ابن العائلة الأزهرية عاش في فضاء تنويري أتاح له اختيار الدرب الذي يريده. رحلاته الطويلة بين أميركا وأوروبا شرّعت له نوافذ الثقافة العالمية قبل أن يغرق في الأسطورة، ويشغله طغيان الفكر الغيبيّ على العقل العربي
خليل صويلح
في بداية الانتفاضة السورية، وجد فراس السوّاح نفسه مدفوعاً للتعبير عن رأيه في حراك الشارع. انطلاقاً من رصيده الفكري الذي راكمه خلال العقود الثلاثة الأخيرة. كتب على صفحته في فايسبوك أفكاراً تدعو إلى العقلانية، وعدم الانزلاق إلى مستنقع الحرب الطائفية. حذّر أيضاً من الشعارات التي تحرّض على تفتيت المجتمع السوري وانقسامه من خلال التسميات التي تُطلق على أيام الجمعة. لكنه فوجئ بحجم الهجوم المضاد، والتخوين الذي ناله جرّاء هذا الطرح، فما كان منه إلا أن أغلق صفحته على الفور، مودّعاً قرّاءه بقوله: «في زمن القتلة والجنون الجماعي لأمة بأكملها، تنسحب الحكمة إلى مخبئها، ويغدو صوت الحق مثل نهيق حمارٍ تائهٍ في الصحراء لا يسمعه أحد. لذا، فإن العاقل ينكفئ على نفسه ويختار الصمت».
المفكّر السوري الذي كان يحشد جمهوراً استثنائياً خلال ندواته، اكتشف فجأة أنه حيال هيجان جماعي لـ«مصادرة العقل»، هو الذي اشتغل طويلاً في كتبه وأبحاثه على «تحرير العقل» كما يقول. في تعليقاته على فايسبوك، تحدّث عن «الثورة المخترقة» من جهات عدّة، أبرزها الأصوليات الإسلامية، وثقافة الثأر المتأصلة في السيكولوجيا العربية، و«الجهات الشبحيّة» (التي تطلق التسميات على أيام الجمعة)، ومعارضة المقاعد الوثيرة من دون أن يستثني السلطة في قمع التظاهرات السلميّة وتأجيج الصراع.
يوضح رؤيته إلى الثورات العربية قائلاً: «الانتقال إلى الديموقراطية يحتاج إلى تمرينات شاقة. لا بدّ من التطوّر التدريجي، وإلا فلن نجد ثورةً ناجحة». هكذا عاد إلى مواقعه القديمة لاستكمال مشروعه حول «حفريات النصوص المقدّسة» بنظرة مغايرة تسعى إلى هدم «سلطة النص» وتحريره من قدسيته التاريخية: «أقرأ هذه النصوص بوصفها متناً أدبياً، متجاوزاً طغيانها المقدّس من خلال تفكيكها وإعادة تركيبها، ووضعها في مقامٍ آخر».
لا يقف السوّاح عند باب اليقين مرّة واحدة في رحلة تشوبها الريبة من الإيديولوجيات الجاهزة. كتابه الأول «مغامرة العقل الأولى» (1978) أحدث ضجّة غير مسبوقة بين صفوف القراء. في أوج صعود الإيديولوجيات اليسارية، اختار فراس السوّاح حقلاً معرفياً مغايراً، هو دراسة الأسطورة وشعائر وطقوس الديانات القديمة في سوريا ووادي الرافدين، بحثاً عن وحدة التجربة الروحية. وإذا بالكتاب يشق طريقه منفرداً إلى الواجهة، في طبعات متتالية، لم تتوقف حتى اليوم. ينفي صاحب «الأسطورة والمعنى» (1997) أنه باحث في الأسطورة، بقدر اعتنائه بما وراء الأسطورة لجهة الحداثة واكتشاف الجذور وإطاحة سلطة النص لمصلحة «سلطة العقل» من خلال التفسير والتأويل. وهو بهذا المعنى باحث في تاريخ الأديان من موقع فينومينولوجي: يصف الظاهرة من دون الحكم عليها، على عكس ما تتكفل به الدراسات التي تنتمي إلى نقد الفكر الديني. ذلك أن الأساطير، حسبما يقول، هي حكايات مقدّسة، أبطالها من الآلهة، وتالياً، فهي المنبت الأول للنصّ الديني.
