.
منذ اكثر من سنة والتحقيقات في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، التي اعتبرت جريمة العصر، تتواصل، بالرغم من صدور ثلاثة تقارير دولية حولها من قبل لجنة التحقيق الدولية، الا ان الغموض ما زال يكتنفها،
في ظل تضارب المعلومات، والتباين في الحقائق، وظهور شهود جرى التشكيك بهم، وبعضهم اعترف انه ضلل التحقيق، والبعض اشار الى انه ادلى بافادات كاذبة.
وخلال عام، صدرت مجموعة من الكتب اضافة الى التقارير الصحافية والاعلامية، تتحدث عن الجريمة، وبعضها يسلط الضوء عليها، ويكشف حقائق جديدة، لم يأت على ذكرها التحقيق الدولي، او انه تجاهلها، واتجه نحو جهة معينة في الشبهة والاتهامات.
في الكتاب الذي صدر حديثا تحت عنوان «اغتيال الحريري - ادلة مخفية»، للمؤلف الالماني يورغن كاين كولبل، وهو باحث في علم الجنايات في جامعة هومبولت في برلين، يكشف عن وقائع لم يأخذ بها التحقيق، مثل جهاز التشويش في سيارات الرئيس الحريري، والذي توقف عن العمل قبل ساعة من الجريمة، حيث تبين من التحقيقات والاستقصاءات التي قام بها يورغن، ان شركة اسرائيلية تبيع مثل هذه الاجهزة.
ويقول مؤلف الكتاب انه يحاول ان يسد على اقل ثغرة بان نطرح احتمالات اخرى لتوجهات التحقيق التي اهملتها لجنة تحقيق الامم المتحدة بشكل جلي عندما ركزت كل عملها على اثبات التهمة على سورية كما يتمنون ويريدون. ومحاولتنا هذه تأتي على شكل تجميع ادلة ووقائع وحقائق نرغب من القارىء المهتم ان يقومها.
ويشير يورغن في مقدمة كتابه الى انه «لا يشعر بأن عليه واجب الوصول الى رأي نهائي او ان يصور الحقيقة الموضوعية. الا ان تحقيقاً كهذا في اغتيال الحريري هو في غاية التعقيد ويجب ان يأخذ بعين الاعتبار الى جانب «الاثر الذي يقود الى سورية»، الاحتمالات العديدة الاخرى والمذكورة في هذا الكتاب.
مقدمة الكتاب
في الظروف العادية تسير عمليات التحقيق في الجرائم وكشف حقيقتها حين يكون الهدف هو معرفة الحقيقة الموضوعية والوصول الى الجاني وليس البريء، لكي يقدم الى القضاء ويتحمل مسؤوليته الجزائية.
اما في ملف اغتيال الحريري فقد انتــــهكت موضوعية التحقيق منذ البداية بالانحياز الى طرف واحد وتعارضت مع القاعدة الاساسية التي تنص على الكشف عن الجريمة من كل نواحيها وبشكل كامل شامل. ويتم الكــــشف عن الجرائم والتحقيق فيها عادة عن طريق البحث عما يمكن ويتوفر من الادلة وجمعها وتقويمها، باختصار يجب التزام الدقة بتقديم الادلة والبراهين.
ان التحقيقات التي اجرتها ولا تزال تجريها لجان تحقيق تابعة للامم المتحدة في موضوع الاغتيال ذي الخلفية السياسية للسيد رفيق الحريري منذ عام، قد انتهكت ولا شك عملية الموضوعية لانها قد حاولت من جانب واحد وبتفاهم مع امين عام منظمة الامم المتحدة كوفي عنان، ان تتبع «اثر سورية» فقط وتجمع الادلة وتفتش عليها وتقومها لتحمل حكومة دمشق مسؤولية هذه الجريمة. وتكفي نتيجة عمل لجنة تحقيق الامم المتحدة لشهور عدة تحت اشراف المدعي العام الالماني ديتليف ميليس، لتوضح في كانون الاول (ديسمبر) 2005 ان هذه التركيبات السياسية بامتياز تقف على ارجل من طين لا دعامة لها مطلقا. فشهود الاثبات الاساسيون تراجعوا عن اقوالهم بحجة انه تم اغراؤهم بالمال او اجبروا على ذلك. وهذا وحده يكفي للدلالة على عدم جدية عمليات التحقيق.
بالاضافة الى ذلك فإنه لا يوجد ما يشير الى ان اللجنة قد حاولت ان تتجه بتحقيقها في اتجاهات اخرى غير «الاثر السوري» الذي تم توجيهها به من منظمة الامم المتحدة، ولم يظهر ما يشير الى سير تحقيقاتها بشكل موضوعي وشامل. ولم يشأ امين عام الامم المتحدة كوفي عنان ولا رئيس جمهورية لبنان الذي ما زال يمارس مهامه، اميل لحود، ان يجيبا على سؤال المؤلف في كانون الاول (ديسمبر) 2005، فيما اذا كانت قد اجريت تحقيقات في هذا الاتجاه، ونحاول في هذا الكتاب ان نسد على الاقل ثغرة بان نطرح احتمالات اخرى لتوجهات التحقيق التي اهملتها لجهة تحقيق الامم المتحدة بشكل جلي عندما ركزت كل عملها على اثبات التهمة على سورية كما يتمنون ويريدون. ومحاولتنا هذه تأتي على شكل تجميع ادلة ووقائع وحقائق نرغب من القارئ المهتم ان يقومها. كا لا يشعر المؤلف ان عليه واجب الوصول الى رأي نهائي او ان يصور الحقيقة الموضوعية. الا ان تحقيقا كهذا في اغتيال الحريري هو في غاية التعقيد ويجب ان يأخذ بعين الاعتبار الى جانب «الاثر الذي يقود الى سورية»، الاحتمالات العديدة الاخرى، والمذكورة في هذا الكتاب، وينتبه الى المعضلات المذكورة ويستفيد منها.
