في اليوم الثاني طلبت من صديق سبقني إليها بست سنوات أن يدلني على مكتبة، وفي خاطري أن سر هذا البلد ينام مرتاحاً بين دفتي رواية. تحريت أن يكون كاتبها من أبنائها الأصليين. وجدت مرادي بعد شهر من البحث.
قرأت الرواية في يومين، بعدها اندس جسمي الصغير بين المباني العالية التي تلتهم بأفواهها الآلية يومياً أفواجاً من الناس، باحثاً عن تصوير على الأرض لأحد المشاهد التي قرأتها، فلم أعثر لأي منها على أثر... إلى الآن.
ورغم أن كاتبة الرواية تسرد بالتفاصيل ظروفاً حقيقية وسياقات تاريخية ساهمت في تشكل المكان منذ القدم وبناء أصالته، إلا أن الواقع الحالي ووقائعه بديا مزيفين.. وبامتياز. وللخروج من فخ التعميم في هذا المقال، نقول إن ما سيأتي يخالط كثيراً مما تحويه مخيلاتنا وتختزنه قلوبنا عن هذه الأماكن إن سلباً او إيجاباً، عشنا فيها أو لم نعش.
أيها الصديق الأثير، إن التجربة الآن أصبحت ناضجة بما فيه الكفاية لأقول إن الناس هنا لم يستمدوا من المباني إلا حِدة ارتفاعها، فتكبروا بطولها، لا لشيء إلا كي يروا الآخرين صغاراً، ولا تُنبئ دواخلهم عن صفاء جمالها ولا تعكس تصرفاتهم شدة لمعانها، ولا يشي سلوكهم إلا ببعض ألفتها المصطنعة، ولا ترى في مراياها إلا تشوهات أخلاقهم إن هم مروا أمام زواياها المتكسرة. ثم نتسائل: أترانا أودعنا الحجارة والأشياء الجامدة جمالاً ناءت بحمله قلوبنا؟ أم أنها سلبتنا إياه في غفلة من الانبهار حين استكثرته أنفسنا فتنازعته الأشياء إلى أن نزغته من صدورنا الصغيرة؟
حين كنا صغاراً لا نقوى على فهم كل هذه التفاصيل، كان يأتينا ضيوف هذه الأماكن وأشباهها صيفاً إلى غزة، كروشهم تتدلى أمامهم، أردافهم تعلو وتهبط إن هم مشوا، نسأل أبونا، وهو شيخ كبير، عن سر الزيارة في هذا التوقيت بالذات من كل عام. يجيبنا بكلمات تملؤها سخرية ما عهدناها تفارقه: جاؤوا ليأكلوا بطيخاً وعنباً وخوخاً.
وتأسيساً على طفولتنا التي لم ننس من تفاصيلها أي شيء، ولن ننسى، ولم تغب عن ذاكرتنا أي شاردة أو واردة تخص العيش في أزقة مخيماتها، أدركنا حين كبرنا معنى أن تعيش في ظلال الأبراج، ولما صرنا في أماكنهم عرفنا سر الشره في أكل الفاكهة خلال غزواتهم الخاطفة لنا مرة في السنة، وفهمنا أن الأماكن الجميلة لا تسلب البشر جمال الأنفس فقط، بل تصادر طعم الفاكهة أيضاً، فتبدوا بلا طعم ولا رائحة. تترك الأماكن للفاكهة بعضا من جمالها الفاقع المزيف الذي يشبهها.
وبفعل الأموال والتباهي بالسيارات، وبأحدث الهواتف المحمولة، والراتب ذو الأصفار العديدة، والشقة الفارهة ذات الأثاث الوثير؛ يمشي الناس هنا بخيلاء، فترى الأصالة وقد أكلها صدأ التكبر، حين يحدثك أحدهم بكلام لا يخرج إلا من أطراف أنفه، فتتمنى أن تصم أذنيك وتولي مدبراً. رياء في الكلام، بهرجة في اللبس، نفاق عند النقاش، ضحك لا حياة فيه، ومجاملات كاذبة لا تخطئها عين إن كانت صادقة. ثم نتسائل: ماذا يعني أن تملك كل الأشياء، وتتيه نفسك بينها فلا تكاد تجدها؟
يشتري أحدهم سيارة فارهة، يقضي خمس سنوات من عمره في تسديد أقساطها، يعيش خلالها بدرهمين، وتراه لا ينتهي عن الشكوى من ضيق الحال وسوئه. ولو قيست العقول بالسيارات الفارهة وراكبيها لاستكثرت على غالبيتهم أكل الخبز الناشف من ضحالة ما في الأولى. وأكل الخبز الناشف مرحلة بينها وبين ركوب سيارة فارهة خطوب لا يعرفها إلا أصحاب السباقات الماراثونية.
