بانياس مدينة جميلة وادعة، يسكنها ما يقارب المئة ألف نسمة. اشتهرت بوداعتها وتآلف سكانها عبر سنوات التاريخ الموغلة في القدم. فهي تحوي من كل أنواع البشر والانتماءات الدينية، عرفوا خلال حقبة طويلة من حياتهم حياة تشاركية في كل شيء. فلم يكن هناك فرقاً بين الريف والمدينة، وبين أهل المدينة وبساطة أهل الريف وأخلاقهم، وعاداتهم وتقاليدهم التي يتناغمون معها وينسجون من خلالها علاقاتهم الطبيعية مع العالم المحيط.
لقد عانت شريحة لابأس فيها في بانياس من أزمات المجتمع السوري، شأنها في ذلك شأن باقي مدن وبلدات سوريا. فقد طالت أزمات الفقر وارتفاع المعيشة، وأزمات الشباب من بطالة وتهميش، ما طال كافة شرائح المجتمع بنتيجة السياسات الاقتصادية التي اتبعتها حكومة العطري - الملا عمر السوري - الشهير بعبد الله الدردي وفريقهما الاقتصادي في السنوات القليلة الماضية. أضيفت تلك الأزمات إلى الواقع البيروقراطي والأداء السيء لبعض أجهزة الدولة والأمن مع الناس، أضافت المزيد من الاحتقانات التي جعلت من هذه الشرائح أدوات جاهزة للاستثمار والتوظيف من بعض القوى السياسية التي تستغل الطائفية و التي تعمل على تسخير هذه الشريحة الفقيرة، والمهمشة إلى وقود لحراكها السياسي الذي تسعى فيه إلى الاستيلاء على الواقع الاجتماعي والسياسي السوري. ترافق ذلك مع حملات التجييش والضخ الإعلامي الذي قامت به دول ومنظمات خارجية تسعى منذ زمن طويل إلى تقويض سوريا، وكسر شوكتها، وتغيير الخارطة السياسية في المنطقة لصالح مخططاتها في التقسيم وتحطيم كل توجه بمقاومة إسرائيل أو محاربتها أو حتى معاداتها وصولاً إلى تمييع هذا الصراع للتماهي مع الشروط الأمريكية في مشروعها الشرق أوسطي.
ما حصل في بانياس من حراك مجتمعي" مطلبي" شعبي، يُمكن اسقاطه على ما يحصل في سوريا كلّها. فمن خلاله يمكن الإضاءة على الأسباب الموجبة التي دفعت إلى هذا الحراك، وأيضاً، تعرّية العوامل الخارجية التي سعت إلى دمار البلاد وقتل العباد تحت مشروعية المطالب الاجتماعية المحقّة للناس، فركبت موجتها، وحاولت تحطيم السفينة ومن عليها.
لكن الغريب في بانياس هو هدوئها التام بعد تجربة الحراك الفاشلة والتي كادت تنتهي بمجزرة .
بدراسة عامة وسريعة على ما حصل في بانياس والأسباب التي جعلت الناس تنكفأ وتعود إلى بيوتها يمكن القول ان عامة الناس شعرت بالخطر الذي يهدد البلاد، وعامة الناس هنا هم الاغلبية الصامتة التي راهن الطائفيون على تحريكها من طرفيها ، سني مفترض ان يوالي الثورة وعلوي يفترض ان يخشاها وينقاد للقتال لاحباطها فتقع المجزرة .
لكن كما اسلفنا اكتشف المواطنون حجم المؤامرة التي كان مفترضا ان يكونوا ضحيّة لها ووقود يحترق ليصل الآخرون إلى الكراسي السياسية التي تشكّل هدفهم الحقيقي، والوحيد.
