آخر الأخبار

حول مشروع حزب البعث

مشروع الوحدة الاتحادية الذي وضعته القيادة القومية لحزب البعث

- 1-

لقد وضع حزب البعث العربي الاشتراكي، في أوائل سنة 1962، مشروعاً لإعادة الوحدة بين سوريا وبين مصر، على أسس جديدة.

و قد نشر المشروع المذكور في نهاية البيان الذي أصدرته القيادة القومية للحزب، في أيار سنة 1962 .

وفيما يلي نص المشروع ، كما جاء في البيان المذكور:

شكل الوحدة ومضمونها يجب أن يكون بدولة واحدة إتحادية، على الأسس التالية :

أولاً : دولة الوحدة هي دولة واحدة إتحادية، برئيس واحد، ونائب رئيس واحد، وحكومة اتحادية ، ومجلس نيابي ، ومجلس إتحادي، ومحكمة إتحادية، وإدارات ومؤسسات ومجالس ولجان إتحادية .

ان الشرط في الرئيس ونائب الرئيس أن لا يكونا من اقليم واحد ، وانتقاؤهما من الإقليمين يرمز إلى التكافؤ بين الاقليمين وإلى المشاركة في أمور الدولة الواحدة، وان الحكومة الاتحادية تختص بالشؤون الكبرى للدولة كوحدة ، بما في ذلك شؤون دفاعها وسياستها الخارجية وشؤونها الإقتصادية وسياسة التنمية والتخطيط .

ويكون الوزراء الاتحاديون من الاقليمين ، وتضمن مشاركتهم الفعلية وسلطتهم الكاملة في شؤون وزاراتهم ، ويستعينون بمجالس عليا في التربية والتعليم والدفاع والاقتصاد تضم اعضاء من الاقليمين .

أما الهيئة التشريعية فتتألف من مجلسين، مجلس نيابي ينتخب على أساس عدد السكان، ومجلس إتحادي ينتخب على أساس التساوي بين ممثلي الإقليمين. وكل تشريع يصدر عن المجلس النيابي، لا يقر إلا إذا وافق عليه المجلس الاتحادي . وبهذا يضمن عدم تسلط الإقليم الكبير على الإقليم الصغير ويتحقق تكافؤ الإقليمين بالدولة الواحدة، وتبت المحكمة الاتحادية في تفسير القوانين وفي النزاعات التي تحدث بين سلطات الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية، أو فيما بين الحكومات المحلية نفسها.

ثانياً : يحتفظ كل إقليم بسلطاته المحلية التي لا تتعارض مع السيادة السياسية لدولة الوحدة. ويتم ذلك بواسطة مجلس نيابي إقليمي وحكومة إقليمية مسؤولة أمام المجلس ومؤلفة من رئيس ووزراء أقليميين. وتدير السلطة التشريعية والتنفيذية الاقليميتان شؤون الاقليم المتعلقة بالتربية والتعليم والثقافة والصحة والبلدية والقروية والمواصلات داخل الاقليم وغير ذلك.

ثالثاً : ان الوحدة عملية بناء مستمرة، ويجب الانطلاق من واقع الفوارق الاقليمية، والسيربها تدريجياً نحو التنسيق فالتوحيد. ويترك للحكم الاقليمي حرية التشريع فيما يتعلق بالحريات العامة والتنظيم الشعبي والأوضاع الاقتصادية وغيرها على ضوء أحوال الاقليم الواقعية ، دون تجاهل ضرورة التنسيق والتوحيد وفق الأهداف القومية والاجتماعية والاقتصادية للدولة كلها .

-2-

هذا هو المشروع الذي وضعه حزب البعث العربي الإشتراكي.

إن أول ما يلفت النظر في هذا المشروع، هو : إهتمامه بالفوارق الإقليمية، إنه يتكلم عن واقع الفوارق الإقليمية ويحتم العمل على ضوء أحوال الإقليم الواقعية .

وذلك يدل على انجراف حزب البعث العربي الإشتراكي بتيار إقليمية صريحة .

هذه الإقليمية تطل برأسها منذ الفقرات الأولى من المشروع ، حيث يشترط في الرئيس ونائب الرئيس أن لا يكونا من إقليم واحد . وتظهر إلى الميدان بكل قوتها في الفقرات الأخيرة من المشروع، حيث يترك للحكم الإقليمي حرية التشريع فيما يتعلق بالحريات العامة والتنظيم الشعبي والأوضاع الإقتصادية.

