في تمّوز 2002، وفي حمأة التحضيرات لاحتلال العراق، أجرى الجيش الأميركي إحدى أكبر «الألعاب الحربيّة» في تاريخه. «اللعبة» كانت تشبيهاً لحملةٍ تجري في الخليج العربي ضدّ دولةٍ «مارقة» متخيّلة هي، في توصيفها، مزيج بين العراق وإيران. على الأسطول الأميركي المكوّن من مجموعة حاملات طائرات معزّزة أن يثبّت سيطرته على الخليج، وأن يسحق القوى البحرية والجوية المعادية، ومن ثمّ يغزو أرض العدوّ. في المقابل، أعطيت الدّولة المارقة ــــ بحسب السيناريو ــــ أسطولاً «عالمثالثياً» نموذجياً خالياً تماماً من القطع البحرية الكبرى والمتطوّرة، ومكوّناً أساساً من زوارق صغيرة وقوارب دوريّة، يدعمها أسطول جوّي صغير لا فرصة له أمام الطيران الأميركي.
أدار دفّة الجانب الأميركي في السيناريو نخبة من قادة جيشه، وأعطيت قيادة القوة المعادية إلى جنرال متقاعد اسمه فان ريبر. ما أثار خيبة المخطّطين الأميركيين أنّ فان ريبر لم يقاتل كما كانوا يتوقّعون، وكما «يفترض به»: ألغى القيادة المركزيّة لجيشه، وقسّمه الى مجموعات مستقلّة. تخلّى عن أساليب الاتصالات الحديثة واعتمد حصراً على الخطوط السلكية ورسلٍ يجيئون ويذهبون على درّاجات ناريّة. أمّا في البحر، فقد وجّه كلّ ما يملك، حتّى اليخوت والمراكب المدنيّة، لتضرب الأسطول الأميركي من حيث لا يتوقّع: سلّحت السّفن المدنيّة بصواريخ مضادّة للسّفن أطلقت من مسافات قريبة، استعملت الزوارق السريعة في هجمات انتحاريّة، حتّى الطّائرات الخفيفة ذات المراوح حمّلت بالمتفجّرات وصارت تنقضّ على السّفن الأميركيّة على طريقة الكاميكاز. مع نهاية اليوم الأوّل من التّشبيه، كانت حاملة الطّائرات الأميركيّة، ومعها ثلثا الأسطول، ترقد في قاع الخليج.
عمد الجنرالات الأميركيون الى «تعويم» القطع الغارقة، وإعادة لعب السيناريو من جديد ــــ فتلك التمارين لا تخاض لمعرفة ما إذا كانت أميركا ستنتصر في مواجهة افتراضيّة أو لا، بل من أجل تطبيق الخطط والعقائد القتاليّة الموضوعة سلفاً. بغضّ النّظر عن النّتيجة الرّسميّة «المعدّلة» لتلك المناورات (خُلع «الديكتاتور» في الثامن من آب)، فإنّ ما فعله الجنرال المشاكس فان ريبر حوّل تمارين 2002 الى ما يشبه الأسطورة لدى المهووسين بالنظريات العسكريّة. ويمكن اعتبارها من البدايات النّظريّة لما صار يسمّى «الحرب الهجينة». «الحرب الهجينة» هي مصطلح ذهبيّ حاليّاً في العلوم العسكرية الغربيّة (كما كان مصطلح «الحرب ضدّ التّمرّد» قبله) وهو يعني، باختصار، أن تواجه عدوّاً يمتلك قدرات وتدريباً وأسلحة الجيش النّظامي، لكنّه يقاتل بتكتيكات الحرب غير المتكافئة (ومنها، ولكن ليس حصراً، حرب العصابات). في تلك الأدبيّات الناشئة، النّموذج/ المثال للحرب الهجينة هو موقعة تمّوز 2006 في لبنان.
كيف يقاوم مجتمعٌ أعزل؟
داريوش رجالي هو كاتب كندي من أصل إيراني، وهو من تلامذة الفيلسوف الشهير تشارلز تايلور. موضوع كتاب رجالي الأول كان تاريخ التعذيب في إيران، لكنّه في إطار بحوثه في فارس القاجارية لحظ مفارقة مثيرة: لا يجب أن ننخدع وأن نتصوّر أنّ كلّ ما هو «حديث» يصبح ــــ بالتّعريف ــــ أكثر فعالية ونجاعة ممّا هو «تقليدي»، ويظهر هذا بأسطع صوره في تاريخنا العسكريّ.