وبما انه من الواضح ان الامم المتحدة لم تسمح بتوجيه التحقيق في اتجاهات اخرى كان من واجب الصحافة ان تتحرى لتسقط ولو قليلا من الضوء في ظلمة هذا التحقيق.
ان كل مؤلف يتحرك في هذا التيار العسير، ولو كان محقا في العديد من النقاط، يتعرض لخطر ان يتهم بالتنظير للمؤامرات من قبل بعض وسائل الاعلام القائمة على خدمة بعض الساسة، لان «اكتشافاته» لا تنسجم مع الصورة السياسية الرسمية التي يريدون وضعها للجريمة، ولم اكن قد انهيت اي فصل بعد من هذا الكتاب حينما توجه الي في تشرين الثاني (نوفمبر) 2005 اوائل المرتابين في لبنان، حيث كتب احدهم: «لا ادري كما دفع لك، لان الانسان العاقل لا يمكن ان تكون لديه قناعة بهذه الحماقات، واذا لم تكن مؤجورة فعلا فاني ارى نفسي مضطرا للاعتقاد بان ما تقوم به يعود لكراهيتك لليهود ويشير الى انك لم تستطع بعد تجاوز عقدة الحرب العالمية الثانية. ارجو ان تكون رسالتي دافعا لاعادة النظر فيما ترويه، هذا اذا كان لا يزال لديك بعض الانسانية وبعض الضمير».
استمر ذلك في كانون الاول (ديسمبر) 2005 حينما هدد شخص مجهول كتابيا شخصا كان المؤلف قد اجرى مقابلة معه وادعى ان: «هذا الواهم غريب الاطوار.. خطير جدا. انه.. يأخذ المال من بعض العرب في العراق، هذا الفتى هجومي ولكنه مؤلف جيد، انه يحاول بنظرية المؤامرة التي ينسجها من خياله ان يحل على شهرة واسعة على نمط ايان فليمينغ واخرين. هناك بعض المعلومات في الانترنت حول هذا الغلام تشير الى علاقاته مع البعــــثيين العراقيين بالرغم من انه يدعي انه شيوعي. ان لديه حقدا كبيرا على المســــيحيين في لبنان وكتابه لا بد انه سيكون حول وصم اسرائيل واتهـــامها بالتورط في اغتيال الحريري، كذلك سيتهم الكتائبيين والمحافظين الجدد لديه الكثير من المعلومات ويحاول ان يغري الكثير من اللبنانيين ليأخذ منهم معلومات».
ولنحسن الظن الان بكاتب هذه السور ونعتبر انه كان ثملا حين صاغ هذه الرواية من روايات الف ليلة وليلة، ولكن الاشخاص الذين قابلهم كانوا يستعرضون عضلاتهم احيانا. فزياد ك. عبد النور، وهو تاجر من نيويورك ومؤسس لجنة تحرير لبنان استاء من ذلك وشعر بالصدمة وهدد بالقول: «على اي حال يا صديقي، ان لي ذراعا طويلة وحينما ارى امرءا يسيء الي فاني اعرف ماذا اعمل. كن متأكدا انه لن يكون رجلا سعيدا. لقد فعلت ذلك من قبل والبعض يجلس في السجن الآن».
قبل ساعات من طباعة هذا الكتاب صدر عن المراسل المعروف في الاذاعة والتلفزة والمختص بشؤون الشرق الاوسط والمقيم في القدس، اولريخ ف سام، رد فعل خائف يشابه رد فعل الشيطان على الماء المقدس، حيث وصف متحوى هذا الكتاب بعد ان قرأ في الصحافة عن ظهوره القريب، بانه «مجانب للحقيقة» وكتب لي يقول: «لقد وصلتني ابناء بانك قد نشرت كتابا يحتوي على نظريات حول اغتيال الحريري الذي تدعي ان الولايات المتحدة الاميركية واسرائيل نفذتاه. اني آسف على انك لم تتصل بي من قبل. اذن لكنت قد اعطيتك معلومات عن ان الموساد يتحمل بكل تأكيد مسؤولية تسونامي آسيا ومسؤولية عاصفة ثلجية حصلت في لبنان قبل عدة سنوات. ان وباء الايدز المنتشر في كل العالم وكذلك انفلونزا الطيور التي انتشرت حديثا هي الاخرى ايضا من عمل الموساد اذ ان الاســــــرائيليين طوروا هذه الفيروسات بحيث انها تصيب العرب فقط ولا تقترب من اليهود. ولا ننسى موسم البندورة السيىء في المغرب وهجوم 9/11 بالطبع فهما ايضا من صنع الموساد. ومن الواضح ايضا ان الموساد نظم كل العمليات الانتحارية التي تمت في اسرائيل لأن اسرائيل تستخدمها كذريعة للهجوم على الفلسطينيين. ولولا هذه العمليات الانتحارية لما استطاع الاسرائيليون ان ينفذوا هجوماتهم. ومن الطبيعي ايضا ان اسرائيل هي التي نقلت عدوى الإيدز الى عرفات».