يشرح الشاب فاروق عبّود بعضاً من زوايا ما أسلفنا ذكره. حيث يؤكد ما ذهبنا إليه من تحليل في قراءتنا، وحيث تشكّل شهادته مع شهادة من التقيناهم وحاورناهم المرجعية الحقيقية للمشهد العام. يقول أحمد:
- لقد كانت الثورات العربية ملهماً لنا جميعاً، وكنّا نقول بأنَّ هناك واقع فساد في سوريا وانعدام تكافؤ فرص وبطالة. فمثلاً؛ أنا شاب عمري 33 سنة، وليس لدي عمل. أعمل مياوم في مرفأ طرطوس ولست متزوجاً ولا أملك المال لأتزوج. ولذلك كان يجب أن نخرج ونطالب الدولة بحلول للشباب وايجاد فرص عمل. وعندما حصل في درعا ما حصل استغلّينا الفرصة وقررنا أن نخرج للتظاهر بحجة نصرة درعا والتضامن معها، ولكن الهدف الرئيسي كان في خلق حالة من التوتر واخراج مظاهرات كبيرة لتخضع السلطة لطلباتنا. ولكن الأخطاء التي حصلت في المظاهرات ودخول الكثير من الشباب المتطرف وقيادة الاخوان والسلفيين للتظاهرات واعتمادهم على " الزعران والحشاشين" للقتال في وجه الامن والشرطة كان كارثة وأدى إلى تفريغ الهدف الرئيسي من هذه المظاهرات.
وعند سؤال فاروق (اسم وهمي) عن مزيد من الشرح حول هذه النقطة، أجاب:
- يعني مثلاً اكتشفنا ومنذ الأيام الأولى بأنَّ هناك جنود مجهولة تعمل تحت الطاولة. وتمدّ هؤلاء الوهابيين الجدد ممن نبتوا من اللامكان في احياء المدينة مصحوبين بالزعران الذين اشتروا ولائهم بالمال واستخدموهم اداة بلطجة لمساندة المتظاهرين، والبعض منهم حمل السلاح الأبيض والأسلحة الفردية الخفيفة.
واضاف فاروق :
حتى أنَّ جريمة قتل حصلت بحق المواطن نضال جنود من طرطوس. وهو مزارع لا ناقة له ولا جمل. كان قد أتى لبيع نتاجه الزراعي في سوق الهال في بانياس. ولدى خروجه اجتمع عليه مجموعة من البلطجية والزعران وقتلوه ذبحاً بالسكاكين كما تذبح الشاة. هذا التصرف جعلنا نقشعر من القرف والخزي والعار، ودفعنا أنا وأصحابي الذين كنا نخرج في المظاهرات إلى التفكير آلف مرّة قبل أن نساهم ثانية في المظاهرة. وقد علمنا بأنَّ هناك بعض الأصوليين المتطرفين الذين كانوا يعدّون العدّة منذ زمن طويل لساعة كهذه يقومون فيها ضد الدولة وكيانها بقصد تحقيق مشروعهم الأصولي في السلطة.
الشاب أحمد إسماعيل لا تختلف روايته كثيراً عن رواية فاروق. فقد شرح لنا كيف أنّه فوجئ بتصرف بعض الزعران الذين خرجوا في أحد الأيام بعد صلاة الظهر متجهين إلى كراجات مدينة بانياس التي تقلّ الناس إلى الريف المحيط بها، وهجموا على حافلات النقل فيها وبدأوا بتحطيم معدنها وزجاجها. مما حدا بسائقي هذه الحافلات إلى الهروب إلى قراهم حيث أثار هذا الأمر حفيظة أهل الريف ودبّت فيهم نخوة الحمى فتجمعوا بالآلاف متجهين إلى مدينة بانياس . وكان الكثير منهم يحمل أسلحة بيضاء وبنادق صيد وفي حالة هيجان عام لا يمكن وصفه. ولكن الحمد لله، أنَّ الأمن السوري والشرطة كانوا قد وصلوا معززين بدوريات من فروع أخرى خارج بانياس ووقفوا في وجه أهل الريف الهائجين والراغبين بردّ كرامتهم التي انتهكتها هذه الزُمر من الزعران خاصة مع الشتائم التي أطلقوها على سائقي الباصات وكانت كلّها شتائم طائفية قذرة يندى لها الجبين.
لذلك كانوا معذورين في تصرفّهم ولكن الأمن حال دون تورطهم بأي عمل من شأنه أن يثير صراعات طائفية. حيث اكتشفنا لاحقاً بأنَّ الأمر كان مخطط له ومدبّر من قبل بعض الشخصيات الأصولية المتطرفة في بانياس. والذين كانوا قد دفعوا بهؤلاء للتصرف هكذا من أجل أن يأتي الريف وتستعر الصراعات الطائفية بين الإثنين مما يفتح الباب لاشتعال الموقف في المحافظات الأخرى. وبالتالي التدخل العربي والدولي في سوريا.