عقد رجالي مقارنةً بين حروب إيران قبل «النظام الجديد»، وحروبها من بعده. «النظام الجديد» هو الاسم شبه الموحّد الّذي اعتمدته ممالك الشرق ــــ من السلطنة الى إمارات الهند وأفغانستان ــــ عنواناً لمشاريع التحديث العسكريّ على النّمط الأوروبي. حلّ الجيش القديم، واستبداله بجيش محترف يقاتل حسب العقيدة الأوروبية، وينظّم على نسقها، كان جانباً واحداً من «النظام الجديد». الجانب الأهمّ كان في تأسيس الدولة لمركزيّة العنف، واحتكارها له، أي في إخضاع كلّ القوى المجتمعيّة المسلّحة الّتي كانت تملأ الأرياف حتّى القرن التاسع عشر. هي عمليّة يصحّ توصيفها على أنّها «إعادة احتلال» الدولة لأراضيها.
في إيران قبل النّظام الجديد، يقول رجالي، كان الشّاه يواجه عدوّاً خارجيّاً يحشد جيشاً يشبه كرنفالاً من القوميّات. كانت كلّ المقاطعات ترسل رجالها، لرفد جيش السلطان: من الصّحراء فرسان البختيار مرهوبو الجانب، ومن الجبال ينزل أغوات الأكراد على رأس رجالهم، ومن الشرق مقاتلو البلوش الأشدّاء والقبائل المحاربة الأفغانيّة، كالغزلاي والدرّاني التي أهلكت إمبراطوريّات، ولم تزل. إذا هُزم جيش الشاه، أو واجه عدوّاً متفوّقاً بالتّقانة والعتاد، كانت هذه الأقوام تعود ببساطة الى ديارها النائية، حيث تخوض حرب غوار طويلة الأمد، تمنع العدوّ ــــ حتّى لو احتلّ العاصمة ــــ من تحقيق أي سيطرة حقيقية على البلاد ككلّ، فضلاً عن فرض الضرائب عليها أو استغلال مواردها.
بعد «النّظام الجّديد»، وإخضاع الدّولة للمجتمع وتدجينه، صار على بريطانيا أو روسيا، ببساطة، أن تهزم جيش الشاه «الأوروبي» في معركة فاصلة (تستغرق عادة بضع دقائق) وأن تحتلّ العاصمة، فتستعمر البلاد برمّتها.
قد تكون هناك رابطة سببية ما، جعلت البقاع الأكثر «تقدّماً» في الشّرق والأكثر انغماساً في المشاريع «التحديثيّة» (من السلطنة الى مصر وتونس والهند) هي التي سقطت بسهولة ويسر في يد المستعمر الغربي، في حين أنّ المناطق الأكثر تخلّفاً ورجعيّة، وتلك التي لم تضرب فيها الدّولة الحديثة أوتادها، ظلّت عصيّة على الاحتلال. ينطبق ذلك على أفغانستان واليمن، كما ينطبق على الرّيف المقاتل الّذي كان مركز المقاومات العسكريّة ضدّ الاستعمار، من أطلس المغرب الى الفرات الأدنى. لا تزال سردياتنا التّاريخيّة مطبوعةً بلوثة حداثيّة تخفي أغلب تاريخنا ومجتمعنا تحت شعارات مثاليّة، تنتمي للقرن التاسع عشر. لا نزال نقرأ تاريخنا من زاوية أهل المدن، ونرى أنّ قهر المجتمع تحت عنوان الدّولة كان أمراً جيّداً وضروريّاً، بل و«طبيعيّاً» لا مفرّ منه. حتّى عبد الرّحمن منيف، حين كتب «أرض السّواد» (وهي، برأيي، أجمل أعماله قاطبة، ومن أثمن الآثار التي نمتلكها عن العراق الحديث) جعلها من زاوية بغداديّة صرف، لا تظهر فيها القبائل والرّيف (أي الأغلبية الساحقة من مجتمع العراق يومها) إلا كعنصر خارجيّ في الرّواية، لا يتكلّم، بل يزعج شخوص القصّة، حين يظهر فجأةً مثيراً المتاعب، أو حين يجرّد الوالي العثماني الإصلاحي ــــ بطل الرواية ــــ الحملات لقمع العشائر المشاكسة وإخضاعها لسلطة المدينة.
