آخر الأخبار

«اغتيال الحريري - ادلة مخفية»

.

منذ اكثر من سنة والتحقيقات في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، التي اعتبرت ‏جريمة العصر، تتواصل، بالرغم من صدور ثلاثة تقارير دولية حولها من قبل لجنة التحقيق ‏الدولية، الا ان الغموض ما زال يكتنفها،

في ظل تضارب المعلومات، والتباين في الحقائق، ‏وظهور شهود جرى التشكيك بهم، وبعضهم اعترف انه ضلل التحقيق، والبعض اشار الى انه ادلى ‏بافادات كاذبة.‏

وخلال عام، صدرت مجموعة من الكتب اضافة الى التقارير الصحافية والاعلامية، تتحدث عن ‏الجريمة، وبعضها يسلط الضوء عليها، ويكشف حقائق جديدة، لم يأت على ذكرها التحقيق ‏الدولي، او انه تجاهلها، واتجه نحو جهة معينة في الشبهة والاتهامات.‏

في الكتاب الذي صدر حديثا تحت عنوان «اغتيال الحريري - ادلة مخفية»، للمؤلف الالماني ‏يورغن كاين كولبل، وهو باحث في علم الجنايات في جامعة هومبولت في برلين، يكشف عن وقائع لم ‏يأخذ بها التحقيق، مثل جهاز التشويش في سيارات الرئيس الحريري، والذي توقف عن العمل ‏قبل ساعة من الجريمة، حيث تبين من التحقيقات والاستقصاءات التي قام بها يورغن، ان شركة ‏اسرائيلية تبيع مثل هذه الاجهزة.‏

ويقول مؤلف الكتاب انه يحاول ان يسد على اقل ثغرة بان نطرح احتمالات اخرى لتوجهات ‏التحقيق التي اهملتها لجنة تحقيق الامم المتحدة بشكل جلي عندما ركزت كل عملها على اثبات ‏التهمة على سورية كما يتمنون ويريدون. ومحاولتنا هذه تأتي على شكل تجميع ادلة ووقائع ‏وحقائق نرغب من القارىء المهتم ان يقومها.‏

ويشير يورغن في مقدمة كتابه الى انه «لا يشعر بأن عليه واجب الوصول الى رأي نهائي او ان ‏يصور الحقيقة الموضوعية. الا ان تحقيقاً كهذا في اغتيال الحريري هو في غاية التعقيد ويجب ان ‏يأخذ بعين الاعتبار الى جانب «الاثر الذي يقود الى سورية»، الاحتمالات العديدة الاخرى ‏والمذكورة في هذا الكتاب.‏

‏مقدمة الكتاب‏

في الظروف العادية تسير عمليات التحقيق في الجرائم وكشف حقيقتها حين يكون الهدف هو معرفة ‏الحقيقة الموضوعية والوصول الى الجاني وليس البريء، لكي يقدم الى القضاء ويتحمل مسؤوليته ‏الجزائية.‏

اما في ملف اغتيال الحريري فقد انتــــهكت موضوعية التحقيق منذ البداية بالانحياز الى ‏طرف واحد وتعارضت مع القاعدة الاساسية التي تنص على الكشف عن الجريمة من كل نواحيها ‏وبشكل كامل شامل. ويتم الكــــشف عن الجرائم والتحقيق فيها عادة عن طريق البحث عما ‏يمكن ويتوفر من الادلة وجمعها وتقويمها، باختصار يجب التزام الدقة بتقديم الادلة والبراهين.‏

ان التحقيقات التي اجرتها ولا تزال تجريها لجان تحقيق تابعة للامم المتحدة في موضوع الاغتيال ‏ذي الخلفية السياسية للسيد رفيق الحريري منذ عام، قد انتهكت ولا شك عملية الموضوعية لانها ‏قد حاولت من جانب واحد وبتفاهم مع امين عام منظمة الامم المتحدة كوفي عنان، ان تتبع ‏‏«اثر سورية» فقط وتجمع الادلة وتفتش عليها وتقومها لتحمل حكومة دمشق مسؤولية هذه ‏الجريمة. وتكفي نتيجة عمل لجنة تحقيق الامم المتحدة لشهور عدة تحت اشراف المدعي العام ‏الالماني ديتليف ميليس، لتوضح في كانون الاول (ديسمبر) 2005 ان هذه التركيبات السياسية ‏بامتياز تقف على ارجل من طين لا دعامة لها مطلقا. فشهود الاثبات الاساسيون تراجعوا عن ‏اقوالهم بحجة انه تم اغراؤهم بالمال او اجبروا على ذلك. وهذا وحده يكفي للدلالة على عدم ‏جدية عمليات التحقيق.‏

بالاضافة الى ذلك فإنه لا يوجد ما يشير الى ان اللجنة قد حاولت ان تتجه بتحقيقها في ‏اتجاهات اخرى غير «الاثر السوري» الذي تم توجيهها به من منظمة الامم المتحدة، ولم يظهر ما ‏يشير الى سير تحقيقاتها بشكل موضوعي وشامل. ولم يشأ امين عام الامم المتحدة كوفي عنان ولا رئيس ‏جمهورية لبنان الذي ما زال يمارس مهامه، اميل لحود، ان يجيبا على سؤال المؤلف في كانون ‏الاول (ديسمبر) 2005، فيما اذا كانت قد اجريت تحقيقات في هذا الاتجاه، ونحاول في هذا الكتاب ‏ان نسد على الاقل ثغرة بان نطرح احتمالات اخرى لتوجهات التحقيق التي اهملتها لجهة تحقيق ‏الامم المتحدة بشكل جلي عندما ركزت كل عملها على اثبات التهمة على سورية كما يتمنون ‏ويريدون. ومحاولتنا هذه تأتي على شكل تجميع ادلة ووقائع وحقائق نرغب من القارئ المهتم ‏ان يقومها. كا لا يشعر المؤلف ان عليه واجب الوصول الى رأي نهائي او ان يصور الحقيقة ‏الموضوعية. الا ان تحقيقا كهذا في اغتيال الحريري هو في غاية التعقيد ويجب ان يأخذ بعين ‏الاعتبار الى جانب «الاثر الذي يقود الى سورية»، الاحتمالات العديدة الاخرى، والمذكورة في ‏هذا الكتاب، وينتبه الى المعضلات المذكورة ويستفيد منها.‏

