أكتافيو باث
تمرين اختباري
الإحساس بالموت هو إحساس بالحرية ، و من تعلم كيف يموت ينسى كيف ينسى أن
يكون عبدا ميشيل مونتيت
تغدو الساعاتُ جوفاء،
يُضْنينِي الكتابُ فأغلق دفّتيه.
أحَدّق بعيني دُونَما رؤية الأشياء .
فتَتلصّصُ علي أفكاري.
أفكر في كوني أفكر،
وهناك شخص في الجانب الآخر،
يفتح بابا...
ربما هناك في الخارج،
لا وجود لهذا الجانب الآخر.
هناك فقط وقعُ خُطى في الرّدهة،
خطوات لم يخطوها أحد.
هي الريح تَتسَكّع وحيدَة ،
تبحث لنفسها عن طريق .
أنَحْنُ في الأغوار أم في الخارج؟
هذا ما لا يمكن أن نجزم فيه أبدا.
أما أنا فإني أبحث أيضا،
لكن ليس عن طريقٍ ،
بل عن ملامح خطوات
اقتادَتني مُنذ عقود،
نحو هذه اللحظة بلا اسم ولا سمات،
بلا ملامح و لا اسم .
هي ساعة لا يسكنها البشر،
تَجاهُل الأشياء فيها عَسير،
و الاستغناءُ عنها أعسر.
هنا الواقع يفرض نفسه بإصرار،
يطفو فوق الساعة الجوفاء
بشساعته و متانته و مادّيته.
على شفى هُوة ،
اتخذ الواقع لنفسه مكانا أبديا.
أظن أني لست أفكر
تتملكني الحيرة ،
اسمع خطى الريح في الرّدهة،
ريح بلا وجه و لا اسم ،
بلا اسم ولا ملامح ،
دونما إنذار تأتي ،
وُصُولها يدوم الدّهر كله ،
ريح تَضمحِل و هي على وشك الوصول .
هنا تماما أو هنالك،
دائما و أبدا ،
تواجد بلا أثر،
غلو في التواجد.
الريح سيدة تُتقن كتمان الحقائق ،
تُفصح عن كل شيء في صمتها ،
سيدة بلا اسم و لا مُحَيىّ ،
بلا لقب ولا ملامح .
شاخصة هي عيني
دونما رؤية شيء ،
أفكر فأتجوف من الأغوار.
في مثل هذه الساعة،
قُلت ذات مساء:
أن يموت المرء بغثة على فراشه
هو أمر سخيف
أنا نادم الآن أشد الندم،
لا أريد أن يباغتني الموتُ.
أريد أن أرحل و أنا على علم بقضاء نَحبي .
هذا الجيل مرصودٌ ،
في الذهن فكرة يُحَوّطُها اللهبُ،
في الذهن إيماءات و وخزات،
نَقتاتُ من نفس طبقِ الدم طول العمر.
و في كل الزّوايا ،
بلا وجه ولا لقب،
يتربص بنا الموت .
بلا لقبٍ ولا سماتٍ ،
ذلك الموت الذي أرغبه،
يُجرّدني من اسمي ،
يَلبَس قناعا يُشبه وجهي .
هو مرآتي و ظلي ،
دَويُّ بحر ينْطقُ باسمي .
هو الأذُن تُنصِت حينما أصمت ،
سور يسُد الطريق في وجهي .
هو البيتُ الذي يُفتح بغثة ،
أبتدعُه و يبتدعُني .
و رويدا رويدا دونما وعيٍ ،
أنحثه مثلما تنحتهُ الرّيح ،
لكني لا ألمسه ولا يُكلمني ،
فأنا لا زلت على عهدي جاهلا،
لست أتْقِنُ النظر في وجه الموتى ،
لست أتْقِنُ النظر في وجهي.
ديمومة
بعَينينِ شاخصتين و لسانٍ مبتور ،
عندليبٌ فوق السّور.
ريشه من دم و عيناه من أسى،
عندليب فوق السور.
ريشٌ من دم و شَدْوٌ لا يبلغ المدى ،
عندليبٌ فوق السور.
ماءٌ مغرمٌ يتدفّق ،
ماءٌ له أجنحة ،
والليلُ يُطِلّ من فوق السور.
هنالك، في عتمة الصخور ،
خريرُ مياهٍ مغرمةٍ بلون البياض .
العندليب فوق السور
يُغنّي و يشْدو بلسانه المبتور.
هناك دماء فوق الصخر،
و العندليب لا زال فوق السور.
السؤال
كائنَ منْ كنتَ...
إلهاً أو ملاكاً أو شيطاناً ،
إليكَ عنّي !