تتباهى إحداهن أن اشترت سيارتها عبر التليفون. وإن لم تكن المشكلة في طريقة الشراء، وإن بدت لابن مخيم مثلي مدهشة، وبعضهم جاء منها أيضاً؛ فإن ما أدهشني أكثر هي طريقة نطق كلمة التليفون ، حين تغنت بها على النحو التالي: تتسع شفتاها وتنفرجان عند النطق بالياء، تمطهما للأمام وتزمهما عند الواو، وتذوب النون في الريح الخارج من فِيها.
يركب أحدهم المصعد، يرمق من فيه من أسافلهم إلى أعاليهم بنظرة علية. وإذ بالتكبر لا تغفله عين أدمنت النظر إلى الفقر وعايشت تفاصيله، فإنه يبقى وصاحبه تلميذين صغيرين في مدرسة التواضع.
يقف المصعد في منتصف الطريق، يدلف آخر إليه، فيندلع على الفور حديث هاتفي، يحكي عبره معنا لا مع من يهاتفه، متحدثاً عن تفاصيل إجازته الأخيرة في روم روما . سريعاً يستحضر الرحلة التي سبقتها إلى باريس. التفاصيل هنا تكون أكثر قليلاً عن المقاهي الباريسية، وجاداتها العامرة بالحياة، والحرية المفتقدة في بلادنا.
يقف المصعد، يدرك أنه قد وصل، فيثرثر على عجل بجمل قصيرة عن ترحاله في ربوع أوروبا: برلين، أوسلو، بروكسيل، أمستردام، بيرن، ستوكهلم.. ثم نتسائل: ألم يخطأ ذلك الرحالة ويزور بلده الأصلي، حتى وإن كان بكذب الحديث؟، أم هو شبق الكلام عما هو غير مألوف له ويثير إعجابنا بابن بطوطة الجديد حسب ما يعتقد؟ الغريب أن هذا الحديث يتكرر، وفي كل مرة تقريباً لا يخرج عن جغرافيا أوروبا وضواحيها.
يبتاع أحدهم من بلاد الواق واق شيئاً ما، فالناس في دبي وضواحيها من الدول مغرمون بالأشياء. مروحة مثلاً تعمل بالريموت كونترول. يميل قليلاً مستنداً إلى وسادة في الجوار. يلتقط الريموت. يقربه إلى صدره. ينظر إليك وإلي الريموت وكأنه بهاتين الحركتين المتتاليتين يريد أن يلفت انتباهك لترى بديع صنع الله فيه.
حين كنا صغاراً، كنا نستغرب ببراءتنا من هذا المشهد، لما كانوا يدهموننا في غزة موسمياً، ونتسائل مندهشين: مروحة تعمل بالريموت كونترول؟! ونجيب باستفهام آخر عريض: يا لهذا الرجل الخارق الذي لا ينفك عن ابهارنا بقدراته؟!
تتقوقع الجاليات هنا على نفسها، وتتجمع فقط حول ثقافاتها، وهي تفعل ذلك ترسل إشارت ضمنية بنفي أي ثقافة أخرى. في بعض الأحيان يتم التصريح بذلك النفي علناً. فهذا واحد لا تعجبه لهجة ذاك، وثان يسخر من هندام آخر، وثالث تغيظه ثقافة ما ولا يقوى على تحملها وفهمها، ورابع يكره آخر لأسباب سياسية هاجرت معهما من بلديهما، وهما لم يهجرانها. ولسان حال الجميع يقول: وإذ بنا نهجر بلداننا فإننا لا نهجر ثقافتنا الخاطئة التي عجنت على سلبية النظر إلى الآخر، ونبقى حبيسين تقاليد لا نريد حتى أن نطورها للأحسن. لا غرابة في ذلك، هكذا نحن العرب، لا نحترم ثقافة بعضنا، ولا نجيد الاندماج مع الآخر.
أيها الصديق الأثير، أقول لك هذا وتحضرني الآن خاتمة لمقال سابق أراها مناسبة لهذا النص أيضاً. حين يختلي كل منا بنفسه ويسترجع هذا الشريط، عليه أن يسأل نفسه: كم يا تُرى تكون مساحة الصدق التي يختارها ليمدد فيها جسده هادئ البال، مرتاح الضمير؟!
دبي
14 سبتمبر 2011