وبما انه من الواضح ان الامم المتحدة لم تسمح بتوجيه التحقيق في اتجاهات اخرى كان من واجب ‏الصحافة ان تتحرى لتسقط ولو قليلا من الضوء في ظلمة هذا التحقيق.‏

ان كل مؤلف يتحرك في هذا التيار العسير، ولو كان محقا في العديد من النقاط، يتعرض لخطر ‏ان يتهم بالتنظير للمؤامرات من قبل بعض وسائل الاعلام القائمة على خدمة بعض الساسة، لان ‏‏«اكتشافاته» لا تنسجم مع الصورة السياسية الرسمية التي يريدون وضعها للجريمة، ولم اكن قد ‏انهيت اي فصل بعد من هذا الكتاب حينما توجه الي في تشرين الثاني (نوفمبر) 2005 اوائل ‏المرتابين في لبنان، حيث كتب احدهم: «لا ادري كما دفع لك، لان الانسان العاقل لا يمكن ان ‏تكون لديه قناعة بهذه الحماقات، واذا لم تكن مؤجورة فعلا فاني ارى نفسي مضطرا للاعتقاد ‏بان ما تقوم به يعود لكراهيتك لليهود ويشير الى انك لم تستطع بعد تجاوز عقدة الحرب ‏العالمية الثانية. ارجو ان تكون رسالتي دافعا لاعادة النظر فيما ترويه، هذا اذا كان لا ‏يزال لديك بعض الانسانية وبعض الضمير».‏

استمر ذلك في كانون الاول (ديسمبر) 2005 حينما هدد شخص مجهول كتابيا شخصا كان المؤلف قد ‏اجرى مقابلة معه وادعى ان: «هذا الواهم غريب الاطوار.. خطير جدا. انه.. يأخذ المال من ‏بعض العرب في العراق، هذا الفتى هجومي ولكنه مؤلف جيد، انه يحاول بنظرية المؤامرة التي ‏ينسجها من خياله ان يحل على شهرة واسعة على نمط ايان فليمينغ واخرين. هناك بعض ‏المعلومات في الانترنت حول هذا الغلام تشير الى علاقاته مع البعــــثيين العراقيين بالرغم من ‏انه يدعي انه شيوعي. ان لديه حقدا كبيرا على المســــيحيين في لبنان وكتابه لا بد انه ‏سيكون حول وصم اسرائيل واتهـــامها بالتورط في اغتيال الحريري، كذلك سيتهم الكتائبيين ‏والمحافظين الجدد لديه الكثير من المعلومات ويحاول ان يغري الكثير من اللبنانيين ليأخذ منهم ‏معلومات».‏

ولنحسن الظن الان بكاتب هذه السور ونعتبر انه كان ثملا حين صاغ هذه الرواية من روايات ‏الف ليلة وليلة، ولكن الاشخاص الذين قابلهم كانوا يستعرضون عضلاتهم احيانا. فزياد ك. ‏عبد النور، وهو تاجر من نيويورك ومؤسس لجنة تحرير لبنان استاء من ذلك وشعر بالصدمة ‏وهدد بالقول: «على اي حال يا صديقي، ان لي ذراعا طويلة وحينما ارى امرءا يسيء الي ‏فاني اعرف ماذا اعمل. كن متأكدا انه لن يكون رجلا سعيدا. لقد فعلت ذلك من قبل والبعض ‏يجلس في السجن الآن».‏

قبل ساعات من طباعة هذا الكتاب صدر عن المراسل المعروف في الاذاعة والتلفزة والمختص ‏بشؤون الشرق الاوسط والمقيم في القدس، اولريخ ف سام، رد فعل خائف يشابه رد فعل الشيطان ‏على الماء المقدس، حيث وصف متحوى هذا الكتاب بعد ان قرأ في الصحافة عن ظهوره القريب، ‏بانه «مجانب للحقيقة» وكتب لي يقول: «لقد وصلتني ابناء بانك قد نشرت كتابا يحتوي على ‏نظريات حول اغتيال الحريري الذي تدعي ان الولايات المتحدة الاميركية واسرائيل نفذتاه. ‏اني آسف على انك لم تتصل بي من قبل. اذن لكنت قد اعطيتك معلومات عن ان الموساد يتحمل ‏بكل تأكيد مسؤولية تسونامي آسيا ومسؤولية عاصفة ثلجية حصلت في لبنان قبل عدة سنوات. ‏ان وباء الايدز المنتشر في كل العالم وكذلك انفلونزا الطيور التي انتشرت حديثا هي الاخرى ‏ايضا من عمل الموساد اذ ان الاســــــرائيليين طوروا هذه الفيروسات بحيث انها تصيب العرب ‏فقط ولا تقترب من اليهود. ولا ننسى موسم البندورة السيىء في المغرب وهجوم 9/11 بالطبع ‏فهما ايضا من صنع الموساد. ومن الواضح ايضا ان الموساد نظم كل العمليات الانتحارية التي ‏تمت في اسرائيل لأن اسرائيل تستخدمها كذريعة للهجوم على الفلسطينيين. ولولا هذه العمليات ‏الانتحارية لما استطاع الاسرائيليون ان ينفذوا هجوماتهم. ومن الطبيعي ايضا ان اسرائيل ‏هي التي نقلت عدوى الإيدز الى عرفات».‏