للأسف في البداية اعتقدنا أنَّ المسألة هي طيش شباب وجهل منهم. ولكن لا حقاً تبين بأنَّ هناك أسماء من المتنفذين في المدينة، هم من دفع هؤلاء لفعل ذلك، وهم ملاحقون اليوم من قبل الأمن السوري الذي فعل المستحيل لدرء هذه الحرب التي يُخطط لها. وبعد هذا الموقف ومواقف أخرى متطرفة لا مسناها من البعض قررنا بأنَّ هذا الحراك هو حراك مشوّه ومشبوه. ولا يمكن أن يصل إلى البلاد إلاّ إلى الخراب وليس إلى الإصلاح والبناء. ونحن اليوم ننتظر الاصلاحات التي أرضت الكثير من السوريين. وأنا شخصياً أراها جيدة. ثم يردف قائلاً بعامية ثقيلة: "حتى كتيره عليهن".
هذه الصور لا تنفي بحال من الأحوال وجود مشاكل في المدينة، ومظاهر تسلّط من السلطة المتنفذة في المدينة ومنهم أحد ضباط الأمن الذي كان يتحكم بالناس ومصيرهم. وقد تم عزله منذ الأيام الأولى من موقعه نظراً لسوء سلوكه. وهذا لا ينفي أيضاً بأنَّ هناك شريحة اجتماعية كبيرة تعاني الفقر، وتعاني بعض المشاكل مع مؤسسات الدولة في المدينة. وقد حاول البعض توظيفها كأخطاء قاتلة واستثمارها ضدّ السلطة حتى يهيجوا الناس. وقد كان المطلب الأساسي في البداية هو الاصلاح، والتخلّص من الفاسدين وأصحاب الأداء السيء في الدوائر والمؤسسات في مدينتنا الصغيرة. ولكن تحوّلت طلبات الناس إلى شعار إسقاط النظام فجأة ودون سابق علم منّا نحن الذين نتظاهر معهم. ولا نعلم من الذي اطلق هذا الشعار ؟ وكيف؟ ولماذا؟ ولكن من المؤكد بأنَّ هناك من يعمل لصالح جهات خارجية وهي التي أرسلت تعليمات لطرح هذا الشعار الخطير. أنّأ مدّرس فيزياء، وقد شاركت في المظاهرة الأولى والثانية، فأنا مع الحرّية، " مين بيكره الحرّية بالعالم كله؟ إي الحمار بحبّا ". يقول الأستاذ: ......... عابدين، والذي تحفّظ على إسمه الأول لأنه لا يريد أن يعرف الناس بأنه شارك في هذه المظاهرات لما رآه من تشويه لقيم الحرّية وشعارت طائفية لا تخدم أغراض الهدف. وهي لا تؤدي إلاّ إلى الفتنة والإقتتال بين شرائح المجتمع السوري الذي اشتهر بتعايشه المسالم عبر التاريخ.
بعد أن قامت الجهات المختصة بالإستجابة للكثير من الطلبات التي طرحها أهالي بانياس مع محافظ المدينة ومسؤوليها، خاصة لجهة تأمين عدد كبير من فرص العمل. وردّ المظالم للناس الذين عانوا منها. وكذلك التعويض على الناس مما عاناه البعض جرّاء سوء سلوك وتصرّف المسؤولين، بعد هذا لوحظ أنَّ عدد المتظاهرين أخذ يخبو، ويتضاءل أسبوعاً بعد آخر. فقد اكتشف الكثيرون بأنَّ جانباً كبيراً من هذا الحراك قد تمَّ توظيفه من قبل البعض الذين يرتبطون مع الجهات الخارجية وخاصة من أصحاب الصراعات مع النظام مثال عبد الحليم خدّام النائب السابق لرئيس الجمهورية والفاسد الكبير أثناء خدمته في الدولة. وبعض قيادات الجماعات الأصولية السلفية الذين تحالفوا مع فريق 14 آذار اللبناني، حيث كانوا يمدونهم بالأسلحة والدعم اللوجستي والمالي من أجل العمل على تزكية نار الفتنة وادخال سوريا في أتون صراعات طائفية ومذهبية لا تقوم لها قائمة حتى يسقط النظام السوري. ويتمكن أعداء سوريا والمتآمرين عليها من بلوغ هدفهم.