كان المؤرّخ بيتر غران يزعم أنّ الأكاديميا العربية قد «قفزت» تماماً عن حقبة التأريخ الاجتماعي، التي اكتسحت علم التّاريخ ومنهجيّته منذ الستينيات، ولا نزال ــــ في كثير من الأحيان ــــ نكتب تاريخ الواحد بالمئة من الشّعب على أنّه «تاريخنا»، مقلّدين الأكاديميا الغربيّة منذ نصف قرن.
وفي هذا الإطار، هنالك دراسة غير منشورة للباحث العراقي حسن نعمان تروي تاريخ البلد من وجهة النّظر الأخرى، أي من البادية، تحت عنوان «نمط الإنتاج العاصي»، هي من المحاولات النّادرة اليوم لإنتاج إطار جديد ومبدع وعميق لفهم تاريخ العراق ومجتمعه، البلد الّذي طالما ظلمه دارسوه.
حين نتكلّم على قبائل العراق في القرن الثامن عشر مثلاً، ينبغي علينا أن نطهّر ذاكرتنا من المفاهيم الشعبيّة الموروثة حول «البدو» والعشائر. نحن نتكلّم على جيوش قبليّة حقيقيّة، وعلى زعماء (كشيوخ المنتفق) أعطوا أنفسهم ــــ ليس بلا مبرّر ــــ ألقاباً من نوع «سلطان البرّين»، وكان يأتمر بهم آلاف الخيّالة المتمرّسين برمي النبال من على ظهور مطياتهم، وهي قوى لم يكن يحلم بما يقاربها أيّ من الولاة العثمانيين.
إخضاع المجتمع في عصر الحداثة ــــ وإن لم يكتمل في بلادنا ــــ أنتج تغييرات مذهلة ومثيرة. تساءلت الباحثة كيرن شاودري في دراستها للسّعوديّة: كيف تمكّنت دولة آل سعود ــــ في أقلّ من قرن ــــ من تحويل مجتمعٍ بدوي لقاحيّ ذي تقاليد محاربة، كانت قبائله تُرهب المشرق العربيّ وتجتاح العراق متى شاءت، الى أكبر مستوردي الأجهزة الإلكترونية وألعاب الفيديو في العالم؟ الإجابة عن ذلك السّؤال ــــ كما تاريخ السّعوديّة الحديث ــــ لا تبدأ بقفز ابن سعود من فوق أسوار الرّياض منذ قرن، بل مع اكتشاف شركة نفط أميركيّة مغمورة اسمها «سوكال» أوّل مكامن الذّهب الأسود في شرق المملكة، بعد ذلك بعقود.
«العاصفة الحمراء»
هناك خياراتٌ متعدّدة لإغراق حاملة الطائرات، أكثرها نجاعة هي على الأرجح تلك التي لا نعرف عنها شيئاً اليوم. الصينيّون يختبرون الآن الصواريخ البالستيّة لضرب هذه السّفن الضّخمة، بعدما صار ممكناً، بفضل التكنولوجيا الحديثة، دمج خاصّيّة المدى التي تملكها الصواريخ البالستية منذ الستينيات، بدقّة متناهية في إصابة الهدف، بمجرّد تعديل أنظمة التوجيه والرأس الحربيّ في الصاروخ.
تحاجج أقلّيّة من المحلّلين الغربيّين بأنّ حاملات الطائرات قد صارت نعوشاً معدنيّة منذ السّبعينيات، أي حين أكّدت تقارير البحريّة الأميركيّة أنّه ليس لديها حلّ ناجع ضدّ تهديد الصواريخ البعيدة المدى، إذا ما استعملت ضدّ القطع البحريّة الضّخمة. حين نطرح إمكان ضرب سفينة بصاروخ عابر للقارّات، نحن لا نتحدّث عن صاروخ جوّال كلاسيكي مضاد للسفن، يطير على ارتفاع منخفض وبسرعة الطائرة العاديّة، بل عن رأس حربيّ يهبط من الطبقات العليا للغلاف الجوّي، كالنيزك، بسرعة تراوح بين ثمانية واثني عشر ضعف سرعة الصّوت، وهو يناور ويطلق أهدافاً خادعة لتضليل الرّادار. لدى الأنظمة المضادّة للصّواريخ نافذة زمن لا تتعدّى الثواني، لاعتراض هذا الهدف، الذي لا يزيد حجمه على حجم أريكة، وهو ينزلق في الفضاء. فما بالك بمواجهة عشرة من تلك الصّواريخ تُطلق دفعة واحدة، أو مئة؟
هناك سيناريو أكثر تعقيداً بكثير، وباهظ الكلفة، تخيّله الرّوائي الأميركي طوم كلانسي في رواية ذاع صيتها تصف، بواقعيّة ممتعة، حرباً عالميّة ثالثة، افترض أنّها تجري بين الاتحاد السوفياتي والناتو، في أواسط الثمانينيات.