‏«لا تحتاج الا ان تتصل بي لأعطيك مادة ممتعة لكتابك القادم. جــــملة نظريات حول ‏المؤامرات والتآمر حيث كان الموساد هو القيّم عليها جميعا من هجوم 9/11 الى كل الكوارث ‏الطبيعية والاوبئة العالمية وكل الحوادث الاخرى التي خلّفت الكثير من الموتى».‏

‏«إني اقدر لك عاليا دفاعك عن النظام السوري اليساري التقدمي والمنفتح والديموقراطي ‏الذي يحترم حقوق الإنسان ويحترم الحرية. اما لبنان فهو كيان ديكتاتوري غير ديموقراطي وغير ‏شرعي كما هي الحال في ألمانيا الاتحادية التي ارسلت المحقق ميليس ليكشف جريمة اغتيال الحريري. ‏كما يتضح لي تماما ان لدى الاسرائيليين والاميركيين وهم اليمينيون المتطرفون والحاقدون ‏المتعصبون، مصلحة خاصة في قتل الرأسمالي والحاقد بدوره، رفيق الحريري من اجل ان يضعوا ‏النظام التقدمي في سورية تحت الضغط بلا اي معنى».‏

اذا استطاع هذا الكتاب ان يقود هذا القارئ او ذاك الى مقاربة موضوعية ليست احادية ‏الجانب حول الاسباب المحتملة لاغتيال الحريري وخلفية هذه الاسباب فإنه يكون بذلك قد حقق ‏هدفه.‏

برلين في آذار 2006‏

لا سلام في بيروت

نقل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري من الحياة الى الموت. وهذا ما جعل جمهرة من ‏المعجبين تتحلق حوله، وإنما بعد موته لسوء الحظ. لم تفقد هذه الجمهرة صوابها بل حسمت ‏امرها، وعظمت ذكراه، وقدمت للولايات المتحدة الاميركية، التي جاءت معزية، قداس الموت في ‏‏«ثورة الارز» الاصلاحية.‏

في متاهات الاهوال

إنقاذ ملياردير ميت من مغامرة لا امل منها. كيف يعذب القناصون العصريون ضحاياهم.‏

مرة اخرى تتصاعد هبّات اللهب من الجثة العارية. قبل ذلك بدقيقة اطفأ المسعفون الذين ‏اتوا مهرولين ثياب الجثة المشتعلة، وأخمدوا لنار بغطاء.‏

ولكن سرعان ما عاد الجانب اليساري للميت الى الاشتعال مرة اخرى وهو ملقى بشكل بشع على ‏اسفلت الطريق. وفي اللحظة التي اتت فيها النار الملتهبة على الاضلاع، تقدم رجل ملتح بكل ‏شجاعة واخذ يضرب الجسد الميت بسترته الجينز الزرقاء. وكانت الجثة تهتز على إيقاع ضربات ‏سترته.‏

وقد لمع الخاتم الذهبي في يد الميت اليسرى لجزء من الثانية في ضوء النار.‏

استطاع هذا الرجل الملتحي ان يطفئ النار التي عادت للاشتعال ولكنها كانت مغامرة لا أمل ‏منها. كان الدخان الابيض يتصاعد من الجثة ويلف خمسة من الرجال يحيطون بالجثة منذ دقائق في ‏محاولة للإسعاف سحبوا الميت، وجروه من يديه ورجليه خارج الحريق. وقف أحد المسعفين، الذي ‏كان يسحب الجثة من الساق، ونظر مذهولا الى راحة كف يد الميت اليمنى. كان هناك شيء ما ‏يلتصق بها.‏

اياد رحيمة لفت اخيرا ما تبقى من هذه الجثة المشوهة بغطاء مقلم بالاحمر والاصفر والاخضر ‏وعليه مربعات زرقاء ورمادية، وهو الغطاء الذي كان قد استخدم لاخماد النار. مات الرجل ‏قبل دقائق قليلة بانفجار ضخم. تشوه وجهه لدرجة عدم معرفته وفوق تلك الكتلة المدمّاة ‏التي كانت ذات يوم وجهه، كانت النار قد احرقت كل شعر رأسه، حتى الحواجب والاهداب لم يبق ‏لها اي اثر. حتى ثيابه لم يبق منها شيء بالكاد، ربما حذاؤه وجواربه القاتمة، وبقايا قبة ‏قميص كان لونه ابيض تحتها اجزاء من ربطة عنق تكومت على الرقبة، وكانت خرقة من كمّ ‏سترته لا تزال مكوّمة حول كتفه اليمنى وابطه. لقد احترقت على جسده كل الثياب، التي كان ‏يلبسها تقريبا، ادت الحرارة العالية اثناء الانفجار والحريق، الذي اشتعل بعد ذلك، الى ‏تصلب الجثة، حيث كان تأثير الحرارة على العضلات القابضة والباسطة كبيرا ولكن بما ان ‏العضلات القابضة هي الاقوى، فانها تعطي الجثة والمفاصل وضعها الاخير(1). وهذا ما يفسر وضع ‏ساقي الجثة، التي كانت ملقاة على ظهرها على الاسفلت، اذ كانت الساقان مطويتين، وكـــذلك ‏الذراعان وخاصة اليسرى منهما، مطوية وملتوية بعيدا عن الجثة. اما بشرة الميت فكانت ‏اما ممزقة ومتدلية من الجسم او عليها بقع كبيرة من الكدمات الصفراء والطينية اللون.. ‏وهذا دليل اكيد بالنسبة للطبيب الشرعي، على الزلال البشري المتخثر. وكانت البشرة ايضا ‏سوداء رمادية، او متفحمة تماما في بعض المناطق على العضد والذراع والكتف اليسري. ‏وسيقول الاختصاصي في هذه الحالة ان هناك تفحما وحروقا من الدرجة الرابعة. لقد وقع سيء ‏الحظ، الذي نتكلم عنه في هذا الكتاب ضحية مؤامرة سياسية، خطط لها بشكل محكم ونفذت بكل ‏دقة. ففي الساعة 56.26:12 من يوم الرابع عشر من شباط (فبراير) سنة 2005 انتقل هذا ‏الرجل، عبر عملية في منتهى العنف من الحياة الى الموت، وكان ضحية مؤامرة الاغتيال هذه التي ‏خطط لها، ونفذها اناس مجهولون، هذا الانسان الذي كان ملقى بعد احتراقه بين الركام، كان ‏رئيس وزراء لبنان الاسبق رفيق الحريري.‏