دَعيني وحيدا أيتها الشِّرذمَة الملائكيّة !
كِلينِي لنفسي و لآنِايِ المتعددة !
أنا في خلوة أنَاجي شخصاً يُشبهني ،
قَرينٌ لي لا يتعرّف عليّ ،
لكنه يُفشي كل أسراري ،
يُجافيني بمضضِ العناقِ .
- يُقال أنه من صُلبي-
أنا مع قرين يسْتلبُ مني جسدي،
هو الآخر الذي يكرهني
لكوني أنا ذاته.
عذرا أيها الهارب،
عفوا أخي الذي أمقته ،
أنت الذي تُسَعرُ اللظى على الأرض،
و أنتَ يا صاحب الجُزر
و صاحب الأصوات الهاتفة
تأمل نفسك في المرآة و أخبرني :
هذا الذي يُهرول هاربا،
هذا الذي يحمل شُهبا و قناديل ،
لَيُنادي السماوات فيُضرم النار في امتداداتها،
هذا الذي يشبه القنبلة المدوية ،
أأنت كلّ هؤلاء ؟؟
كائن من ساعات و دقائق نهمة ؟
من يعرف أسرار الجسد ؟
من يمكنه ادعاء معرفة الروح ؟
أو في إي برزخ يلتقيان ؟
كيف يستنير الجسد ؟
كيف تتغلغل حلكة الظلمة في الرّوح
و تعانق الجسد حتى الاضمحلال ؟
كيف يغدو الجسد و الروح وحدةً من ظلمة سَحمَاء؟
أنحن على هذه الصورة ،
نحلم بها خلسة من وراء الزمن؟
أحلام من زمن بها نَسْخرُ من الزمن؟
وحيدا أتسائل ،
وحيدا أسأل وحدتي .
أهْرشُ فمي المهْووسَ بالكلمات،
أفقأ عينيّ المتورّمتين بالزّيف ،
أرمي بعيدا ما كَدّسهُ الزّمن بداخلي ،
تفاهاتٌ تُبهرُ الأبصار،
موجةٌ تعود من حيث أتَت.
أنا آتٍ من سماء لا غيم فيها ،
مَعدنُ إشراقةٍ هادئة و منبهرة.
أتسائل من وراء عُريي :
أمحو كلّ شيءٍ ،
أغدو رمزا مبهماً،
أطفو فوق الماء ،
لست سوى مرآة داخل مرآة .
السر
للهواء توَهّجُه،
لِسَاعَةِ الظُهْر توَهّجُها،
لكنّي لست أرى نورَ الشمسِ .
تواجدٌ إثرَ تواجدٍ،
كل شيء يغدو في ناظري شفّافاً،
لكنّي لست أرى نورَ الشمسِ .
هائمٌ في شفافية الأشياء،
تَلفَظني انعكاساتٌ إلى ومضاتٍ،
لكنّي لست أرى نورَ الشمسِ ..
أمّا هو فيتعَرّى في النّور،
يسألُ كلّ لمعانٍ،
لكنّه ليس يرى نورَ الشّمس.
علامة تعجب
هو الطائر الطنان،
في الأعالي،
تستهويه الهدأة ؛
لكن ليس على الغصن ،
ولا في الهواء ،
يل في قلب اللحظة.
النجمة
هاهنا أهْدَتِ الآلهة قبس النّار للقدامى .
و هاهنا في ساعة الظهر،
خُلق الكون من شُهبٍ و لظى .
تفتّحتِ الأحجارُ كما الفواكه .
فتَح الماء عيونه.
و على جلد النّار اندَلقَ النّور،
قطرة هائلة هي مرآة
تعكس وجه الزّمن،
فيها ينْضحُ الزّمن غليله.
و بالطريقة الاسبانيّة يدْلف النّهارُ ،
لأقدامه صدى تهتزّ له المسامعُ .
و حفيف طيور تمضي مُحلّقة ...
شعور يخالج القلب
مثل شعور الأنوثة أو البحر.
للنّهار جَلجَلة صاخبة،
تدوي في جبيني كفكرة.
وفي رحابة الكون بِإسره،
يدوي النّهار بكل إصرار.
يُجَلل النّورُ كلّ المتسعاتِ،
يشدو في الشرفات،
فتهتزّ البيوت راقصة لنغماته.
وتحت اللبلابِ الرطب بأيديه الباردة،
يصحو السور فيرفعُ أبراجه.
تَرمي الأحجارُ كِسوَتَها،
تتعرّى المياهُ و تقفزَ من أسرّتها.
و النّور يغدو أكثر عُرْياً ،
يتأملُ نفسه في الماء،
عُريُه أفْضحُ من عُرْيِ الكواكب.