رواية «العاصفة الحمراء تهبّ» لكلانسي تربّى عليها جيلٌ كامل من المراهقين الأميركيين من ذوي النّظارات، المكبوتين جنسياً والغارقين في المجلّات العسكريّة. في أحد فصولها، تكتشف الاستخبارات الرّوسيّة الموقع التقريبي لأسطول غربيّ يمخر شمال الأطلسي باتّجاه أوروبّا، ويضمّ حاملة طائرات عملاقة من طرّاز «نيميتز» وعشرات القطع الأميركيّة والحليفة. عندها، يطلق سلاح الجّوّ السوفياتي خطّته التي تدرّب عليها لسنوات، ويستلزم تنفيذها قدرات إمبراطوريّة.
مئة قاذفة توبوليف ـــ 16 «بادجر» ضخمة، خلفها سبعون قاذفة توبوليف ـــ 22 «باكفاير» حديثة أسرع من الصّوت، وبينهما عشر قاذفات توبوليف ـــ 95 «الدّبّ»، متخصّصة بالتشويش الرّاداري. حين تقترب الموجة الأولى من القاذفات من مدى الرّادار للأسطول الأميركي، تفلت من تحت أجنحتها مئتان من صواريخ الـ«كيلت» الجوّالة باتّجاه العدوّ، وتستدير عائدة. تلاحق طائرات الحرب الإلكترونية الصّواريخ العشرة المحلّقة، خالقة خلفها جداراً من التشويش عرضه 800 كيلومتر. وخلف ذاك الجدار الإلكتروني تختبئ قاذفات «باكفاير». الصّواريخ الجوّالة قديمة وغير مصمّمة لمواجهة السّفن، غير أنّها بُرمجت لتطير على ارتفاع عالٍ وبشكل يحاكي طيران أسراب القاذفات. حين تلتقط القيادة الأميركيّة الأهداف العديدة على الرادار، تستنتج أنّها موجةٌ من القاذفات الرّوسيّة تحاول قصف الأسطول، فترسل باتّجاهها طائراتها المعترضة، التي ستستنفد صواريخها في إسقاط أهدافٍ لا قيمة لها، من خلف مدى النّظر، وباستعمال الرّادار.
ما إن تختفي موجة صواريخ «كيلت» عن الرّادارات الأميركيّة حتّى يظهر، من خلف جدار التّشويش الّذي كُشف، مئة وخمسون صاروخاً مضادّاً للسّفن، أطلقتها قاذفات «باكفاير» التي تلوذ الآن بالفرار. تمسح الصواريخ متسارعة سطح الماء باتّجاه الأسطول الذي صار أعزل إلّا من وسائط دفاعه الذاتيّة، وبعدها بلحظات، يشتعل المحيط. تختفي الحاملة الفرنسيّة «فوش» في أعماق البحر، ومعها العديد من المدمّرات والسّفن، وتصاب الحاملة الأميركيّة بصاروخ، لكنّ السفينة العملاقة تترنّح ولا تغرق. هذا بحسب الرّواية، وهي بالغت كثيراً في قدرات الوسائط المضادّة للصّواريخ التي لم تكن قد اختبرت عمليّاً في مسارح الحروب، حين كتب كلانسي قصّته.
كيف تُعلَّم الكرامة؟
في كلّ الأحوال، ما يمكن الجّزم به، وهذه قاعدة لكلّ صراع، هو أنّك لن تتمكّن من إغراق حاملة طائرات، أو حتّى فرقاطة صغيرة، أو هزيمة أيّ عدوّ على العموم، باستعمال أساليبه المألوفة أو سلاحه وتكتيكاته. حين يبني الخبراء الأميركيون جيوشاً للعرب، فإنّ العرب يرمون أموالهم في البحر، ليس لأنّ ذاك السلاح سيكون عاجزاً عن مواجهة صانعيه وأصدقائهم، وهذا أمر مفروغ منه، بل لأنّ أقصى ما بوسع الأميركيين أن يعلّمونا إيّاه هو أن نقاتل مثلهم، وليس من مصلحة دول العالم الثالث أن تحارب كإمبراطوريّة، إذ تستلزم غارة من طائرتين عشرين طائرة دعم، ومئات الفنيين والخبراء.