تعرف على جثته بعد ذلك رهط من اقربائه وبعض السياسيين في مستشفى الجامعة الاميركية في ‏بيروت، وتم فحص علامات الجسم الفارقة والاسنان باستخدام الصور الشعاعية لتأكيد هوية ‏القتيل. وكتب الاطباء في تقريرهم ان سبب الموت اصابة في الدماغ مع توقف مفاجئ للقلب.‏

جحيم بيروت

اغتيال يكاد يكون في منتهى الكمال - مسرح الجريمة الكورنيش - شهود عيان يروون - ولدى ‏سادلر، مراسل السي ان ان، بعض الاحساس والتصورات.‏

في صبيحة ذلك اليوم الرابع عشر من شباط (فبراير) يوم فالنتين، غادر السياسي رفيق ‏الحريري في حوالي الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً مبنى البرلمان في قلب بيروت، وسار على ‏قدميه حوالي سبعين مترا الى مقهى في ساحة النجمة. وهناك التقى مع بعض الاشخاص، وبقي معهم ‏حوالي عشرين دقيقة، غادر على اثرها المقهى مع عضو البرلمان والوزير السابق باسل فليحان. ‏سار الحريري بسرعة ومباشرة الى الموكب، المكون من ست سيارات: سيارة جيب في الامام، ثم ‏سيارة القيادة، وفيها اربعة رجال من شرطة بيروت، تليها سيارة مرسيدس، سوداء، فيها ‏ثلاثة رجال امن شخصيين، وفي السيارة الثالثة، وهي سيارة مرسيدس سوداء مصفحة، جلس ‏الحريري وفليحان. تبعتهم بعد ذلك سيارتا مرسيدس سوداوان، وسيارة جيب سوداء (سيارة ‏اسعاف) وفي كل واحدة منها ثلاثة حراس شخصيين، والجميع مزودون بمسدسات ومدربون بشكل جيد. ‏وكانت ثلاث من سيارات المرسيدس مزودة باجهزة تشويش (4 ميغا هرتز) والتي كانت تعمل حتى ‏آخر لحظة.‏

لم تعلم سيارة القيادة بخط المسير، الذي ستسلكه الا بعدما غادر الحريري ورفاقه المقهى. ‏وجدير بالذكر ان الحريري لم يسلك هذا الطريق الا ست مرات في الاشهر الثلاثة الاخيرة. غادر ‏الموكب ساحة النجمة بعد ذلك الى شارع الاحدب، وشارع فوش، قبل ان ينعطف على الطريق ‏الساحلي الى عين المريسة وباتجاه فندق السان جورج (2). ان الطريق التي اختارها موكب ‏سيارات الحريري للعودة من وسط المدينة، هي منطقة الاتصال مع القسم الغربي من المدينة، ‏والمخرج، او المدخل محاط من كلا جانبيه بفنادق من ذات الاربع والخمس نجوم للسياح الاغنياء.‏

رفيق الحريري من فلاح الى ملياردير كان واسع الشعبية بسبب المساعدات التي قدمها

منذ اكثر من سنة والتحقيقات في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، التي اعتبرت ‏جريمة العصر، تتواصل، بالرغم من صدور ثلاثة تقارير دولية حولها من قبل لجنة التحقيق ‏الدولية، الا ان الغموض ما زال يكتنفها، في ظل تضارب المعلومات، والتباين في الحقائق، ‏وظهور شهود جرى التشكيك بهم، وبعضهم اعترف انه ضلل التحقيق، والبعض اشار الى انه ادلى ‏بافادات كاذبة.‏

وخلال عام، صدرت مجموعة من الكتب اضافة الى التقارير الصحافية والاعلامية، تتحدث عن ‏الجريمة، وبعضها يسلط الضوء عليها، ويكشف حقائق جديدة، لم يأت على ذكرها التحقيق ‏الدولي، او انه تجاهلها، واتجه نحو جهة معينة في الشبهة والاتهامات.‏

في الكتاب الذي صدر حديثا تحت عنوان «اغتيال الحريري - ادلة مخفية»، للمؤلف الالماني ‏يورغن كاين كولبل، وهو باحث في علم الجنايات في جامعة هومبولت في برلين، يكشف عن وقائع لم ‏يأخذ بها التحقيق، مثل جهاز التشويش في سيارات الرئيس الحريري، والذي توقف عن العمل ‏قبل ساعة من الجريمة، حيث تبين من التحقيقات والاستقصاءات التي قام بها يورغن، ان شركة ‏اسرائيلية تبيع مثل هذه الاجهزة.‏

ويقول مؤلف الكتاب انه يحاول ان يسد على اقل ثغرة بان نطرح احتمالات اخرى لتوجهات ‏التحقيق التي اهملتها لجنة تحقيق الامم المتحدة بشكل جلي عندما ركزت كل عملها على اثبات ‏التهمة على سورية كما يتمنون ويريدون. ومحاولتنا هذه تأتي على شكل تجميع ادلة ووقائع ‏وحقائق نرغب من القارىء المهتم ان يقومها.‏

