آخر الأخبار

حول العروبة

1-
العروبة هوية ثقافية عمودها الفقري اللغة العربية كوسيلة تواصل ,وكوعاء لإنتاج المعاني . هي تاريخية :بمعنى أنها ولدت في التاريخ ,وستموت بعد عمر يطول أو يقصر في التاريخ أيضاً . علاقتها بما ينضاف إليها بالمعنى الإثني أو الديني علاقة النهر بروافده :عكارة تزول مع الوقت وغزارة تبقى . هاضمة لما قبلها ومهضومة ممن سيليها. هكذا هي.و ليست كما وصفها مؤسس البعث ميشيل عفلق : العروبة جسد روحه الإسلام .. بل هي جسد روحه اللغة العربية . من هنا نفهم مراوحتها على تخوم المجتمعات التي بدلت دياناتها إلى الإسلام ,لكنها لم تقوى على تبديل لغاتها إلى العربية ..العروبة من هذه الزاوية رابطة تعطي هوية مشتركة للناطقين بالعربية .هي بهذا المعنى تصلح قاعدة لبناء الدولة -الأمة . ما أضر بالعروبة ليس تعصب البعثيين. أو الطابع القدسي الذي أعطوه لها. فهذه من أدوات كل أيديولوجية لجمع الحامل الإجتماعي لأي فكرة . ما أضر بالعروبة هو ربطها بالإسلام .فلأن الإسلام دين يتوزع على مذاهب وطوائف" فيما بينها ما صنع الحداد" .وكذلك الأمر مع أتباع الديانات السابقة على الإسلام "المسيحيين أو اليهود"وهم في معظمهم سكان أصليون ل
لمنطقة الناطقة بالعربية .فإن هذا الربط بين العروبة والإسلام أدى لإضعاف الأولى كأيديولوجية قادرة على جمع الناطقين بالعربية وإعطائهم هوية مشتركة . وسمح أن تتنافس على جذبهم هويات محلية ضاربة في عمق التاريخ كالفرعونية والفينيقية ..إلخ .. أو هويات مشتقة من الإنشقاقات الدينية ..ما تستحقه العروبة الآن هو النظر لها بعقلانية .والتعامل معها كهوية عابرة للهويات الدينية والمذهبية . التي تصنع هنا وهناك أقليات صالحة للتلاعب بها من قبل الأجندات الخارجية . ولعل فكها عن الدين يعطي للمشروع العلماني نقطة استناد قوية-عبر منحه هوية - للمضي في بناء مشروعه السياسي والثقافي داخل هذا الحوض الناطق بالعربية .
الجمع بين العروبة والإسلام .ربما أخفى تملقاً أقلياتياً لديانة الأكثرية - أنا أتحدث هنا عن دوافع ميشيل عفلق - لكن الناصرية والبعث نوسا الأضواء حول كتابات قسطنطين زريق ,المنظر الأكثر عقلانية للعروبة.. وأبقياها متوهجة حول كتابات ساطع الحصري وميشيل عفلق و زكي الأرسوذي, لأنها الأكثر قرباً من الفضاء الأسطوري الذي تتنفسه العامة . ولخلوها من مقاربة ما تطرحه السسيولوجيا العربية من أسئلة في السياسة ,والإقتصاد والثقافة . أجد أن استعادة قسطنطين زريق يؤسس لبداية جديدة لديها من الوقود المعرفي ما يوصل قطار العروبة إلى محطته التالية .

2-
العروبة ليست اختراعاً بعثياً أو ناصرياً.الأخيران كانا مشروعين سياسيين لها . فشلهما لا يصلح رائزاً لمصيرها . هي في الأساس تمايزٌ عن الرابطة العثمانية. باشرته منذ دخلت الرابطة العثمانية طور الإنحلال طيلة القرن التاسع عشر "القرن الأخير من عمر الإمبراطورية العثمانية " . ولعل إطلاق قرن القوميات عليه لم يكن جزافاً . نظراً لأنه شهد انحلال امبراطوريتين في مجرى التحول البرجوازي ونشوء الدولة القومية كإطار سياسي للمشروع البرجوازي . العروبة بهذا المعنى تموضعت في خط التطور التاريخي لا في مواجهته . هي لذلك أخذت طابعها التقدمي . المصائر التي آلت إليها و تثير التشاؤم الراهن , هي من بطء التحول البرجوازي الذي ينتج الحامل الإجتماعي للمشروع العروبي من جهة ,ومن جهة أخرى تواقت هذا التحول مع العصر الإمبريالي وتأثيره المضاعف على الحوض الناطق بالعربية لأسباب نفطية وجيوسياسية . وإلا ما معنى إفلات الصينيين والهنود من الشرط الإمبريالي العام وبقاء العرب يراوحون في مكانهم سياسياً واقتصادياً ؟. الجواب على هذا يمكن العثور عليه في المرحلة الكولونيالية .حيث تمخضت خواتيمها عن تقسيم الحوض الناطق بالعربية وإقح
امه في جدلية مصالح ممانعة للتوحد . لوتمخضت المرحلة الكولونيالية عن عالم عربي موحد كما الحالتين الصينية والهندية لكنا الآن عملاقاً ينافس العمالقة على احتلال مكانته في عالم لايعطي لغير الأقوياء حقوقاً متساوية . من هنا كانت التجزئة السياسية كعب أخيل المشروع العروبي .ومن هنا أيضاً أصبح كل من البعث وعبدالناصر "الحاملين السياسيين لهذا المشروع " - وبصرف النظر عن عيوبهما وقابليتهما الضعيفة للقيام بأعباء هذا المشروع -في تقاطع نيران الإرادات الداخلية والخارجية الممانعة لمشروعيهما الوحدوي . وفي هذا السياق يمكن الحديث طويلاً عن دور العائلة السعودية الرئيسي في إحباط المشروعين الناصري والبعثي بدءاً من التآمر المباشر ووصولاً إلى مراكمة العقبات السسيولوجية والدينية . إن الفورة الراهنة للإسلام السياسي هي وليدة هذا الجهد المالي والتبشيري الذي بذلته المملكة الوهابية لمقارعة المشروع العروبي خدمة وتحالفاً مع أسيادها الأمريكيين وحاملة طائراتهم التي لاتغرق :إسرائيل . إن عروبة طرحت عنها ضيق الأفق وتخلصت من طابعها الرومنسي . يمكنها أن تكون أساساً لبناء الدولة الحديثة . والإسلام السياسي الذي يغذ الس
ير لبناء الدولة الدينية مستفيداً من تراجع المشروع القومي والدعم الذي يتلقاه من الدوائر الغربية لتموضعه الراهن في خط مصالحها الإستراتيجية ,ولتعويلها عليه كأداة لمزيد من تلغيم التنوع الديني والمذهبي للناطقين بالعربية .. لقد كان خط التوتر بين الوطني والقومي فيصلاً في إحباط المشروع الوحدوي من جهة ومن جهة أخرى نافذة للهروب من استحقاقات بناء الدولة الوطنية . وهكذا أصبحنا راهناً كمن لم يطال عنب الشام ولا بلح اليمن .