هذا إتجاه جديد في بيانات حزب البعث، يخالف المبادىء الأساسية التي كان اعلنها، كما يتضح من التفاصيل التالية:

أولأ: إن الفقرة الثانية من المبدأ الأول من دستور حزب البعث العربي تنص على مايلي :

الأمة العربية وحدة ثقافية، وجميع الفوارق القائمة بين أبنائها عرضية وزائفة، تزول جميعها بيقظة الوجدان العربي .

ويتبين من ذلك : أن الحزب كان يعتبر الفوارق القائمة بين أبناء الأمة العربية عرضية وزائفة. ولكنه في مشروعه الأخير يعطي لتلك الفوارق العرضية والزائفة مكانة خاصة في بناء الوحدة الإتحادية.

ثم، ان المادة الخامسة عشرة من المبادىء العامة المسطورة في دستور الحزب تنص على مايلي :

الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدول العربية التي تكفل الإنسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة واحدة. وتكافح العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والاقليمية .

ويتبين من ذلك : أن المبادىء العامة المقررة في دستور الحزب تستوجب مكافحة العصبيات الإقليمية. ولكن المشروع يراعي الإقليمية كل المراعاة، حتى انه يزودها بوسائل التقوّي والنماء، لانه يترك للحكم الإقليمي حرية التشريع فيما يتعلق بالحريات العامة والتنظيم الشعبي... وغني عن البيان أن ذلك يفسح المجال لتقوية الروابط الإقليمية على حساب الرابطة القومية.

لأن- نظراً لحرية التشريع الممنوحة للحكم الإقليمي في هذه الميادين- من الممكن، مثلا، أن يقرر أحد الإقليمين حرية الصحافة بأوسع وأتم معانيها، في الوقت الذي قد يقيد الإقليم الآخر الصحافة بأشد القيود وأقساها.

وكذلك، من الممكن أن يقرر أحد الإقليمين منع تكوين الأحزاب السياسية منعاً باتاً ! في الوقت الذي قد يقرر الإقليم الآخر مبدأ الحرية التامة في تكوين الأحزاب.

وبديهي أن كل ذلك يفسح المجال لزيادة الفوارق بين الإقليمين، مع توسيعها وتعميمها وتقويتها، وبالتالي يؤدي إلى أضعاف عمل الرابطة القومية التي يجب أن تكون العامل الأساسي في بناء دولة الوحدة.

قد يقال- رداً على هذه الملاحظات: ولكن المشروع يقيد الحرية المذكورة ببعض القيود : دون تجاهل ضرورة التنسيق والتوحيد، وفق الأهداف القومية والإجتماعية والاقتصادية للدولة كلها .

و لكن هذا القيد مطاط وغيرمحدد المعالم . فلا يمكن أن يؤثر في سير الأمور، تجاه الصراحة التامة الواردة في أمر حرية التشريع فيما يتعلق بالحريات العامة والتنظيم الشعبي...

وأوضح دليل على ذلك أن القيادة القومية لحزب البعث العربي الإشتراكي نفسها تجاهلت القيد المذكور تماماً، عندما قررت المشروع . لأن عدم تجاهل ضرورة التنسيق والتوحيد يستلزم- أول ما يستلزم- عدم ترك حرية التشريع في أمثال هذه الأمور الأساسية إلى الحكم الإقليمي.

ولذلك أكرر ما قلته آنفاً بكل تأكيد: ان حزب البعث، عندما قدم المشروع الذي نتكلم عنه الآن، قد خالف مبادئه الأساسية وتنكر لعقائده الأصلية.

قد يخطر ببال أحد البعثيين أن يقول لي : إنك تسيء تفسير المبادىء المدونة في دستور الحزب. ولذلك تخطيء في حكمك عليه.

ولكني أعتقد أن المبادىء التي نقلتها آنفاً صريحة كل الصراحة، فلا تترك أي مجال لسوءالفهم أو لسوء التفسير.

ومع ذلك، أرى أن أستشهد بكتابات ميشال عفلق أيضاً ، لإزالة الشكوك التي قد تساور أذهان البعض، بناء على أمثال هذه الملاحظات.