ويشير يورغن في مقدمة كتابه الى انه «لا يشعر بأن عليه واجب الوصول الى رأي نهائي او ان ‏يصور الحقيقة الموضوعية. الا ان تحقيقاً كهذا في اغتيال الحريري هو في غاية التعقيد ويجب ان ‏يأخذ بعين الاعتبار الى جانب «الاثر الذي يقود الى سورية»، الاحتمالات العديدة الاخرى ‏والمذكورة في هذا الكتاب.‏

في يوم الاثنين الرابع عشر من شباط 2005 تم اختيار هذه الطريق للعودة من البرلمان، بعد ‏اجتماع عقد هناك. وتمر هذه الطريق بين مطاعم باهظة الاسعار في قلب المدينة، يطلق على ‏مركز مدينة بيروت اسم سوليدير، وهذا اسم شركة تملك المليارات، وتعود ملكيتها جزئيا ‏للحريري.. تمتلك هذه الشركة مركز المدينة بكامله، بيوتا وشوارع ومراكز تموينية وخدمات ‏امنية ومقاهي وفنادق ومكاتب وعمارات سكنية وارصفة وحدائق وكذلك بلدية بيروت، مع ‏استثناء وحيد وهو فندق السان جورج، الذي رفض مالكه التنازل عنه، ويؤيد حملة ضد ‏سوليدير، (3).‏

في تمام الساعة 26:56:12 بتوقيت بيروت المحلي، كان الموكب امام فندق السان جورج، حينما هز ‏انفجار هائل، سمع من بعيد في الجبال الشرقي المدينة، الكورنيش وساحل بيروت بكامله على ‏البحر المتوسط.‏

لقد وضع مجرمون مجهولون، امام فندق السان جورج، وفندق فينيسيا انتركونتيننتال، ووسط ‏منطقة تجارية ملأى بالمصارف والفنادق، قنبلة، ذات قدرة تفجيرية تبلغ الطن الواحد من ال ‏ت. ن. ت، وفجروها لحظة مرور الموكب، ويبدو ان هؤلاء المجرمين المخادعين ارادوا ان يضمنوا ‏تماما عدم خروج الحريري حيا من هذا الجحيم، وتكفي عادة مئتا غرام من هذه المادة الجهنمية ‏لقتل انسان واحد (4)، وللمقارنة: فان قوة تفجير القنبلة الذرية، التي اسقطت على ‏هيروشيما تعادل عشرين الف طن من الـ ت. ن. ت وقد قتلت مباشرة ثمانين الف شخص، والحقت ‏اضرارا جسدية بما يزيد عن مئتي الف (5).‏

وهكذا لم يكن من المستغرب ان عدة سيارات من هذا الموكب الامني انفجرت، واحترقت جراء هذه ‏الكمية الكبيرة من المتفجرات، بالرغم من تصفيحها القوي. قتل مع الحريري سبعة من حراسه ‏الشخصيين واثنا عشر من المدنيين المارة، اما فليحان فقد عاش بعد ذلك 64 يوما، قبل ان ‏يموت جراء الحروق الشديدة، التي اصيب بها، في مستشفى في باريس، كما اصيب حوالى 220 شخصا ‏اصابات مختلفة، كان بعضها شديدا. وخلف هذا الانفجار الهائل حفرة في الشارع، زاد عمقها ‏عن خمسة امتار، واكتسى محيط مكان الجريمة بغطاء من الغبار والرماد. كذلك سجل تحطم زجاج ‏النوافذ على بعد 1600 متر، وغطت بيروت غمامة دخانية سوداء كثيفة، هذا المكان الذي اخترع ‏فيه الفنيقيون الدراهم ذات يوم في غابر الزمن.‏

وصل روبرت فيسك، مراسل صحيفة الاندبندنت اللندنية، المقيم والعامل بالقرب من مكان ‏الانفجار قبل خمس عشرة دقيقة من وصول الجيش الى المكان، ورأى هذا الهول، ووصف انطباعاته ‏لمحطة سي ان ان الاميركية: «انه منظر مذبحة كبرى. رأيت بعض الاجسام تحترق في السيارات. نزلت في ‏الحفرة، التي لا يقل عمقها عن خمسة عشر قدما. لقد كان انفجارا هائلا ومروعا. احترقت على ‏الاقل اثنتا وعشرون سيارة، حتى ان واحدة منها قذفت نتيجة شدة الانفجار الى الطابق ‏الثالث من بناء فندق مجاور، لم يفتتح بعد... تدفقت المياه من الانابيب المتفجرة في ‏الشوارع، وعندما اتى رجال الاطفاء كان عليهم ان يسحبوا خراطيمهم بين الجثث ليخمدوا ‏النيران المتأججة. وحينما وصلنا الى هناك كانت خزانات وقود السيارات لا تزال تنفجر، ‏وتنفث النار في الشوارع. كان من الصعب معرفة عدد القتلى.. كانت هناك بلا شك كمية كبيرة ‏من الاشلاء، ولكن كان هناك خمس جثث تحترق، امكن التعرف عليها كأجساد بشرية.. كان الناس ‏يأكلون في المطاعم المجاورة، وتلطخ العديد منهم بالدماء، بعد ان جرحتهم شظايا الزجاج ‏المتناثر. وكثيرون آخرون لا يزالون تحت وطأة الصدمة (6).‏

اما الاميركي برنت سادلر، الذي يعمل كمراسل لـ سي. ان. ان، وصادف وجوده قرب هذا المشهد ‏لحظة الانفجار، فقد ارسل الى المحطة التقرير المباشر التالي: «لم ار في بيروت منذ الايام ‏السوداء للحرب الاهلية، حادثة بهذا الحجم، كان الوقت بعيد الظهر بقليل، وكانت تلك هي ‏الطريق، التي اسلكها كل يوم الى المكتب في وسط المدينة ذهابا وايابا. وهذا هو ارقى حي في ‏بيروت.. لا نعلم حتى الان سبب هذا الانفجار، ولكنه انفجار هائل وقوي جدا. سمعت وعايشت في ‏حياتي انفجارات كثيرة، وهذا الانفجار من اقواها، وما اراه الان من الاثار الجانبية هو ‏الاضرار التي لحقت بفندق كونتيننتال.. اتكلم الان هنا من بهو الفنق والزجاج متناثر من ‏حولي، والجدران متهدمة، والغبار يغطي كل شيء، اخلي الفندق، وخرج الجميع حتى الموظفين الى ‏الشارع، وهناك المئات، ان لم نقل الآلاف، من اللبنانيين يجرون في كل الاتجاهات (7)‏