ابن العائلة الحمويّة الأزهرية التي استقرّت في حمص مطلع القرن المنصرم، عاش في فضاء تنويري، أتاح له أن يختار طريقه بنفسه. درس الاقتصاد في جامعة دمشق، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولم يكمل دراسته، إذ لم يجد جديداً في المنهاج. في مطلع شبابه كان قريباً من الإخوان المسلمين، ثم غرق في الماركسية، وأحسّ لاحقاً بقربه من القوميين السوريين. يقول مستدركاً: «لكنني لم أنتسب إلى أيّ من هذه الأحزاب يوماً. أقترب من الأفكار، وأبتعد عن الإيديولوجيات. الانتماء إلى الجماعة يؤدي إلى الذوبان».
اهتمامه بالتراث الإنساني القديم لا يعني تقديسه لهذا التراث، بقدر ما هو اتكاء على نصّ منجز بقصد العبور إلى ضفاف نص آخر. «ينبغي ألا نكون أسرى الماضي» يؤكد. هذه التصوّرات تضعه على مسافة من اشتغالات الآخرين على التراث، أمثال محمد عابد الجابري الذي كان يعمل في «دائرة ثقافية مغلقة»، والطيب تيزيني الذي عدّ منجزه «مجرد حركة مصطنعة في مياه راكدة». أما أدونيس، فهو لم يغادر منجزه في «الثابت والمتحوّل»، و«بقي متخندقاً في مذهبيته الضيّقة». يستثني السوّاح هنا جهود جورج طرابيشي في كتابه «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث» لجهة التأويل المبتكر.
رحلته الطويلة بين أميركا وأوروبا مطلع السبعينيات، كانت عتبته الأساسية في تمزيق خرائط المكان المغلق، والانخراط في منظومة الثقافة العالمية، بحثاً وسجالاً وتفكيراً، وصولاً إلى نظريته الخاصة في ماهيّة الدين. يرشدنا إلى كتابه المفصليّ «دين الإنسان» (1994)، معتبراً إياه جوهر اشتغاله المعرفي. بالإضافة إلى عمله على الأسطورة العربية والإغريقية، اتجه فراس السوّاح شرقاً، ليميط اللثام عن أحد أهمّ كتب الحكمة الصينية، وهو «كتاب التاو»، أو «إنجيل الحكمة الصينية»، ذلك أنّ الثقافات الشرقية ظلّت شبه مجهولة في المكتبة العربية. مقولة من القرن الرابع قبل الميلاد للحكيم الصيني «لاو تسو»، وجّهت بوصلته إلى الروحانية الخالصة: «من غير أن تسافر بعيداً، تستطيع أن تعرف العالم كلّه. من غير أن تنظر من النافذة، تستطيع أن ترى طريق السماء». لعل صاحب «الوجه الآخر للمسيح» اكتشف الخيط السرّي بين التعاليم الروحية القديمة وعجلة العلم، رابطاً المعرفة بالسلوك، وإلا فنحن إزاء لعبة ذهنية لا طائل منها: «دقيقة واحدة من الصلاة الذهنية، أكثر فائدة من خمسين صلاة» يردّد باطمئنان.
ما يعني السوّاح في أبحاثه أولاً، هو طغيان الفكر الغيبيّ على العقل العربي. لكنه في المقابل، يعوّل على المنهج العلمي في تقليص هيمنة سلطة هذه الأفكار، من خلال استنطاق النصوص القديمة المبعثرة «بمنهجية صارمة قد تضع العالم العربي على عتبة أخرى في التفكير». هذا ما يشغله هذه الأيام. بعد صدور كتابه «الإنجيل برواية القرآن» (2011)، سوف يستكمل مشروعه بعناوين أخرى قيد الإنجاز، هي «ألغاز الإنجيل»، و«أثر القصص القرآني في المصادر الخارجية»، و«تنقيبات معرفية في النص التوراتي». قبل أن نغادره، يودّعنا بشكوى تتعلق بتزوير طبعات كتبه في بعض العواصم العربية، ويضيف ضاحكاً: «ماذا يفعل شخص مثلي يعيش من إيرادات كتبه؟».
(الأخبار)