يُشَقُ رغيفُ الخبز و تُشْرَبُُ الأقداحُ ،
وينتهي النهارُ على مياه مستلقية.
النظر و السمع و اللمس و الشم و الذوق،
كل الحواس و الفكر،
هي شفاه و ريح تَكِرّ بين أشرعة السفن.
يَنفلتُ طعم النّهار كما الموسيقى ؛
حفيفُ ضوءٍ يمضي و في يده فتاة ؛
يتركها عاريّة ساعة الظهر.
لا أحد يعرف لها اسما،
و لا من يعرف لها وطنا،
كحفنة ماء تستقر بين أضلعي،
تتوقف الشمس قليلا لرؤيتها،
فتتيه أشعتها بين فخذَي الفتاة.
تُحَوطُها نظراتي كما الماء،
هي فتاة أكثر عُرْياً من الماء ،
تَستحمّ في عينيّ ،
هي كالنور ليس لها اسم،
و كما النور تُغَير شكلها بمُرور الساعات .
الشارع
شارع طويل يسكنُه الليل .
أمْشي في عَتمَتِه ،
أتعثر و أسقط ،
أقوم و أخطو بخطواتٍ لا تَرى.
الأحجارُ صمّاءُ ُُ و الأوراق قد جفّت،
و هناك أحد في الخلف يَدهسُها.
إن أنا توقفتُ توقف في مكانه.
و إنْ أنا هَرولتُ،
سَمعتُ صدى هرولتِه تَقْتفي أثري .
أنْظر خَلفي فلا أرى أحداً،
الكونُ من حولي في ظلام دامِس،
و الفضاءُ حَلقة مفرغة.
أعْرج من مُنعطفٍ إلى منعطفٍ ،
كلّ الزوايا تنفذ للشارع نفسه
حيْث لا أحد في انتظاري،
حيْث أقْتَفي خُطى رجل أمامي،
يَتعثرُ و يسقطُ في الظلام،
يقومُ و ينظرُ خلفه ولا يراني
فأسمعُه يهتف: ما من أحد هناك
الكتابة
أرسمُ هذه الحروف
كما يرسم النّهار أيقُونَاته،
و يَنفخُ في القِدْر المَكسور.
تبسطُ العينُ في الباطن طيّاتها.
كون بدوخَة الدُوران و اللظى
يولدُ تحتَ جبيني الغارقة في الحلم،
شُموسُ ُ زرقاء في المَدى،
دواماتُ ُ خضراء،
مناقيرُُ ُ من نار،
تَبسط كوكَبها كما فاكهة الرّمان.
وعبّادُ الشّمس في وَحدَته عينُ ُ ذهبيّةُ ُ ،
تَسْبحُ في فلك هو بطْحاءُ ُ من جبر،
غاباتُ ُ من زجاج صَوتي،
أشجارُها صدى و إجاباتُ ُ و أمواجُ ُ
و حواراتُ ُ شفّافة،
ريح و مياهُ ُ راكضة بين الجدران،
جدران اللامُنتَهى في حلق كهْرمَان أسْود،
حصانُ ُ و طائرةُ ُ من ورق،
و صاروخُ ُ مغروسُ ُ في قلب الليل،
ريشاتُ ُ و فوّاراتُُ،
ريشاتُ ُ و فوانيسُ ُ تتفتّح،
شُموعُُ ُ و أجنحةُ ُ
و اجتياحُ البياض،
طيور الجزر تشدو
تحت جبين الحالمين.
فتحتُ عينيّ مُحدقا في الأفق،
تبدّتْ لي السَماءُ موشحةً بنُجومِها.
جُزُرَ تَضُجّ بالحياة
غدَتْ سِواراً من جُزُر مُلتَهِبة،
رَدى يَحترقُ و يَتنفّس،
عناقيدُ ُ من حجر حيّ ،
يا له من ينبوع و وجلاء !
شَعر مُنساب على ظهر داكن،
كَنهْر سَريع الخُطى بين أسَاحِله !
وهذي الزّمْجرة القادمة من بعيد،
وَغَى نَشِيشُ مياهٍ تَلتحِمُ بالنّار،
تَمتزجُ بالنّور و تصرخُ في وجه العتْمَةِ .
وحيدا بلا رفقة .
وحْدَهُ السّهل : شَجَرُ الصبّار
تَذرُوه وطأة الشّمس
وصخورُ ُ شامخة تغْدو هَشِيماً .
هُنا الجُدجُدُ ليس لهُ شدوُ ُ ،
و هناك عَبقُ ُ لست أدْركُ كُنهه،
بنكهَةِ الجِبر و الجُذور المَحروقة.