من كان رفيق الحريري؟ من ابن فلاح الى ملياردير. وسيط في الحرب.‏

كان رفيق الحريري رجل لبنان الغني، وحسب تقويم فوربس فقد كان بملياراته الاربعة من ‏الدولارات الاميركية، بين أغنى مئة شخصية في العالم، فهو إذن لم يكن ضحية نكرة. وبما أن وضعا ‏كهذا لا يمكن ان يكون عادة دون خلفيات إجرامية، أو دون خطط جنائية أو لا إنسانية على ‏الاقل، فإنه من المفيد ان نلقي نظرة على ماضي الحريري، أحد أكبر ارستقراطيي المال، وعلى ‏حياته وأعماله وخطاياه، وربما أسراره، إذ إن رجلا كهذا له أعداء ولا شك.‏

لم يكن الحريري من النخبة التقليدية، بل بنى امبراطوريته المالية من العدم، كما يقال. ‏ونمو شركته سوليدير للبناء وحده يصور الدور الكبير للحريري في اقتصاد لبنان. فبهذه ‏الشركة عمّر وسط بيروت بعد الحرب الاهلية، وحول فوضى المدينة المهدمة والمدمرة نتيجة ‏القنابل والرصاص، الى عالم ساطع بالمصارف والمراكز السياحية، وكان بالطبع ايضا مساهما ‏كبيرا في ملكية كل الشركات الجديدة المزدهرة، التي أسست هناك. شجع أصدقاءه الاغنياء في ‏الخارج على الاستثمار في مدينة بيروت، بينما كان يحرص على ان يقدم نفسه عندما يزورهم في ‏بلادهم تحت اسم (السيد لبنان).‏

ولد رفيق بهاء الدين الحريري في الاول من تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1944 في مدينة صيدا ‏السياحية اللبنانية الجنوبية. كان والداه يعيشان مع أولادهما الثلاثة رفيق وشفيق وبهية ‏حياة متواضعة، وكان الاب، وهو المسلم السني، يكسب قوته كفلاح وتاجر خضار. أتم الفتى رفيق ‏دراسته الابتدائية والثانوية في صيدا، وابتدأ عام 1965 بدراسة المحاسبة في الجامعة ‏العربية في بيروت، حيث كان عضوا نشيطا في حركة القوميين العرب، التي كانت من الحركات التي ‏انبثقت عنها حركة التحرير الفلسطينية. ويروى ان الحريري كان يقوم أحيانا بدور المفاخر ‏والمتباهي في عمليات جمع التبرع.‏

ترك الدراسة الجامعية في نفس العام، الذي ابتدأها فيه، لأنه لم يستطع دفع نفقاتها، كما ‏قيل. وقرر الشاب، ذو الثمانية عشر عاما، الذهاب الى السعودية ليبحث عن حياة أفضل. ‏عمل في البداية مدرسا للرياضيات في جدة، وبعد ذلك كمحاسب في شركة هندسية، وفي سنة 1969 ‏استطاع الوقوف على قدميه، وأسس شركة توريد، أسماها سيكونست. وخلال فترة الازدهار ‏الاقتصادي والنفطي في أعوام السبيعنيات من القرن الماضي، تطورت شركته الى مؤسسة كبيرة، ‏وأخذت عروض البناء الخاصة وكذلك الحكومية تنهال على الحريري من كل حدب وصوب لبناء ‏أبنية للمكاتب ومستشفيات وفنادق وقصور.‏

واستطاع المستثمر الحريري، بفضل مميزاته كما يقال «كالعمل بجد واجتهاد والصبر وطول الاناة ‏والتعامل الاخلاقي» أن يخترق كل الحواجز سنة 1977: أصبح «يكسب ذهبا» بعد أن قبل التحدي، ‏واستطاع ان يبني خلال ستة أشهر فقط قصرا في مدينة الطائف السعودية ليكون مقرا لقمة ‏إسلامية لاحقة بناء على رغبة من الملك السعودي السابق خالد. كانت غالبية السعوديين ‏متأكدة من أنه سيفشل، في ذلك ولم يثقوا بقدرته الا مثل ثقتهم بثبات رمل الصحراء ضد ‏الريح. ولكن هذا الرجل الطموح استطاع أن ينهي هذا القصر، الذي اخذ اسم فندق المسرة في ‏الطائف، في هذا الوقت القصير.‏

لم يكسب الحريري معركة البناء تلك فقط، وإنما ربح أيضا ثقة ولي العهد آنذاك الأمير فهد، ‏ومنح مكافأة له على هذا الانجاز الجنسية السعودية سنة 1978. وسرعان ما اصبح الحريري ‏المقاول الرئيس في السعودية واشترى سنة 1979 شركة البناء الفرنسية العملاقة اوجيه واسس ‏شركة اوجيه الدولية ومركزها في باريس. وهكذا اصبح على رأس اكبر امبراطورية للبناء في ‏العالم العربي ودخل في اوائل اعوام الثمانينات نادي اغنى مئة رجل في العالم ووسع ‏امبراطوريته التجارية بإنشاء شبكة من المصارف في لبنان والسعودية وشركات تأمين وشركات ‏صناعية وما شابه. والى ذلك، وفي هذه الظروف الملائمة تزوج السيدة نازك عودة الحريري، ‏وانجب منها خمسة اطفال.‏