«لا تحتاج الا ان تتصل بي لأعطيك مادة ممتعة لكتابك القادم. جــــملة نظريات حول المؤامرات والتآمر حيث كان الموساد هو القيّم عليها جميعا من هجوم 9/11 الى كل الكوارث الطبيعية والاوبئة العالمية وكل الحوادث الاخرى التي خلّفت الكثير من الموتى».
«إني اقدر لك عاليا دفاعك عن النظام السوري اليساري التقدمي والمنفتح والديموقراطي الذي يحترم حقوق الإنسان ويحترم الحرية. اما لبنان فهو كيان ديكتاتوري غير ديموقراطي وغير شرعي كما هي الحال في ألمانيا الاتحادية التي ارسلت المحقق ميليس ليكشف جريمة اغتيال الحريري. كما يتضح لي تماما ان لدى الاسرائيليين والاميركيين وهم اليمينيون المتطرفون والحاقدون المتعصبون، مصلحة خاصة في قتل الرأسمالي والحاقد بدوره، رفيق الحريري من اجل ان يضعوا النظام التقدمي في سورية تحت الضغط بلا اي معنى».
اذا استطاع هذا الكتاب ان يقود هذا القارئ او ذاك الى مقاربة موضوعية ليست احادية الجانب حول الاسباب المحتملة لاغتيال الحريري وخلفية هذه الاسباب فإنه يكون بذلك قد حقق هدفه.
برلين في آذار 2006
لا سلام في بيروت
نقل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري من الحياة الى الموت. وهذا ما جعل جمهرة من المعجبين تتحلق حوله، وإنما بعد موته لسوء الحظ. لم تفقد هذه الجمهرة صوابها بل حسمت امرها، وعظمت ذكراه، وقدمت للولايات المتحدة الاميركية، التي جاءت معزية، قداس الموت في «ثورة الارز» الاصلاحية.
في متاهات الاهوال
إنقاذ ملياردير ميت من مغامرة لا امل منها. كيف يعذب القناصون العصريون ضحاياهم.
مرة اخرى تتصاعد هبّات اللهب من الجثة العارية. قبل ذلك بدقيقة اطفأ المسعفون الذين اتوا مهرولين ثياب الجثة المشتعلة، وأخمدوا لنار بغطاء.
ولكن سرعان ما عاد الجانب اليساري للميت الى الاشتعال مرة اخرى وهو ملقى بشكل بشع على اسفلت الطريق. وفي اللحظة التي اتت فيها النار الملتهبة على الاضلاع، تقدم رجل ملتح بكل شجاعة واخذ يضرب الجسد الميت بسترته الجينز الزرقاء. وكانت الجثة تهتز على إيقاع ضربات سترته.
وقد لمع الخاتم الذهبي في يد الميت اليسرى لجزء من الثانية في ضوء النار.
استطاع هذا الرجل الملتحي ان يطفئ النار التي عادت للاشتعال ولكنها كانت مغامرة لا أمل منها. كان الدخان الابيض يتصاعد من الجثة ويلف خمسة من الرجال يحيطون بالجثة منذ دقائق في محاولة للإسعاف سحبوا الميت، وجروه من يديه ورجليه خارج الحريق. وقف أحد المسعفين، الذي كان يسحب الجثة من الساق، ونظر مذهولا الى راحة كف يد الميت اليمنى. كان هناك شيء ما يلتصق بها.
اياد رحيمة لفت اخيرا ما تبقى من هذه الجثة المشوهة بغطاء مقلم بالاحمر والاصفر والاخضر وعليه مربعات زرقاء ورمادية، وهو الغطاء الذي كان قد استخدم لاخماد النار. مات الرجل قبل دقائق قليلة بانفجار ضخم. تشوه وجهه لدرجة عدم معرفته وفوق تلك الكتلة المدمّاة التي كانت ذات يوم وجهه، كانت النار قد احرقت كل شعر رأسه، حتى الحواجب والاهداب لم يبق لها اي اثر. حتى ثيابه لم يبق منها شيء بالكاد، ربما حذاؤه وجواربه القاتمة، وبقايا قبة قميص كان لونه ابيض تحتها اجزاء من ربطة عنق تكومت على الرقبة، وكانت خرقة من كمّ سترته لا تزال مكوّمة حول كتفه اليمنى وابطه. لقد احترقت على جسده كل الثياب، التي كان يلبسها تقريبا، ادت الحرارة العالية اثناء الانفجار والحريق، الذي اشتعل بعد ذلك، الى تصلب الجثة، حيث كان تأثير الحرارة على العضلات القابضة والباسطة كبيرا ولكن بما ان العضلات القابضة هي الاقوى، فانها تعطي الجثة والمفاصل وضعها الاخير(1). وهذا ما يفسر وضع ساقي الجثة، التي كانت ملقاة على ظهرها على الاسفلت، اذ كانت الساقان مطويتين، وكـــذلك الذراعان وخاصة اليسرى منهما، مطوية وملتوية بعيدا عن الجثة. اما بشرة الميت فكانت اما ممزقة ومتدلية من الجسم او عليها بقع كبيرة من الكدمات الصفراء والطينية اللون.. وهذا دليل اكيد بالنسبة للطبيب الشرعي، على الزلال البشري المتخثر. وكانت البشرة ايضا سوداء رمادية، او متفحمة تماما في بعض المناطق على العضد والذراع والكتف اليسري. وسيقول الاختصاصي في هذه الحالة ان هناك تفحما وحروقا من الدرجة الرابعة. لقد وقع سيء الحظ، الذي نتكلم عنه في هذا الكتاب ضحية مؤامرة سياسية، خطط لها بشكل محكم ونفذت بكل دقة. ففي الساعة 56.26:12 من يوم الرابع عشر من شباط (فبراير) سنة 2005 انتقل هذا الرجل، عبر عملية في منتهى العنف من الحياة الى الموت، وكان ضحية مؤامرة الاغتيال هذه التي خطط لها، ونفذها اناس مجهولون، هذا الانسان الذي كان ملقى بعد احتراقه بين الركام، كان رئيس وزراء لبنان الاسبق رفيق الحريري.
