هو ورقة رابحة لجرّ بقية الأسرار ضمن طبقة السيدات المتنفذات و هو وسيلة أيضا للإنتقام و رد الإعتبار و حين تتشارك النساء في نفس العشيق مع علم كل واحدة بالأخرى يمكن أن نتحدث عن خلل نفسي و وجداني في هذه الطبقة من السيدات يسلط عليها الكاتب الضوء من قبيل قول الحقيقة من جهة و لكن من قبيل الإمعان في إذلال هذه الطبقة التي تحكم المجتمع في حين أنها عاجزة عن العيش خارج إطار من العلاقات المشبوهة و تبدو علاقة الرجل بالمرأة في الرواية في مستواها الجنسي علاقة هشة لأنها تخضع للمساومة من داخلها من جهة و لأنها لا تبدو علاقة كاملة من حيث بلوغها المتعة فهي إما أن تكون سُلـّما للصعود الإجتماعي (من المرأة و الرجل) أو للخلود في الحكم عبر إنجاب الولد (من طرف الرجل) أو أن تكون وسيلة للشباب الدائم (السيدة و الخادم) أو طريقة للإبتزاز بين الجنسين لتبادل الأسرار التي تدور في القصر و التحكم بالتالي في مستقبل القصر.
و يكشف الجنس عن علاقات ضارية بين النساء ظاهرها الصداقة و المصلحة المتبادلة و باطنها الصراع على الصدارة و محاصرة أي احتمال لثنائي مقبل يأخذ مكان الثنائي الحاكم و هوس المرأة بالسلطة في الرواية نابع من عدم الثقة بالرجل لأنه معرض أكثر منها للغواية من جهة و لأنه لا يمثل في نظرها مُرتكزا قيميا قادرا على الإستقلالية و هو لا يهتم بتفاصيل الدسائس التي تحوكها النساء و إن بدا أبطالها من الرجال فالعلاقات في القصر و مستقبل البلاد لا يصنعه الرجال بل تصنعه طبقة النساء التي لا تهتم أن تكون في الخلفية إذا كانت خيوط العرائس بيدها.

*سيكولوجيا النفوذ:
تقوم سيكولوجيا النفوذ في الرواية على شعور عميق بالإضطهاد منذ الطفولة يرافق الشخصية الرئيسية و يمعن الكاتب في صياغة صورة كاريكاتورية خِلقية و خـُلقية لا تتناسب و هيبة الحكم ليدل بتلك المفارقة على عدم جدارة الشخصية بالمكان الذي تبوأته و إنما الحظ هو الذي أتى بها في التوقيت المناسب إلى المكان المناسب و يقوم الكاتب بتفصيل سيكولوجي لمشاعر العار و الإضطهاد التي رافقت الشخصية و أنتجت عددا من المركبات التي إذا أضفنا إليها الذكاء و الخوف أصبحت محضنة للجريمة التي يرفعها وهم العظمة إلى مستوى الواجب الأخلاقي و الوطني. و لا شك أن علاقته المهزوزة بأمه المتسلطة جعلته مهزوزا أمام المرأة عموما و هذا ما اُستغلته زوجته السيدة الأولى لتكون زوجة الرئيس أولا و تحلم بمقام الرئيسة في محل ثان و إذا كنا لا نظفر في الرواية برجل في قيمة "النعمان" فبقية الرجال يدورون في فلكه (الطبيب/ الخدم/ عشاق السيدات الذي ينتهي بعضهم نهاية مأساوية/ الوزراء/ إخوة السيدة الذين لا هَمّ لهم إلا النهب و الصعود المادي) إلا أن شخصية "سلمان عبد العظيم" رجل المخابرات تبدو الأكثر ألقا و خاصة في السنوات الأخيرة لحُكم النعمان فهو شخصية قوية، غامضة، تعرف ما تريد و تتقن إخضاع و إذلال الطرف الآخر بحكم العمل الطويل في تعذيب السجناء و لا تؤمن بالديمقراطية إلا إذا كانت ديمقراطية الشهوة و لم تَسلم هذه الشخصية من تشابيهَ كاريكاتورية في عزّ اللذة و الاستسلام و كأن لا لذة تعلو على لذة التشفي و قد كانت تلك الشخصية مرشحة أكثر من غيرها للحصول على مركز النعمان رغم مساعي السيدة الأولى للإنقضاض على الحكم.

سيكولوجيا الغفران:
لأن السياسة هي التي تصنع المحظور و تحدد درجة سلطته ليسير الناس بأحكامها فقد عمد الكاتب إلى تصوير كاريكاتوري لتعامل الطبقة الحاكمة مع المقدس الذي لا يتعدى أن يكون تعاملا براغماتيا ففي العالم الدنيوي نجد الشخصيات السياسية لا تنطوي على إيمان حقيقي بل تستعمل الأيقونات الدينية للتبرك و البقاء في الحكم فاللجوء إلى الشعوذة و الإكثار من الجوامع و الزوايا و آداء العمرة لا تعدو أن تكون طقوسا للرياء و عملا يكشف عن شعور دفين بالذنب يتعلق بالحكم و اُستنزاف خيرات البلاد دون ضابط و ربما هو شعور بالذنب أقدم و أعمق يتعلق بأصل التركيبة النفسية للشخصية.
و قد قسم الكاتب الرواية إلى حيزين مكانيين الأول دنيوي و الثاني أخروي و إذا كان و إذا كان قد عَرَض للشخصيات في منتهى قوتها و عنفوانها في العالم الأول إلا أنه أجبرها على دخول العالم الثاني ليقاضيها قبل الأوان و ليسبغ عليها سأم الوجود و استحالة التدارك إضافة إلى أنه منعها في الحقيقة من آداء هدفها أي مرحلة ما بعد النعمان ف"السيدة الأولى" في عالم ما بعد الموت ما تزال تتقلب في هواجسها و تمرّ عليها فصول من الحَرّ و القرّ و هي تنتظر في الطوابير متسائلة عن مصير النعمان و عن جنينها فإذا بها تـُفاجَؤ بخيانة مزدوجة لم تكن تتوقعها.

خاتمة:
إن رواية "سنوات البروستاتا" للصافي سعيد وثيقة عن نظام يلفظ انفاسَهُ، نظام يحمل في داخله بذور فنائه و هي إمعان في الإهانة الجنسية لقطع دابر التوريث في الحكم العربي كما أنها إدانة للطبقة الحاكمة بتوصيفها كسرطان ينخر جسد البلاد و إذا كنا نتساءل عن نصيب الحقيقة و الخيال في الرواية فقد صرنا نعرف النهاية: إنها ثورة شعب قوض الحكم العربي من جذوره و بدأ فصلا جديدا عنوانه الحرية.