وكان الليل، ممسكا ًبأهداب خيوطها ويجرُّها منها إليه،فيخفي شيئا فشيئا في جوفه شعاعها، حتى توارت ولم نعد نرى إلا أخواتها يتراقصن في صفحة السماء،واحتلت العتمة عرش الشمس ،ففرضت سيطرتها إلا من فلقة ٍ قمرٍ يرفض إلا أن يخترق العتمة........ ولا يظهر منه إلا إحدى وجنتيه من خلف نقاب الظلام المنسدل على الوجنة الأخرى.
كان يرسل بعض شعاع ٍ مع بريق النجوم،فينعكس على الأشياء، ضوؤه الخافت،فيظهر على نور بريقه قليل من علامات الطريق التي كانت تتعرج كالطلاسم المنقوشة على وجه عجوز غجرية،بعد أن تنتهي الطريق ،الواضحة إلى نوبة الحراسة في القاعدة الجوية،وأنا أحمل بندقية فارغة،ورصاصات لا يجوز لي أن أستعملها مهما كانت الظروف قاسية،ومهما كان العدو متوحشا وخطيرا.......ومذياع صغير كان يتداوله العسكر بينهم،لتنقضي الساعات البطيئة في ليل الصحراء....من غير ملل.
وصلت مكان حراستي....كانت المباني في القاعدة بعيدة ولا يظهر منها إلا ضوء نوافذها.....وقفت في مكاني وأرسلت بصري إلى السماء المرصعة بالنجوم........لم أرَ في حياتي كنجوم سماء الصحراء كثافة ولمعانا........ جلست ثم أهويت براسي إلى مذياعي...أدرت عجلة توجيه المحطات... ولا يهمني....إن لم يفلح البحث،عن شيء أحبذه......كل شيء مطلوب مادام يقطع وحشة الليل ورتابة الوقت .....أغنية .... ندوة عن حقوق المرأة....برنامج عن الزراعة،حتى أزيز المحطات الفارغة وصفيرها،كان يقطع الزمن الثقيل ....ويطويه ...عكفت على مذياعي اقلبه وصوت شيء يتحرك حولي في أكثر من اتجاه .
انتبهت فجأة فإذا جماعة من الكلاب، وهذه كانت تأتي إلى قمامة القاعدة،لتقتات عليها،كانت أكثر من عشرين كلبا..... أخذت تحوم حولي....... تسمَّرت في مكاني.... ما الذي يجري ماذا تبتغي الكلاب مني.....بعد أن شبعت !؟...فجأة أخذت تجتمع بعضها إلى بعض...حتى أصبحت كومة واحدة ثم وقفت أمامي....... برز من بينها كلب كان ضخما وبشعا ...لم يجعلني أبذل جهدا لأعرف انه زعيمها.......وقف على مسافة قريبة،وأخذ يصدر صوتا،يملؤه الغيظ والوعيد.....هناك في الوقت الفاصل قبل أن ينهشني....تذكرت أنني لم أسمع بأحد قد أصيب بعضة ٍ من الكلاب،في القاعدة من قبل ....،فسرى في بدني برد،هدًّأ بعض خوفي من أن أصبح قتيل الكلاب، ثم ارتدَّ إلي الخوف مرة أخرى.....ماذا لو كنت مخطئا،أليس لكل شيء أول ،فأكون أول من تعضه الكلاب هاهي الكلاب أمامي وتستعد للهجوم ...ماذا لو كان مسعورا،تذكرت بندقيتي فذخـَّرْتُها ،لكن من سيصدق أن الكلاب هاجمتني، سيظن الضابط أنني كنت ألهو بها ....،فجأة تذكرت...قول صديقي ليث...الخبير بأخلاق الكلاب وطباعها،
إن هاجمك كلب أو أكثر لا تهرب..إياك إياك...قف وتحداها وتقدم إليها بحزم ...إنك إن هربت اشتمت خوفك وقتلتك.... ثم احمل عليها واصرخ بصوت عال ٍ ثم أهجم ...وستنفض عنك عندئذٍ............
في الحقيقة،كان الخوف،قد جفف حلقي،فلا أستطيع صراخا،ويداي ترتخيان وترتجفان فلا أقوى على أن أتقدم خطوة،للأمام،ولكن لم يبق في جعبتي إلا نصيحة ليث،وما دمت ميتا على كل حال فلأجرب، جمعت نفسي إلى نفسي،وربطت جأشي وعقدته عقدا كثيرة حتى لا يتفلت مني ... وأخذت شهيقا وحبسته في صدري.......ثم أطلقته زفيرا كأنما هو لهيب من فم تنين غاضب ٍوانطلقت إلى الزعيم....مزمجرا فتراجع قليلا ثم اصدر نباحا حادا...فحملت عليه أخرى ...ثم تراجعت خطوة ثم حملت عليه أخرى...ثم أغرت عليه فتراجع أكثر...
فأخذني الزهو وأعجبت،بنفسي ،ودبَّت في عروقي سخونة،حتى التصقت الشجاعة بي وأصبحت جزءاً من مكوناتي ،ثم حملت عليه بأشد من الأولى. فأدبر تتبعه كلابه ...،ثم تفرقت الكلاب وانسَحَبَتْ في كل اتجاه لا تلوي على شيء.......وخلا الميدان لي وحدي،عدت مزهوا إلى مكان رباطي بِـِنـَصْري.... جلست حيث كنت،...أعبث بمذياعي،.... وشكرت ليثا ًفي نفسي على نصائحهِ، وعادت إلي روحي،وأيقنت يومها،أنني قد عرفت حقيقة الكلاب.