تعرف على جثته بعد ذلك رهط من اقربائه وبعض السياسيين في مستشفى الجامعة الاميركية في بيروت، وتم فحص علامات الجسم الفارقة والاسنان باستخدام الصور الشعاعية لتأكيد هوية القتيل. وكتب الاطباء في تقريرهم ان سبب الموت اصابة في الدماغ مع توقف مفاجئ للقلب.
جحيم بيروت
اغتيال يكاد يكون في منتهى الكمال - مسرح الجريمة الكورنيش - شهود عيان يروون - ولدى سادلر، مراسل السي ان ان، بعض الاحساس والتصورات.
في صبيحة ذلك اليوم الرابع عشر من شباط (فبراير) يوم فالنتين، غادر السياسي رفيق الحريري في حوالي الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً مبنى البرلمان في قلب بيروت، وسار على قدميه حوالي سبعين مترا الى مقهى في ساحة النجمة. وهناك التقى مع بعض الاشخاص، وبقي معهم حوالي عشرين دقيقة، غادر على اثرها المقهى مع عضو البرلمان والوزير السابق باسل فليحان. سار الحريري بسرعة ومباشرة الى الموكب، المكون من ست سيارات: سيارة جيب في الامام، ثم سيارة القيادة، وفيها اربعة رجال من شرطة بيروت، تليها سيارة مرسيدس، سوداء، فيها ثلاثة رجال امن شخصيين، وفي السيارة الثالثة، وهي سيارة مرسيدس سوداء مصفحة، جلس الحريري وفليحان. تبعتهم بعد ذلك سيارتا مرسيدس سوداوان، وسيارة جيب سوداء (سيارة اسعاف) وفي كل واحدة منها ثلاثة حراس شخصيين، والجميع مزودون بمسدسات ومدربون بشكل جيد. وكانت ثلاث من سيارات المرسيدس مزودة باجهزة تشويش (4 ميغا هرتز) والتي كانت تعمل حتى آخر لحظة.
لم تعلم سيارة القيادة بخط المسير، الذي ستسلكه الا بعدما غادر الحريري ورفاقه المقهى. وجدير بالذكر ان الحريري لم يسلك هذا الطريق الا ست مرات في الاشهر الثلاثة الاخيرة. غادر الموكب ساحة النجمة بعد ذلك الى شارع الاحدب، وشارع فوش، قبل ان ينعطف على الطريق الساحلي الى عين المريسة وباتجاه فندق السان جورج (2). ان الطريق التي اختارها موكب سيارات الحريري للعودة من وسط المدينة، هي منطقة الاتصال مع القسم الغربي من المدينة، والمخرج، او المدخل محاط من كلا جانبيه بفنادق من ذات الاربع والخمس نجوم للسياح الاغنياء.
رفيق الحريري من فلاح الى ملياردير كان واسع الشعبية بسبب المساعدات التي قدمها
منذ اكثر من سنة والتحقيقات في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، التي اعتبرت جريمة العصر، تتواصل، بالرغم من صدور ثلاثة تقارير دولية حولها من قبل لجنة التحقيق الدولية، الا ان الغموض ما زال يكتنفها، في ظل تضارب المعلومات، والتباين في الحقائق، وظهور شهود جرى التشكيك بهم، وبعضهم اعترف انه ضلل التحقيق، والبعض اشار الى انه ادلى بافادات كاذبة.
وخلال عام، صدرت مجموعة من الكتب اضافة الى التقارير الصحافية والاعلامية، تتحدث عن الجريمة، وبعضها يسلط الضوء عليها، ويكشف حقائق جديدة، لم يأت على ذكرها التحقيق الدولي، او انه تجاهلها، واتجه نحو جهة معينة في الشبهة والاتهامات.
في الكتاب الذي صدر حديثا تحت عنوان «اغتيال الحريري - ادلة مخفية»، للمؤلف الالماني يورغن كاين كولبل، وهو باحث في علم الجنايات في جامعة هومبولت في برلين، يكشف عن وقائع لم يأخذ بها التحقيق، مثل جهاز التشويش في سيارات الرئيس الحريري، والذي توقف عن العمل قبل ساعة من الجريمة، حيث تبين من التحقيقات والاستقصاءات التي قام بها يورغن، ان شركة اسرائيلية تبيع مثل هذه الاجهزة.
ويقول مؤلف الكتاب انه يحاول ان يسد على اقل ثغرة بان نطرح احتمالات اخرى لتوجهات التحقيق التي اهملتها لجنة تحقيق الامم المتحدة بشكل جلي عندما ركزت كل عملها على اثبات التهمة على سورية كما يتمنون ويريدون. ومحاولتنا هذه تأتي على شكل تجميع ادلة ووقائع وحقائق نرغب من القارىء المهتم ان يقومها.