هذا ما أكّده أحد الموظفين والذي يملك بيوتاً بلاستيكية لزراعة الخضار الباكورية في ريف بانياس وهو يرفض أن يذكر إسمه. يقول:
- كنت من الداعمين لهذا الحراك، وكنتُ أنتظره بفارغ الصبر لما في سوريا من مشاكل. فالدولة ينخرها الفساد. ونحنُ لا نملك مرجعية للشكوى وايصال صوت الحق، فكلّما ذهبنا إلى مسؤول لنشرح ما نعانيه، نكتشف أنه أسوأ من غيره حتى استسلمنا للواقع. وأصبحت أقول يجب أن تحصل هزة كبيرة في البلد حتى يعلم الرئيس؛ "الإصلاحي بشار الأسد" بأنَّ البلاد فيها مشاكل كثيرة، ولكن من حوله لا يخبروه سوى الأكاذيب. وأنا، ونحن جميعاً من كل الطوائف والأديان نعيش في بانياس مدينة وريف متآلفين، ومتناغمين ولا يوجد أي خلل في العلاقة. وكلّنا سواسية في السرّاء والضرّاء. ولكن يبدو أنَّ هذا النموذج من التعايش مطلوب تدميره في المنطقة. وهذا ما اكتشفناه لا حقاً. أنا ما زلت أذهب إلى بانياس وأسواقها وأبيع خضاري فيها. لم يتغير شيء بالنسبة لي. ولكني لا حظت بعض الأشخاص، أو المجموعات المعروفين بتطرّفهم وأصوليتهم غير مرتاحين لما حصل. ويبدو أنهم كانوا يريدون الذهاب بعيداً في هذه الفوضى. و لا أعلم من يخدمون أو مع من يتحالف هؤلاء. وكيف يقبلون أن يُحطّم بلدهم ويدّمرون تاريخهم. هل هناك أي مبلغ في العالم يُعادل هذه الخسارة؟ لا أعتقد ذلك!! ولكن هناك من فقد عقله وتفكيره في سبيل المال والأحقاد التي تعمي قلوبهم.
أحمد البياسي، الشاب الذي حاول الكثير من رموز المعارضة والمتظاهرين المتاجرة باسمه. حوّلوه بطلاً في جملة تضامنية غير مسبوقة عندما ادّعوا بأنّ الأمن السوري قد قتله في السجن. وبعد أيام خرج هذا الشاب على التلفزيون السوري الرسمي ليكّذب ادعاءاتهم وتضليلهم الذي حاولوا المستحيل من خلاله لتشويه صورة الحقيقة. وقد ساهمت هذه الصورة في تعميق الفهم البعيد لموضوع علاقة الخارج بهذه الحقائق التي اكتشفها الكثيرون من أهالي بانياس. وأصبحوا يعلمون جيداً أنّ الهدف الأساسي كان ضرب وحدتهم الوطنية وتآلفهم الذي عاشوا فيه آلاف السنين. ففي فترة عبرت انكفأت الناس عن بعضها وأصبح هناك تمايزات وخلافات طائفية حاول البعض من أصحاب المصالح والأجندات الخارجية العزف عليها وتعزيزها. ولكن الشعب في هذه المدينة وغيرها من مدن سوريا كان أكثر نضجاً ووعياً، وإنتبه مبكرّاً إلى المؤامرة التي تُحاك، وحجمها وطبيعتها. لذلك انكفأ الناس واستدركوا ما صنعوه من شروخ فيما بينهم. بعد فترة خطيرة من الجمود التجاري وتبادل السلع بين المدينة والريف. ولكن؛ وكما تقولُ العَربُ، إنَّ الضربة التي لا تقصم ظهرك تقّويه. فقد اتضح اليوم أنَّ ما حصل في بانياس هي ضربة أريد بها قصم ظهر بانياس وأهلها. ولكنها قوّته. وشدّت من وزره لتواجه مزيداً من التحدّيات القادمة. اليوم بانياس تستعيد عافيتها، لتعود ثانية عروس ساحلية جميلة.. تقدّم السحر الذي نفتقده في مكان آخر ..؟!!
(عربي برس)