السّعوديّة مثلاً، أنفقت في العقود الأخيرة على جيشها مالاً يكفي لبناء إمبراطوريّة عسكريّة، ولا تزال عاجزةً، بقدراتها الذاتيّة، عن صيانة دبّابة بسيطة، صمّمت في الخمسينيات. تفوق الميزانيّة العسكريّة السنويّة للجيش السّعودي الصغير ميزانيّتي إسرائيل وإيران مجتمعتين! حين كتب كينيث بولاك كتابه عن الجيوش العربيّة في التسعينيات، كان الجّيش السّعودي، بعد أربعة عقود من الاستثمار المكثّف، مكوّناً من ستين ألف جنديّ سعودي، يخدمهم أربعون ألف مرتزق وخبير و«متعاقد» من الأجانب، لو عرضت رواتبهم وكلفتهم السنوية على الصهاينة، لباعونا فلسطين بلا قتال. والسّعوديّة، بالمناسبة، دولة مواجهة بالمعنى العسكريّ والاستراتيجي للكلمة، فسواحلها تبعد أميالاً قليلة عن سواحل فلسطين، والمسافة بين أجوائها وعاصمة إسرائيل هي دقائق معدودة بالطائرة النفاثّة، أي أنّ السّعوديّة، بالمعنى العسكري والاستراتيجي، دولة مواجهة اختارت أن تحيّد نفسها، إلا عن مبادرات «السّلام». بالمناسبة أيضاً، السّعوديّة، بالمعنى العسكري البحت، تملك أفضل المزايا للمواجهة مع إسرائيل: حجمها كبير، مواردها واسعة، ومدنها ومراكزها الحيويّة بعيدةً جدّاً عن مرمى الإسرائيليّين. وهي تملك ــــ على الورق ــــ سلاحاً جوّيّاً لا تحلم إسرائيل (أو أي من دول حلف الناتو) بمثله. وعلى الورق أيضاً، تملك منظومات دفاع جوّي، هي الأغلى والأكثر تطوّراً في العالم. ولكن، قبل أن يسترسل القارئ في خيالات واهمة، يجب أن نتذكّر أنّه مع الأنظمة، كما مع النّاس، لا يجب أن نتوقّع من أحد ما هو عاجزٌ عن تقديمه. والسّلاح السّعودي (والإماراتي) له وجهة أخرى ليست سرّيّة ويعرفها الجميع، ما عدا السعوديين على ما يبدو. إسرائيل تخيفها بندقيّة صيد في يد مراهقٍ من غزّة أكثر مما تخيفها قنبلة نووية تملكها السعودية أو الإمارات.
ليست حاملة الطائرات مجرّد قطعة بحريّة، بل هي، كالبارجة الاستعماريّة في القرن التاسع عشر، رمزٌ و تحدٍّ. حتّى يتعلّم الضعفاء كيف يغرقون حاملة الطائرات، سيظلّ العالم كما هو: نصف مليار إنسان يعيشون بين أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، ويتكلّمون باسم «المجتمع الدولي» والإنسانية جمعاء، يستهلكون أغلب مواردها، ويقرّرون قوانينها ونواميسها ومبادئها وأخلاقها و«عدالتها». وبيننا من امّعات الغرب من يهلّل ويحفظ ويقلّد بتذلّلٍ ما لقّنه إيّاه جلّاده. لهذا السبب بالذّات، تبدّى كلّ مثقفينا ومنظّرينا من ذوي الثقافة المترجمة أقزاماً أمام الخميني، لا لأنّ فكر الخميني استثنائيّ في عمقه وغزارته (وفكر الشهيد محمد باقر، مثلاً، كان أعمق وأبدع)، بل لأنّ في فكر الخميني ثقةً وحزماً واحتراماً للنّفس، وتلك صفاتٌ لا تباع ولا تعلّم.
حتّى نتعلّم كيف نغرق حاملة الطائرات، سنظلّ كما نحن، في ليبيا كما في أفغانستان والعراق. وتحت مسميات شتّى ومبرّرات لا تحصى، النتيجة هي هي: طائرات الغزاة البيض تحلّق فوق أراضينا وتنتقي أهدافها من علٍ، وتختار كاليد الإلهيّة من منّا يستحقّ أن يعيش، ومن منّا يستحقّ أن يموت.
(الأخبار)