ويشير يورغن في مقدمة كتابه الى انه «لا يشعر بأن عليه واجب الوصول الى رأي نهائي او ان يصور الحقيقة الموضوعية. الا ان تحقيقاً كهذا في اغتيال الحريري هو في غاية التعقيد ويجب ان يأخذ بعين الاعتبار الى جانب «الاثر الذي يقود الى سورية»، الاحتمالات العديدة الاخرى والمذكورة في هذا الكتاب.
في يوم الاثنين الرابع عشر من شباط 2005 تم اختيار هذه الطريق للعودة من البرلمان، بعد اجتماع عقد هناك. وتمر هذه الطريق بين مطاعم باهظة الاسعار في قلب المدينة، يطلق على مركز مدينة بيروت اسم سوليدير، وهذا اسم شركة تملك المليارات، وتعود ملكيتها جزئيا للحريري.. تمتلك هذه الشركة مركز المدينة بكامله، بيوتا وشوارع ومراكز تموينية وخدمات امنية ومقاهي وفنادق ومكاتب وعمارات سكنية وارصفة وحدائق وكذلك بلدية بيروت، مع استثناء وحيد وهو فندق السان جورج، الذي رفض مالكه التنازل عنه، ويؤيد حملة ضد سوليدير، (3).
في تمام الساعة 26:56:12 بتوقيت بيروت المحلي، كان الموكب امام فندق السان جورج، حينما هز انفجار هائل، سمع من بعيد في الجبال الشرقي المدينة، الكورنيش وساحل بيروت بكامله على البحر المتوسط.
لقد وضع مجرمون مجهولون، امام فندق السان جورج، وفندق فينيسيا انتركونتيننتال، ووسط منطقة تجارية ملأى بالمصارف والفنادق، قنبلة، ذات قدرة تفجيرية تبلغ الطن الواحد من ال ت. ن. ت، وفجروها لحظة مرور الموكب، ويبدو ان هؤلاء المجرمين المخادعين ارادوا ان يضمنوا تماما عدم خروج الحريري حيا من هذا الجحيم، وتكفي عادة مئتا غرام من هذه المادة الجهنمية لقتل انسان واحد (4)، وللمقارنة: فان قوة تفجير القنبلة الذرية، التي اسقطت على هيروشيما تعادل عشرين الف طن من الـ ت. ن. ت وقد قتلت مباشرة ثمانين الف شخص، والحقت اضرارا جسدية بما يزيد عن مئتي الف (5).
وهكذا لم يكن من المستغرب ان عدة سيارات من هذا الموكب الامني انفجرت، واحترقت جراء هذه الكمية الكبيرة من المتفجرات، بالرغم من تصفيحها القوي. قتل مع الحريري سبعة من حراسه الشخصيين واثنا عشر من المدنيين المارة، اما فليحان فقد عاش بعد ذلك 64 يوما، قبل ان يموت جراء الحروق الشديدة، التي اصيب بها، في مستشفى في باريس، كما اصيب حوالى 220 شخصا اصابات مختلفة، كان بعضها شديدا. وخلف هذا الانفجار الهائل حفرة في الشارع، زاد عمقها عن خمسة امتار، واكتسى محيط مكان الجريمة بغطاء من الغبار والرماد. كذلك سجل تحطم زجاج النوافذ على بعد 1600 متر، وغطت بيروت غمامة دخانية سوداء كثيفة، هذا المكان الذي اخترع فيه الفنيقيون الدراهم ذات يوم في غابر الزمن.
وصل روبرت فيسك، مراسل صحيفة الاندبندنت اللندنية، المقيم والعامل بالقرب من مكان الانفجار قبل خمس عشرة دقيقة من وصول الجيش الى المكان، ورأى هذا الهول، ووصف انطباعاته لمحطة سي ان ان الاميركية: «انه منظر مذبحة كبرى. رأيت بعض الاجسام تحترق في السيارات. نزلت في الحفرة، التي لا يقل عمقها عن خمسة عشر قدما. لقد كان انفجارا هائلا ومروعا. احترقت على الاقل اثنتا وعشرون سيارة، حتى ان واحدة منها قذفت نتيجة شدة الانفجار الى الطابق الثالث من بناء فندق مجاور، لم يفتتح بعد... تدفقت المياه من الانابيب المتفجرة في الشوارع، وعندما اتى رجال الاطفاء كان عليهم ان يسحبوا خراطيمهم بين الجثث ليخمدوا النيران المتأججة. وحينما وصلنا الى هناك كانت خزانات وقود السيارات لا تزال تنفجر، وتنفث النار في الشوارع. كان من الصعب معرفة عدد القتلى.. كانت هناك بلا شك كمية كبيرة من الاشلاء، ولكن كان هناك خمس جثث تحترق، امكن التعرف عليها كأجساد بشرية.. كان الناس يأكلون في المطاعم المجاورة، وتلطخ العديد منهم بالدماء، بعد ان جرحتهم شظايا الزجاج المتناثر. وكثيرون آخرون لا يزالون تحت وطأة الصدمة (6).
اما الاميركي برنت سادلر، الذي يعمل كمراسل لـ سي. ان. ان، وصادف وجوده قرب هذا المشهد لحظة الانفجار، فقد ارسل الى المحطة التقرير المباشر التالي: «لم ار في بيروت منذ الايام السوداء للحرب الاهلية، حادثة بهذا الحجم، كان الوقت بعيد الظهر بقليل، وكانت تلك هي الطريق، التي اسلكها كل يوم الى المكتب في وسط المدينة ذهابا وايابا. وهذا هو ارقى حي في بيروت.. لا نعلم حتى الان سبب هذا الانفجار، ولكنه انفجار هائل وقوي جدا. سمعت وعايشت في حياتي انفجارات كثيرة، وهذا الانفجار من اقواها، وما اراه الان من الاثار الجانبية هو الاضرار التي لحقت بفندق كونتيننتال.. اتكلم الان هنا من بهو الفنق والزجاج متناثر من حولي، والجدران متهدمة، والغبار يغطي كل شيء، اخلي الفندق، وخرج الجميع حتى الموظفين الى الشارع، وهناك المئات، ان لم نقل الآلاف، من اللبنانيين يجرون في كل الاتجاهات (7)
من كان رفيق الحريري؟ من ابن فلاح الى ملياردير. وسيط في الحرب.
