بعد انتظار ممض، قرر البلدوزر أن يغادر مشفى تل هشومير إلى الرفيق الأعلى، لكنه لم يختر الوقت الأنسب للرحيل كما يزعم ولده جلعاد، ولو كان الأمر بيده لما بقي فوق محفة المرض يودع أعضاءه الواحد تلو الآخر في صمت مذل. رحل شارون ليترك مكانه في تاريخ إسرائيل والعالم شاغرا، وليُعجز من جاء بعده من القتلة ومصاصي الدماء.
لم يعتد شارون حمل الرفش والفأس والمنجل كما اعتاد أبواه القادمان من البياض الروسي الشاهق إلى قرية كفار ملال، واستعاض عن حبوب القمح بالبارود. وفي مزرعتهم المتواضعة، كان شارون يدفن بارودته تحت روث الأبقار حتى لا تكتشفها الدوريات البريطانية المتلصصة. وفي ريعان صباه، التحق الفتى بعصابات الهاجناه ليتحول من قاتل هاو إلى سفاح محترف.
كان آرييل مستعدا للقيام بأي "عمل قذر" من أجل إسرائيل، ولهذا لم يتوان عن المشاركة في أي حروب ضدنا، ولما حبسته السياسة عن هواية القتل اللذيذ، صرح قائلا: "أقسم أنني لو كنت مواطنا إسرائيليا عاديا، وقابلت فلسطينيا، لأحرقته حيا ونكلت به قبل أن أرديه قتيلا." لكن الرجل تحول من القتل بالتجزئة إلى القتل بالجملة، ليصبح أكبر تاجر دماء عرفته المنطقة العربية في تاريخها الحديث.
لم يترك شارون مناسبة للقتل إلا اغتنمها، ولا دار حرب إلا وطأها بخيله ورجله، فكان سباقا إلى الحروب كلها، وكان له في محيط مآسينا ألف باع وذراع. في حرب الثمانية والأربعين، قاد كتيبة للمشاة. وفي عام 1953، قاد وحدة 101 الخاصة إلى ما وراء الخطوط الحمراء ليرتكب مجزرة بشعة في قرية قبيا، وليخلف تسعة وستين شهيدا وأرضا محروقة ردا على قتل ثلاثة جنود صهاينة، مما سبب حرجا لبن جوريون اضطره إلى الاعتذار عن تجاوزاته علنا. وعام 1956، تقدم الرجل بطائراته سرب طائرات مهاجرة قادمة من فرنسا وإنجلترا ليضربا مصر في خاصرة السويس.
وعام 1967، وفور حصوله على شهادة عسكرية رفيعة من جامعة كامبرلي الإنجليزية، جرب الرجل ما تعلمه من فنون القتال على جيرانه العرب، وقتل أسراه المصريين بدم بارد مخالفا أبسط قواعد القانون الإنساني والدولي. وحين قامت حرب 1973، سحب الرجل استقالته من ميدان العنف، وقرر المشاركة في وليمة الدماء العربية. وبخمسة آلاف رجل ومئتي دبابة، استطاع شارون أن يفتح ثغرة في حدود الهزيمة، وأن يقطع الإمدادات عن الجيش الثالث المصري، ليرد العرب إلى مربع أحزانهم القديمة.
وفي تلكم السنة، قرر "أسد الرب" - كما يحلو للإسرائيلين أن ينادوه - أن يترجل من قيادة الحرب القذرة، ليعتلي صهوة السياسة القذرة، وليدخل الكنيسيت كعضو بارز في الليكود. وفي عام 1977، تحول شارون من مجرد مستشار للدفاع إلى وزير للزراعة. وفي عهده، تجاوزت حقول إسرائيل الخضراء حدود مستوطناتها الحمراء، وتقدم الرجل بخطى لا تعرف الخجل نحو حدودنا الآمنة، ليقتص منها جزءا هنا وجزءا هناك تحت سمع العالم وبصره وهو يقول متبجحا: "علينا جميعا أن نتحرك، وأن نغتصب كل قمة لنوسع من مستوطناتنا، لأن كل ما سنضع عليه أيادينا سيبقى ملكا لنا."
وتحت سقف حكومة مناحم بيجن، وجد البلدوزر نفسه وزيرا للدفاع كما ظل يتمنى طوال عنفه. وفي عام 1982، عاد الرجل لسيرته الأولى، فقاد حربا شرسة ضد لبنان بزعم القضاء على المقاومة الفلسطينية التي كانت تتخذ منها مقرا لقواعد صواريخها، وبالفعل تمكن من حصار بيروت العاصمة في أيام معدودات. وتحت ذريعة مطاردة رجال المقاومة، توغلت قواته الخاصة داخل المدينة ليحاصر سكان مخيمي صبرا وشاتيلا، ويشعل السماء بقنابله الفوسفورية حتى تنتهي قوات جيش لبنان الجنوبي من أسوأ مجزرة عرفها التاريخ البشري حتى ذلك الحين. تلك المجزرة التي راح ضحيتها بين 800 و 3500 مسالم طعنا وذبحا بسلاح أسود غاشم.
لكن قرار الانسحاب من قطاع غزة، والذي اتخذه الرجل بشكل منفرد كلفه الانسحاب من قيادة الليكود وتشكيل حزب كاديما عام 2005. ولم ينس كثير من الإسرائيليين للرجل منظر رفاقهم من المستوطنين وهم يجبرون على ترك خمسة وعشرين مستوطنة بعد أن وضعوا أياديهم عليها كما أمرهم شارون ذات يوم. وفي العام ذاته أصيب الرجل بذبحة ألجأته للبقاء نائما فوق ظهره أياما. لكن ضربة عام 2006 كانت قاضية، إذ ذهبت بسمع الرجل وبصره، وتركته جثة هامدة لثمانية أعوام كاملة.
اليوم يرحل شارون، فلا يسير خلف جنازته عربي ولا يترحم على موته مسلم، لكن ملايين الإسرائيليين في فلسطين والشتات حتما يدركون أن إسرائيل اليوم لم تعد كإسرائيل شارون. وأن الرجل الذي انتزع سهول فلسطين وتلالها بالحرب، لم يكن ليترك قطاع غزة من أجل السلام العادل الذي تشدق به مبارك قبل خلعه حين قال: "شارون هو الأخير" يقصد آخر من يمكن مواصلة السلام معه، ويعلم الله وحده ومستشارو شارون لأي غرض انسحب الرجل من كوة في جدار فصل عنصري أقامه ولأي غاية.
رحل شارون ورحل الذين وضعوا أياديهم فوق يديه الملوثتين بدماء العرب ودموعهم، لكن فلسطين لم تعد لأهلها، ولم يعد أحد من الشتات إلى مسقط حنينه. واليوم تجري المفاوضات على قدم وساق للاعتراف بيهودية الدولة بعد أن رفع العرب والمسلمون أياديهم عن قضيتهم الأم وقبلتهم الأولى، وانشغلوا بربيعهم الدامي. سقط شارون، لكن حلمه الذي كافح لأجله سنوات عمره المديدة لا يزال حيا يتمطى فوق أسرتنا الدافئة دون أن يشجب أحد أو يمتعض أحد، وكأن القدس لم تعد عروس عروبتنا.
إضافة تعليق جديد