ابتدأت سنة 1975 في لبنان حرب اهلية طويلة كان ثمنها ارواح ما يزيد على مئة ألف شخص ‏وانتهت باحتلال القوات الاسرائيلية للبنان. خلال هذه الحرب بذل الحريري اموالا طائلة في ‏مشاريع انسانية لمساعدة اللبنانيين المرتعشين من قساوة الظروف. كما أسس في مسقط رأسه في ‏صيدا سنة 1979 المعهد الإسلامي للدراسات العليا. وفي العام نفسه انشأ ايضا مؤسسة الحريري ‏للثقافة والتعليم العالي التي تولت دفع الرسوم والنفقات لدراسة الآلاف من الطلاب ‏اللبنانيين في جامعات لبنان واوروبا والولايات المتحدة الاميركية. كما اسس الحريري سنة ‏‏1983 مستشفى ومدرسة وجامعة، بالإضافة الى مركز رياضي كبير في لبنان. وكانت ارتال من ‏السيارات الشاحنة والعمال يجوبون الشوارع حاملين شعار شركة الحريري اوجيه لبنان ‏لينظفوها مجانا من الركام كلما كانت هناك هدنة مؤقتة في هذه الحرب الاهلية الطويلة وهذا ‏ما جعله بالطبع واسع الشعبية.‏

عمل الحريري في أعوام الثمانينات كمبعوث شخصي للملك السعودي فهد في لبنان وساعد ‏بوساطات اقترحها السعوديون لتنتهي الحرب الاهلية، بعد ذلك في إطار مؤتمر للحوار الوطني، ‏عقد اولا في تشرين الثاني 1983 في جنيف، ثم مرة اخرى في العام التالي في لوزان. لكن مؤسسات ‏الحريري للبناء والإعمار مدت اصابعها الى سورية وأهدى الرئيس السوري قصرا بناه له في ‏دمشق.‏

قام الحريري خاصة في الربع الاخير من فترة الحرب الاهلية بوساطات متعددة بين دمشق وزعماء ‏الميليشيات في لبنان. وهكذا بذل سنة 1986 كل ما في وسعه من اجل عودة الياس حبيقة قائد ‏القوات اللبنانية الى لبنان. وقد عقد حبيقة مع نبيه بري قائد الميليشيا الشيعية «امل» ‏ومع وليد جنبلاط قائد ميليشيا الحزب التقدمي الاشتراكي، «اتفاقا ثلاثيا» اعلن عن انتهاء ‏الحرب الاهلية واعترف بالوجود السوري في لبنان. اما الرئيس امين الجميّل، وهو ايضا من ‏القوات اللبنانية، فقد هاجم القوات «الانفصالية» في قتال دام ولم يستطع حبيقة ان يفر ‏الى باريس الا بمنتهى الصعوبة. ولكن الحريري استطاع ان يتدبر امر عودته، فاستلم حبيقة ‏قيادة القسم «المؤيد لسورية» من القوات اللبنانية.‏

في آب سنة 1987وفي محاولة منه للخروج من المأزق السياسي الذي وصلت إليه المفاوضات بين ‏اطراف الحرب والسوريين والقوات اللبنانية تحت قيادة الرئيس الجميّل عرض الحريري على ‏الرئيس ان يتنازل عن الرئاسة، قبل انتهاء مدة ولايته بستة اشهر، وفي الوقت نفسه عرض ‏على السوريين ان يوافقوا على تنصيب جوني عبدو رئيس جهاز الاستخبارات اللبنانية آنذاك، ‏رئيسا للوزراء. لكن الجميّل في نهاية عام 1988 وقبل خمس عشرة دقيقة من انتهاء ولايته ‏الرسمية، سمّى القائد العام للجيش آنذاك الجنرال ميشيل عون رئيسا لحكومة عسكرية تتولى ‏مقاليد الحكم حتى يتم انتخاب رئيس جد يد نظامي للدولة. وهنا حاول عون، ولكن عبثا، ان ‏يخرج السوريين من لبنان بقوة السلاح. ثم دعا الحريري الذي نصّب نفسه وسيطا بين الاطراف ‏المتنازعة، سنة 1989 الى مؤتمر في مدينة الطائف السعودية حيث استطاع ان يدفعهم الى عقد ‏اتفاقية سلام، واستطاع ان يقنعهم انه يجب ان يتولى السوريون مهمة الاشراف شكلا على ‏لبنان.‏

وكما خرج ذلك الجني من القمقم المغلق في احدى حكايات الف ليلة وليلة، كذلك اخرج رجل ‏الاعمال الحريري من جيبه بقدرة قادر وبعد صفقة الطائف، مخططا لاعادة اعمار مدينة بيروت ‏المهدمة. ولكنه اضطر ان يصبر حتى سنة 1992، حين شاركت اخته بهية في الانتخابات، واستطاعت ‏ان تكسب لنفسها مقعدا في البرلمان، واستطاعت بعد ذلك ان تزيل الغشاوة التي علقت في ذاكرة ‏الرئيس الهراوي آنذاك حول اخيها السعودي الملياردير. وهكذا سمى الهراوي هذا السعودي ‏نهاية عام 1992 رئيسا لوزراء لبنان، ولم يكن منه الا ان بذل فورا مبلغ اثني عشر مليون ‏دولار لضحايا الحرب الاهلية ولازالة الركام من شوارع بيروت بكل كرم وطيب خاطر، من جيبه ‏الخاص. كذلك اهدى الرئيس الهراوي بيتا رائعا، وشكر له الرئيس ذلك بالموافقة على قروض ‏حكومية، ومرّر في البرلمان قانونا يقضي بضمان استملاك العقارات لصالح شركات الحريري من اجل ‏اعادة الاعمار. وفي صيف عام 1992 اصبح الحريري رئيسا لهيئة التخطيط لاعادة اعمار العاصمة ‏بيروت، والتي اصبح الكثير من اللبنانيين يسمونها «حريري غراد».‏