كان رفيق الحريري رجل لبنان الغني، وحسب تقويم فوربس فقد كان بملياراته الاربعة من الدولارات الاميركية، بين أغنى مئة شخصية في العالم، فهو إذن لم يكن ضحية نكرة. وبما أن وضعا كهذا لا يمكن ان يكون عادة دون خلفيات إجرامية، أو دون خطط جنائية أو لا إنسانية على الاقل، فإنه من المفيد ان نلقي نظرة على ماضي الحريري، أحد أكبر ارستقراطيي المال، وعلى حياته وأعماله وخطاياه، وربما أسراره، إذ إن رجلا كهذا له أعداء ولا شك.
لم يكن الحريري من النخبة التقليدية، بل بنى امبراطوريته المالية من العدم، كما يقال. ونمو شركته سوليدير للبناء وحده يصور الدور الكبير للحريري في اقتصاد لبنان. فبهذه الشركة عمّر وسط بيروت بعد الحرب الاهلية، وحول فوضى المدينة المهدمة والمدمرة نتيجة القنابل والرصاص، الى عالم ساطع بالمصارف والمراكز السياحية، وكان بالطبع ايضا مساهما كبيرا في ملكية كل الشركات الجديدة المزدهرة، التي أسست هناك. شجع أصدقاءه الاغنياء في الخارج على الاستثمار في مدينة بيروت، بينما كان يحرص على ان يقدم نفسه عندما يزورهم في بلادهم تحت اسم (السيد لبنان).
ولد رفيق بهاء الدين الحريري في الاول من تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1944 في مدينة صيدا السياحية اللبنانية الجنوبية. كان والداه يعيشان مع أولادهما الثلاثة رفيق وشفيق وبهية حياة متواضعة، وكان الاب، وهو المسلم السني، يكسب قوته كفلاح وتاجر خضار. أتم الفتى رفيق دراسته الابتدائية والثانوية في صيدا، وابتدأ عام 1965 بدراسة المحاسبة في الجامعة العربية في بيروت، حيث كان عضوا نشيطا في حركة القوميين العرب، التي كانت من الحركات التي انبثقت عنها حركة التحرير الفلسطينية. ويروى ان الحريري كان يقوم أحيانا بدور المفاخر والمتباهي في عمليات جمع التبرع.
ترك الدراسة الجامعية في نفس العام، الذي ابتدأها فيه، لأنه لم يستطع دفع نفقاتها، كما قيل. وقرر الشاب، ذو الثمانية عشر عاما، الذهاب الى السعودية ليبحث عن حياة أفضل. عمل في البداية مدرسا للرياضيات في جدة، وبعد ذلك كمحاسب في شركة هندسية، وفي سنة 1969 استطاع الوقوف على قدميه، وأسس شركة توريد، أسماها سيكونست. وخلال فترة الازدهار الاقتصادي والنفطي في أعوام السبيعنيات من القرن الماضي، تطورت شركته الى مؤسسة كبيرة، وأخذت عروض البناء الخاصة وكذلك الحكومية تنهال على الحريري من كل حدب وصوب لبناء أبنية للمكاتب ومستشفيات وفنادق وقصور.
واستطاع المستثمر الحريري، بفضل مميزاته كما يقال «كالعمل بجد واجتهاد والصبر وطول الاناة والتعامل الاخلاقي» أن يخترق كل الحواجز سنة 1977: أصبح «يكسب ذهبا» بعد أن قبل التحدي، واستطاع ان يبني خلال ستة أشهر فقط قصرا في مدينة الطائف السعودية ليكون مقرا لقمة إسلامية لاحقة بناء على رغبة من الملك السعودي السابق خالد. كانت غالبية السعوديين متأكدة من أنه سيفشل، في ذلك ولم يثقوا بقدرته الا مثل ثقتهم بثبات رمل الصحراء ضد الريح. ولكن هذا الرجل الطموح استطاع أن ينهي هذا القصر، الذي اخذ اسم فندق المسرة في الطائف، في هذا الوقت القصير.
لم يكسب الحريري معركة البناء تلك فقط، وإنما ربح أيضا ثقة ولي العهد آنذاك الأمير فهد، ومنح مكافأة له على هذا الانجاز الجنسية السعودية سنة 1978. وسرعان ما اصبح الحريري المقاول الرئيس في السعودية واشترى سنة 1979 شركة البناء الفرنسية العملاقة اوجيه واسس شركة اوجيه الدولية ومركزها في باريس. وهكذا اصبح على رأس اكبر امبراطورية للبناء في العالم العربي ودخل في اوائل اعوام الثمانينات نادي اغنى مئة رجل في العالم ووسع امبراطوريته التجارية بإنشاء شبكة من المصارف في لبنان والسعودية وشركات تأمين وشركات صناعية وما شابه. والى ذلك، وفي هذه الظروف الملائمة تزوج السيدة نازك عودة الحريري، وانجب منها خمسة اطفال.