ومعلوم أن المشار إليه عميد الحزب وأمينه العام، كما انه مؤسسه الأول مع صلاح الدين البيطار. فلا بد من اعتبار كتاباته بمثابة الشروح لمبادىء الحزب المذكور. وقد تكلم ميشال عفلق عن الفروق بين الأقطار العربية، في مقالته عن وحدة النضال في المغرب العربي المنشورة في كتابه في سبيل البعث وأوضح فيها رأيه- ورأي حزبه- في هذه الفروق، بشيء من التفصيل.

وقد قال، فيما قاله، في المقالة المذكورة:

أما إذا فهمنا من الفروق أكثر مما تمثل هذه الكلمة، وأغرقنا وبالغنا في إعطاء الأهمية للفروق، عندها سنجد فرقاً بين مدن سورية وعندها يتعذر كل عمل. إذا رضينا أن نسترسل في طريق التفريق والتمييز واعطاء الأهمية للفروق فإن ضمن القطر الواحد ثمة فروقاً بين منطقة وأخرى، وهذا في عرف العمل السياسي والعمل القومي غير جائز مطلقاً : الاسترسال في التمييز.

إذن في مفهوم العمل السياسي والقومي كلمة فروق لها حدود لا يجوز أن نتجاوزها، ولها مستوى لا يجوز أن تهبط عنه. فإذا قيل مثلاً أن ثمة فروقاً بين اليمن و بين باقي الأقطار العربية، لأن اليمن معزولة منذ قرون، و في حالة إجتماعية متخلفة جداً ، بقيت على حياة القرون الوسطى الموغلة في القديم . وإذا قيل بان ثمة فرقاً تحسن مراعاته بين المملكة العربية السعودية و بين الأقطار العربية الأخرى فأيضاً يمكن أن نسلم نوعاً ما بهذا الفرق. لأنه لم يوجد بعد في المملكة العربية السعودية ما يسمى رأياً عاماً ، ما يسمى شعباً ومواطنين.. فالوضع بدوي عشائري، مغلق، معدوم الثقافة، معدوم النور وحرية الرأي . ولكن لا يجوز مطلقاً أن نذهب لأبعد من ذلك. عندها نكون عملياً كأننا نخضع لمنطق الاستعمار نفسه، الاستعمار الذي يتذرع بفروق ثانوية مصطنعة ليمنع توحيد الأمة وليمنع توحيد نضالها ضده : أو انه هو يخلق هذه الفروق [ ميشال عفلق ، وحدة النضال في المغرب العربي ، في سبيل البعث ( دمشق : دار الطليعة ، 1959 ) ، ص 244 - 245 ] .

يتبين من ذلك ان ميشال عفلق يحدد الأحوال التي يجوز فيها مراعاة الفروق ، فيقول : يجوز ان نراعي الفروق بين اليمن وبين باقي البلاد العربية، كما يجوز ان نراعي الفروق بين المملكة السعودية وبين باقي البلاد العربية ولكن لا يجوز مطلقاً ان نذهب إلى أبعد من ذلك.

فيجدر بنا ان نتساءل: ألم يذهب حزب البعث إلى أبعد من ذلك كثيراً- وكثيراً جداً- عندما جعل مراعاة الفوارق الإقليمية بين مصر وبين سوريا أس الأساس في بناء الوحدة الإتحادية التي إقترحها، في بيانه المشهور؟

وقبل أن أختم هذا البحث، أرى أن ألفت الأنظار إلى ما قاله ميشال عفلق في مقالته عن وحدة النضال ووحدة المصير :

فواقعنا المتأخر المتردي قائم على احدى الدعائم الكبرى للتأخر والتردي، ألا وهي التجزئة، يفكر بعقلية التجزئة ويعمل بدوافعها، حتى عندما يفكر بالوحدة ويعمل لها. وليس أشد الأفكار خطراً على الوحدة العربية هي الأفكار الإقليمية والشعوبية الصريحة المفضوحة، وإنما هي الأفكار التي يروجها دعاة الوحدة الرائجة، أي وحدويو التجزئة [ المصدر نفسه ، ص 239 ] .

إني أوافق على ما قاله ميشال عفلق في هذا المضمار. غير إني أرى أن أقول في الوقت نفسه، واتماماً لقوله:

وهذا ما فعله حزب البعث العربي الإشتراكي، عندما قرر مشروعه الجديد في الوحدة الإتحادية: انه صار يفكر بعقلية التجزئة، ويعمل بدوافعها، ودخل بذلك في عداد وحدويو التجزئة الذين أشار إليهم الأمين العام للحزب ميشال عفلق...