وبالرغم من كل شيء رحبت غالبية اللبنانيين بحماسة كبيرة بتسمية الحريري رئيسا للوزراء ‏فهو الذي وعد ان يجعل من لبنان سنغافورة الشرق الاوسط، وان يجتذب الى هذا البلد رؤوس ‏الاموال الاجنبية واللبنانية المغتربة. ولكن سرعان ما تبين ان خطته لاعادة الاعمار والمسماة ‏‏«افق 2000» قد اختصرت في اعادة اعمار بيروت بالكامل على حساب الدولة. الى ذلك تولى ‏شركاؤه من رجال الاعمال مناصب رفيعة في حكومته الجديدة. فمنهم فؤاد السنيورة رئيس ‏الوزراء الحالي في لبنان، والذي كان المسؤول المالي الاعلى في امبراطورية الحريري التجارية ‏واصبح فجأة وزيرا للمالية في حكومته، الى جانب بهيج طبارة، الذي كان احد المحامين في ‏شركاته، واصبح وزيرا للدولة، وفريد مكاري، الذي كان نائبا لرئيس مجلس ادارة اوجيه ‏السعودية، واصبح وزير الاعلام الجديد. وفي ربيع 1993 رفع صديقه رياض سلامه، واجلسه على ‏كرسي حاكمية المصرف المركزي، ليراقب مالية الدولة. ثم بدأ الحريري بشركة البناء التي ‏يملكها، سوليدير، باعادة اعمار العاصمة، التي وضع فيها ايضا من امواله الخاصة. وقد ‏قامت هذه الشركة المسماة سوليدير، وهو الاسم المختصر لتسمية شركة التنمية والاعمار ‏باللغة الفرنسية، باستملاك معظم الملكيات في وسط بيروت التجارية، وصرفت المالكين الاساسيين ‏بمبالغ تعويض زهيدة.‏

ولم ينس الحريري ان يسعى الى مساعدة دمشق، فدخول العاصمة بشركته الانشائية ليس ممكنا دون ‏موافقة السوريين اما اعداؤه فقالوا: على اية حال فان الكثيرين يعتبرون ان رئيس الوزراء ‏قد باع البلد للسوريين وخرب الاقتصاد (10) وصل الاقتصاد اللبناني سنة 1998 الى حافة ‏الانهيار، حيث بدأ السوريون بتحميل الحريري مسؤولية ذلك. وقد ارتفعت ديون لبنان ‏الخارجية لان المال كان ينساب من بين يدي الحريري بسهولة ولان الفساد كان منتشرا في الحكومة ‏بلا اية ضوابط، الى ما يربو على 18.3 مليار دولار. اما النمو الاقتصادي فقد انخفض 8% سنة ‏‏1994 الى ما دون 2% سنة 1998.‏

بقي الحريري رئيسا للوزراء حتى عام 1998 ثم عاد ليتسلم رئاسة الحكومة مرة اخرى من عام ‏‏2000 الى 2004 وفي نهاية الفترتين عزز سطوته في السياسة والاقتصاد في لبنان بشكل مستمر. ‏وباختصار يمكن القول انه اذا كان هناك قسم من اللبنانيين يعتبرونه مواطنا صالحا، او رجلا ‏غنيا يفيد الناس بماله او مهندسا للبنان الجديد، ومنقذا للاقتصاد المتهافت، فان آخرين ‏يصفونه بزيادة ثروته الشخصية ويحملونه مسؤولية التسارع في زيادة ديون الدولة او سياسة ‏الضرائب الجائرة والانهيار الاقتصادي للبلد. الحقيقة ان الحريري ادار الحكومة في لبنان ‏والبلد باسره وبنى لنفسه امبراطورية خاصة عن طريق شركاته الانشائية سوليدير/واوجيه ‏السعودية واوجيه لبنان، واشترى مصارف ومزارع وعمل في مجال النفط والصناعات المختلفة ‏وشركات الاتصالات وكان المالك الوحيد لمحطة تلفزيون المستقبل ولمحطة اذاعة الشرق وراديو ‏الشرق من باريس. كما كان يملك صحفا يومية ومجلات اسبوعية قوية النفوذ (فكان يمتلك جريدة ‏المستقبل و38% من النهار اكبر جريدة يومية لبنانية وكذلك نسبة ولو كانت قليلة، من ‏جريدة فرانكفورتر الغماينه تسايتونغ). كما انتقده جهاز الرقابة المالية سنة 1998 ‏وقال رئيس الجمهورية لحود: ان الحريري يهمل الفقراء بينما يمنح في الوقت نفسه كرئيس ‏للوزراء اعفاء من الضريبة لمدة عشر سنوات لشركته الانشائية، التي تحتكر اعمال البناء في ‏بيروت والتي تدر المبالغ الطائلة. استقال الحريري آنذاك مستاء ولكنه عاد سنة 2000 ليتولى ‏رئاسة الوزراء مرة اخرى الى جانب رئيس الدولة لحود عدوه القديم.‏

لكن اعداء الحريري كانوا يعرفون ايضا: ان دمشق بحاجة الى ازدهار اقتصادي لبناني حتى ‏تستطيع ان تلتقط انفاسها في اقتصادها المتدهور. وباختصار فان الحريري، وبالرغم من ‏المصاعب التي وضعها في طريق السوريين، كان له تأثير ايجابي على السوريين اكثر من اي زعيم ‏آخر سابق في لبنان (11). اما النقيض فكان سيعني انه لو كان غير الحريري رئيسا للوزراء ‏لانهار اقتصاد البلدين سوية، ولكان ذلك قد ادى الى انفصالهما وهذا ولا شك، كان هدفا تحلم ‏به المعارضة.