يائساً في المحافظة على بقائه بأي ثمن، يبدو أن النظام السوري يحفر قبره بيديه. لم يكن محتّماً أن تكون الأمور على هذا النحو. حركة الاحتجاجات قوية وتزداد قوة، لكنها لم تصل بعد إلى كتلة حرجة. بعكس القادة العرب الذين سقطوا، فإن الرئيس بشار الأسد تمتّع ببعض الشعبية الحقيقية. كثير من السوريين يخشون الفوضى وانقسام بلادهم. غير أن أي فرصة كان النظام يمتلكها باتت الآن معرضة للخطر بسبب أدائه. لقد طغت عمليات القمع الوحشي على المقترحات المترددة والمتأخرة لإجراء الإصلاحات. وقد بدد بشار جزءاً من مصداقيته؛ وفقد نظامه قدراً كبيراً من شرعيته المستمدة من سياسته الخارجية. المجتمع الدولي، مدفوعاً بشكل أساسي بخوفه من أي بديل للوضع الراهن، ينتظر ويراقب، مستبعداً حتى الآن التدخل المباشر. وهذه هي السياسة الصحيحة، إذ إن التدخل المباشر سيترتب عليه خسائر كبيرة من دون تحقيق مكاسب تُذكر في المقابل. لكن هذا الاستنتاج لم يتم التوصل إليه بالضرورة للأسباب الصحيحة. لقد أثبت الشعب السوري مقاومته الملفتة للنزعات المذهبية أو الانقسامية، متحديّاً بذلك تنبؤات النظام بحدوث فتنة طائفية أو هيمنة الإسلاميين. مع ذلك، فإن هذا لا يضمن مستقبلاً مستقراً وديمقراطياً، إلا أنها بداية جيدة تستحق الاعتراف والدعم.
أُخذ النظام على حين غرة بالاضطرابات، لكنه كان محظوظاً من ناحية أن المحتجين لم يتمكنوا في البداية من التقدم لتحقيق مزيد من المكاسب. وهذا أعطى السلطات بعض الوقت لتجميع قواها وإعداد ردّ متعدد الأوجه: زرع المخاوف، خصوصاً بين الأقليات؛ وتصوير المتظاهرين على أنهم عملاء أجانب وإسلاميون مسلحون؛ والتعهّد بإجراء إصلاحات محدودة. أما الرد الأقوى فكان من خلال القمع الوحشي.
ثمة غموض يكتنف العنف الذي ظهر بعد ذلك. نتج هذا الغموض عن الدعاية المباشرة التي استعملها النظام وتبنيه لسياسة منع دخول الصحفيين من الخارج. يزعم المحتجون بأنهم سلميّون تماماً، غير أن هذا الزعم يصعب تصديقه مع وجود إفادات شهود وعمليات قتل مروّعة لعدد من عناصر الأمن. الأمر الأكثر قابلية للتصديق هو أن شبكات إجرامية، بعضها يتكوّن من جماعات إسلامية مسلحة، وعناصر مدعومة من الخارج وبعض المتظاهرين الذين يتصرفون دفاعاً عن أنفسهم فحملوا السلاح. غير أن هذا جزءٌ هامشي من الحكاية. لقد كانت الأغلبية الساحقة من الضحايا بين المتظاهرين المسالمين، ومعظم العنف مُورس من قبل الأجهزة الأمنية.
النظام بدوره كان له هدفٌ من ذلك كله؛ فمن خلال زرع المخاوف من عدم الاستقرار، سعى للحد من مدى التعبئة الشعبية وردع منتقدي النظام الأقل تعنتاً. لكن وفي حين أن هذا الرد أحدث الأثر المطلوب على بعض السوريين، فإن جردة الحساب كانت سلبية بشكل عام من وجهة نظر السلطات. لقد خلق أداء الأجهزة الأمنية الوحشي والخاطئ في معظم الأحيان من المشاكل أكثر مما حلّ، إذ إنه من شبه المؤكد أن العنف كان السبب الرئيسي الكامن وراء نمو الحركة الاحتجاجية وراديكاليتها.
مع تعمق الأزمة، أدرك النظام تدريجياً ضرورة الإصلاح. لكن في محاولاته للحاق بمطالب المحتجين، كان دائماً متأخراً خطوة، إن لم يكن بضع خطوات، باقتراح إجراءات كان يمكن أن تلقى صدىً لو أنها اقتُرحت في البداية، لكنها وقعت على آذانٍ صماء في الوقت الذي أعلنت فيه. ينطبق ذلك بوجه خاص على خطاب بشار الأخير (20 حزيران/يونيو 2011)؛ إذ إن اقتراحاته بإجراء إصلاحات دستورية واسعة، بما في ذلك وضع حدٍ لحكم حزب البعث، شملت جزءاً كبيراً مما كانت حركة الاحتجاجات تحلم به في البداية. إلاّ أن المتظاهرين عندئذٍ كانوا قد التفتوا إلى أمور أخرى. إنهم لا يسعون لإصلاح النظام، بل إلى تغييره. الأكثر من ذلك أن النظام، بإطلاق يد قوات الأمن، بات معتمداً على العناصر الأكثر تشدداً فيه ومديناً لهذه العناصر. وهذا ما يجعله أقل قدرة على تنفيذ مقترحاته؛ حتى على افتراض أنه يرغب فعلاً في ذلك.