ابتدأت سنة 1975 في لبنان حرب اهلية طويلة كان ثمنها ارواح ما يزيد على مئة ألف شخص وانتهت باحتلال القوات الاسرائيلية للبنان. خلال هذه الحرب بذل الحريري اموالا طائلة في مشاريع انسانية لمساعدة اللبنانيين المرتعشين من قساوة الظروف. كما أسس في مسقط رأسه في صيدا سنة 1979 المعهد الإسلامي للدراسات العليا. وفي العام نفسه انشأ ايضا مؤسسة الحريري للثقافة والتعليم العالي التي تولت دفع الرسوم والنفقات لدراسة الآلاف من الطلاب اللبنانيين في جامعات لبنان واوروبا والولايات المتحدة الاميركية. كما اسس الحريري سنة 1983 مستشفى ومدرسة وجامعة، بالإضافة الى مركز رياضي كبير في لبنان. وكانت ارتال من السيارات الشاحنة والعمال يجوبون الشوارع حاملين شعار شركة الحريري اوجيه لبنان لينظفوها مجانا من الركام كلما كانت هناك هدنة مؤقتة في هذه الحرب الاهلية الطويلة وهذا ما جعله بالطبع واسع الشعبية.
عمل الحريري في أعوام الثمانينات كمبعوث شخصي للملك السعودي فهد في لبنان وساعد بوساطات اقترحها السعوديون لتنتهي الحرب الاهلية، بعد ذلك في إطار مؤتمر للحوار الوطني، عقد اولا في تشرين الثاني 1983 في جنيف، ثم مرة اخرى في العام التالي في لوزان. لكن مؤسسات الحريري للبناء والإعمار مدت اصابعها الى سورية وأهدى الرئيس السوري قصرا بناه له في دمشق.
قام الحريري خاصة في الربع الاخير من فترة الحرب الاهلية بوساطات متعددة بين دمشق وزعماء الميليشيات في لبنان. وهكذا بذل سنة 1986 كل ما في وسعه من اجل عودة الياس حبيقة قائد القوات اللبنانية الى لبنان. وقد عقد حبيقة مع نبيه بري قائد الميليشيا الشيعية «امل» ومع وليد جنبلاط قائد ميليشيا الحزب التقدمي الاشتراكي، «اتفاقا ثلاثيا» اعلن عن انتهاء الحرب الاهلية واعترف بالوجود السوري في لبنان. اما الرئيس امين الجميّل، وهو ايضا من القوات اللبنانية، فقد هاجم القوات «الانفصالية» في قتال دام ولم يستطع حبيقة ان يفر الى باريس الا بمنتهى الصعوبة. ولكن الحريري استطاع ان يتدبر امر عودته، فاستلم حبيقة قيادة القسم «المؤيد لسورية» من القوات اللبنانية.
في آب سنة 1987وفي محاولة منه للخروج من المأزق السياسي الذي وصلت إليه المفاوضات بين اطراف الحرب والسوريين والقوات اللبنانية تحت قيادة الرئيس الجميّل عرض الحريري على الرئيس ان يتنازل عن الرئاسة، قبل انتهاء مدة ولايته بستة اشهر، وفي الوقت نفسه عرض على السوريين ان يوافقوا على تنصيب جوني عبدو رئيس جهاز الاستخبارات اللبنانية آنذاك، رئيسا للوزراء. لكن الجميّل في نهاية عام 1988 وقبل خمس عشرة دقيقة من انتهاء ولايته الرسمية، سمّى القائد العام للجيش آنذاك الجنرال ميشيل عون رئيسا لحكومة عسكرية تتولى مقاليد الحكم حتى يتم انتخاب رئيس جد يد نظامي للدولة. وهنا حاول عون، ولكن عبثا، ان يخرج السوريين من لبنان بقوة السلاح. ثم دعا الحريري الذي نصّب نفسه وسيطا بين الاطراف المتنازعة، سنة 1989 الى مؤتمر في مدينة الطائف السعودية حيث استطاع ان يدفعهم الى عقد اتفاقية سلام، واستطاع ان يقنعهم انه يجب ان يتولى السوريون مهمة الاشراف شكلا على لبنان.
وكما خرج ذلك الجني من القمقم المغلق في احدى حكايات الف ليلة وليلة، كذلك اخرج رجل الاعمال الحريري من جيبه بقدرة قادر وبعد صفقة الطائف، مخططا لاعادة اعمار مدينة بيروت المهدمة. ولكنه اضطر ان يصبر حتى سنة 1992، حين شاركت اخته بهية في الانتخابات، واستطاعت ان تكسب لنفسها مقعدا في البرلمان، واستطاعت بعد ذلك ان تزيل الغشاوة التي علقت في ذاكرة الرئيس الهراوي آنذاك حول اخيها السعودي الملياردير. وهكذا سمى الهراوي هذا السعودي نهاية عام 1992 رئيسا لوزراء لبنان، ولم يكن منه الا ان بذل فورا مبلغ اثني عشر مليون دولار لضحايا الحرب الاهلية ولازالة الركام من شوارع بيروت بكل كرم وطيب خاطر، من جيبه الخاص. كذلك اهدى الرئيس الهراوي بيتا رائعا، وشكر له الرئيس ذلك بالموافقة على قروض حكومية، ومرّر في البرلمان قانونا يقضي بضمان استملاك العقارات لصالح شركات الحريري من اجل اعادة الاعمار. وفي صيف عام 1992 اصبح الحريري رئيسا لهيئة التخطيط لاعادة اعمار العاصمة بيروت، والتي اصبح الكثير من اللبنانيين يسمونها «حريري غراد».