يجادل المسؤولون بأن العديد من السوريين ما يزالون يرون الأمور بشكل مختلف، وأنهم ينظرون بتوجس إلى حركة الاحتجاجات، مشككين في أنها تمثّل حصان طروادة للإسلاميين وأن سقوط النظام سيعني حرباً أهلية مذهبية. إنهم محقون. بالنظر إلى التكتيك الذي استعمله النظام من خلال زرع المخاوف - لكن أيضاً بسبب العنف الذي مورس ضد قوات الأمن - فإن البلاد أصبحت في حالة استقطاب. ثمة عدد متزايد من الناس يريدون سقوط النظام؛ إلا أن كثيرين يتمسكون به كونه أفضل من بديلٍ غير مضمون، خصوصاً في دمشق. إلا أن الشريحة الوسطى في اضمحلال مستمر.
والحال، فإن المجريات تنحو باتجاه طريق مسدود. المحتجون يحققون مكاسب لكنهم لم يعبروا حتى الآن العتبة الحاسمة التي تستلزم دخول العاصمة على خط الاحتجاجات. ويحقق النظام بعض التقدم من خلال حشد مؤيديه، إلا أن أزمة الثقة مع شرائح واسعة من السكان وفقدان الشرعية باتتا أكثر عمقاً من أن يتخطاهما بسهولة. إلاّ أنه سيكون من الخطأ المراهنة على إمكانية استمرار الوضع الراهن إلى ما لا نهاية. الظروف الاقتصادية تزداد سوءاً، وإذا وصلت إلى حد الانكسار - وهو سيناريو ليس خارج حدود الخيال بأي حال - يمكن للنظام أن ينهار. قوات الأمن، وأغلب عناصرها من العلويين، تعمل فوق طاقتها، وتتلقى رواتب متدنية وتزداد مخاوفها. إذا استنتجت هذه القوات أن عليها أن تحمي ما لا يزال يمكن إنقاذه - قراهم وبلداتهم - بدلاً من محاولة الدفاع عما يبدو بشكل متزايد أنه غير قابل للحماية - البنية الحالية للسلطة - فإن انشقاقها سيسرّع أيضاً من سقوط النظام.
في ظل هذه الظروف، هل يمكن للمجتمع الدولي أن يقوم بأي شيء مفيد؟ العديد من المعلقين، في الولايات المتحدة وأوروبا على وجه الخصوص، يعتقدون ذلك ويدعون إلى ردٍ أكثر قوة. في الحقيقة، فإن الخيارات محدودة. من غير المرجح اللجوء إلى التدخل العسكري؛ كما أنه سيكون كارثياً من غير شك؛ إذ يمكن لهذا التدخل أن يطلق الحرب الأهلية المذهبية التي يسعى المجتمع الدولي لتجنّبها، وزعزعة الاستقرار بشكل أكبر في بيئة إقليمية غير مستقرة أصلاً وسيكون بمثابة هدية لنظام وصف الانتفاضة دائماً على أنها نتاج عمل متآمرين في الخارج. يمكن للعقوبات على مسؤولي النظام أن تكون مفيدة، رغم أن هذه الأداة تم استنفادها؛ أما المضي إلى أبعد من ذلك كاستهداف قطاعات اقتصادية من شأنه أن يؤذي السوريين العاديين مخلفاً أثراً عكسياً ويحيل على خطر تكرار السابقة العراقية المؤسفة خلال التسعينيات.
الإدانة الدولية مهمة من حيث أنها تُبقي الضوء مسلطاً على انتهاكات حقوق الإنسان، كما يمكن أن تردع مثل هذه الانتهاكات. وفي هذا الصدد فإن زيارات السفراء الغربيين إلى حماه، حيث التهديد باندلاع أعمال عنف كبيرة، كانت أمراً جيداً. إلا أن ثمة حدوداً لما يمكن لمثل هذه الخطوات تحقيقه. إن الإجراءات التي يدعو إليها البعض (إعلان عدم شرعية النظام، والإصرار على تنحي بشار) هي خيارات تبعث الارتياح لكنها لا تحقق أي تغيير. في المحصّلة، فإن المهم هو حكم الشعب السوري؛ وفي حين أن كثيرين يريدون إسقاط النظام فإن آخرين لم يتوصلوا بعد إلى هذا الاستنتاج. إن قراراً سابقاً لأوانه من قبل المجتمع الدولي يمكن أن يُنظر إليه من قبل أولئك السوريين على أنه تدخلٌ غير مقبول في شؤونهم.
لقد كان الموقف الدولي الحذر مصدراً لإحباط عميق وحتى الغضب من قبل المحتجين. وهذا أمر يمكن فهمه، إلاّ أن مثل هذا الحذر قد يكون نعمة من حيث لا يدرون. من غير المرجح أن يستجيب النظام للضغوط الدولية، بصرف النظر عن مدى ملاءمتها. إن العبء يقع في المحصلة على المحتجين لمواجهة التكتيكات التقسيمية التي يستعملها النظام، وتطمين غيرهم من المواطنين - خصوصاً الأقليات - الذين يظلون قلقين حيال أي نظام بديل، وبناء إطار سياسي قادر على استقطاب دعم شعبي أوسع. لقد كانت قدرة المحتجين على تجاوز الطوائف محيّرة للعديد من المراقبين. الأهم من ذلك، لقد أحبطت هذه القدرة مساعي النظام الذي دأب على استغلال المخاوف من نشوء الفوضى أو من قيام بديل إسلامي لحكمه الوحشي.