وبالرغم من كل شيء رحبت غالبية اللبنانيين بحماسة كبيرة بتسمية الحريري رئيسا للوزراء فهو الذي وعد ان يجعل من لبنان سنغافورة الشرق الاوسط، وان يجتذب الى هذا البلد رؤوس الاموال الاجنبية واللبنانية المغتربة. ولكن سرعان ما تبين ان خطته لاعادة الاعمار والمسماة «افق 2000» قد اختصرت في اعادة اعمار بيروت بالكامل على حساب الدولة. الى ذلك تولى شركاؤه من رجال الاعمال مناصب رفيعة في حكومته الجديدة. فمنهم فؤاد السنيورة رئيس الوزراء الحالي في لبنان، والذي كان المسؤول المالي الاعلى في امبراطورية الحريري التجارية واصبح فجأة وزيرا للمالية في حكومته، الى جانب بهيج طبارة، الذي كان احد المحامين في شركاته، واصبح وزيرا للدولة، وفريد مكاري، الذي كان نائبا لرئيس مجلس ادارة اوجيه السعودية، واصبح وزير الاعلام الجديد. وفي ربيع 1993 رفع صديقه رياض سلامه، واجلسه على كرسي حاكمية المصرف المركزي، ليراقب مالية الدولة. ثم بدأ الحريري بشركة البناء التي يملكها، سوليدير، باعادة اعمار العاصمة، التي وضع فيها ايضا من امواله الخاصة. وقد قامت هذه الشركة المسماة سوليدير، وهو الاسم المختصر لتسمية شركة التنمية والاعمار باللغة الفرنسية، باستملاك معظم الملكيات في وسط بيروت التجارية، وصرفت المالكين الاساسيين بمبالغ تعويض زهيدة.
ولم ينس الحريري ان يسعى الى مساعدة دمشق، فدخول العاصمة بشركته الانشائية ليس ممكنا دون موافقة السوريين اما اعداؤه فقالوا: على اية حال فان الكثيرين يعتبرون ان رئيس الوزراء قد باع البلد للسوريين وخرب الاقتصاد (10) وصل الاقتصاد اللبناني سنة 1998 الى حافة الانهيار، حيث بدأ السوريون بتحميل الحريري مسؤولية ذلك. وقد ارتفعت ديون لبنان الخارجية لان المال كان ينساب من بين يدي الحريري بسهولة ولان الفساد كان منتشرا في الحكومة بلا اية ضوابط، الى ما يربو على 18.3 مليار دولار. اما النمو الاقتصادي فقد انخفض 8% سنة 1994 الى ما دون 2% سنة 1998.
بقي الحريري رئيسا للوزراء حتى عام 1998 ثم عاد ليتسلم رئاسة الحكومة مرة اخرى من عام 2000 الى 2004 وفي نهاية الفترتين عزز سطوته في السياسة والاقتصاد في لبنان بشكل مستمر. وباختصار يمكن القول انه اذا كان هناك قسم من اللبنانيين يعتبرونه مواطنا صالحا، او رجلا غنيا يفيد الناس بماله او مهندسا للبنان الجديد، ومنقذا للاقتصاد المتهافت، فان آخرين يصفونه بزيادة ثروته الشخصية ويحملونه مسؤولية التسارع في زيادة ديون الدولة او سياسة الضرائب الجائرة والانهيار الاقتصادي للبلد. الحقيقة ان الحريري ادار الحكومة في لبنان والبلد باسره وبنى لنفسه امبراطورية خاصة عن طريق شركاته الانشائية سوليدير/واوجيه السعودية واوجيه لبنان، واشترى مصارف ومزارع وعمل في مجال النفط والصناعات المختلفة وشركات الاتصالات وكان المالك الوحيد لمحطة تلفزيون المستقبل ولمحطة اذاعة الشرق وراديو الشرق من باريس. كما كان يملك صحفا يومية ومجلات اسبوعية قوية النفوذ (فكان يمتلك جريدة المستقبل و38% من النهار اكبر جريدة يومية لبنانية وكذلك نسبة ولو كانت قليلة، من جريدة فرانكفورتر الغماينه تسايتونغ). كما انتقده جهاز الرقابة المالية سنة 1998 وقال رئيس الجمهورية لحود: ان الحريري يهمل الفقراء بينما يمنح في الوقت نفسه كرئيس للوزراء اعفاء من الضريبة لمدة عشر سنوات لشركته الانشائية، التي تحتكر اعمال البناء في بيروت والتي تدر المبالغ الطائلة. استقال الحريري آنذاك مستاء ولكنه عاد سنة 2000 ليتولى رئاسة الوزراء مرة اخرى الى جانب رئيس الدولة لحود عدوه القديم.
لكن اعداء الحريري كانوا يعرفون ايضا: ان دمشق بحاجة الى ازدهار اقتصادي لبناني حتى تستطيع ان تلتقط انفاسها في اقتصادها المتدهور. وباختصار فان الحريري، وبالرغم من المصاعب التي وضعها في طريق السوريين، كان له تأثير ايجابي على السوريين اكثر من اي زعيم آخر سابق في لبنان (11). اما النقيض فكان سيعني انه لو كان غير الحريري رئيسا للوزراء لانهار اقتصاد البلدين سوية، ولكان ذلك قد ادى الى انفصالهما وهذا ولا شك، كان هدفا تحلم به المعارضة.