الشوارع غدَت جداول جَرداء،
و إن سأل أحدُهم عن الحياة،
تبدّدتِ الرّيح إلى أشلاء.
رابياتُ ُ مَبتورةُ العُشب و بركانُ ُ غاف،
حجرُ ُ و لهَثُ ُ تحت إشراقة كثيفة،
قحطُ ُ و نكهةُ التراب،
حفيف خطى حافيّة فوق التّراب،
و شجرةُ البيرو في قلب السّهل
كفوارة متحجرة
فلتنطق أيها القحط !
و لتتكلمي أيتها الأرض !
ارضُ عِظام مَسحوقة
أجِبني أيها القمرُ المُحْتضر !
ألا يوجد هنالك ماء ؟
أليس هناك شيء آخر غير الدّم والتراب
ووطأة خُطى عارية فوق الأشواك ؟
أما مِن صهيلٍ للخيول
في ضفة النّهر و بين صخوره العِجاف
صخورُُ ُ دائريّة و بارقات
في الماء الرّاكضِ و تحت النور الأخضر
نورُ الأوراق و صراخُ الرّجال و النّساء
حين يَدْْرجون نَحو الفجر؟
إله الذّرة و إله الوَرد ،
إله الماء و إله الدّم،
و مريم العذراء...
قَضَوا نَحَبهُم فغدوا أقدارا مكسورةً ،
مَرمِيةً في قَارعَة اليَنابيع المُجَللة.
وحْدَه الضِفدع البرّي يحيى
في اكْفِهرَار ليالي ( المكسيك ) .
وحده الضِفدع الأخضر يتلألأ و يُضيء.
أوحدَه الحَاكم المُستبد يبقى حيّا لا يموت؟
يتمدّد في ظل شجرة اليَشْم الإلهية،
شجرةُ ُ ارْتَوَتْ بالدّم،
وعَبدان غُلامان يُهويَانِه بالمَراوح ،
ويوم الموكب العظيم
يتّكأ على صليبه أمام الملإ ،
حاملا سلاحه و صَولجانه،
بلباسه العسكري و مُحيا ( السّيليكون) المنحوت
يَستنشق دخان بنادق الإعدام،
كما يُسْتنشق البخور،
و في آخر كلّ أسبوع،
يقبع في بيته المُصَفح بالدّروع،
قُبالة البحر و بجانبه دِِثاره
المُرصّع بجواهر (النيون) .
أوحده ضِفدع البحر له البقاءُ ؟
حَنقُ ُ بلون الربيع ،
و في الذيل خناجر و شظايا زجاج .
إنّه الكلب و نباحه الأجرب ،
إنّه النبَات الأخرس ينمو في عُزلته ،
هو الصّبار و الشمعدان الشائكين .
هاهي ذي الوردة تُدمي الأيادي و تنزف دمها،
هي الوردة بشكلها الهندسي و بحتميّتها لا تنحني،
مثل أداة ناعمة للتعذيب.
الليلة هنالك أضراس نهمة
و نظرات بحد السيف الباتر،
ليلة بصوان ليست تراه الأعين،
تعري الأجساد من جلدها .
أُنْصِت لاصطكاك الفكّين
ولطَقْطقَة العظام بين العظام !
أُنْصِت...
للجلد الآدمي غدا طبلا يُقرع بعظم الفخذ ،
لطبل الصّدر يمتص ركلات الأقدام الغاضبة،
لطبل الشمس يَسْحق قي هذيانٍ طبلةَ الأذن !
هنا الغبار يغدو زوبعة ،
كملك أصفر يُدمر كلّ شيء،
يرقص وحيدا ثم ينهار
كما شجرة اجتُثت من الأرض إجتثاتا ،
مثلما برج تردى بضربة واحدة.
هو الإنسان يتعثر و ينهض،
يأكل التراب و يزحف.
مثلما الحشرات ينخر الحجر،
ينخر القرون و يسوس النور.
هنا الصخرة المهشمة،
و الإنسان المهشم،
و النّور المهشم.
أفَتْحُ الجفون و إطباقها سيان؟
قصور في الدّاخل يحرقها الفكر،
ليبني قصورا أخرى أكثر نقاء.
لا شيء هناك غير لمعان و لظى
و بذرة لصورة تنمو لتصبح شجرة،
لا يتسع لها الصدر فيتصدّع .
كلمة تبحث عن شفاه تتبنّاها.
تتهاوى أحجار من سجيل،
تدفن الينابيع الآدمية،
قرون حجرية و أعوام بتشكيلاتها الحجرية،
أزمنة مثقلة بالثخانة،
تجلل فوهة الينابيع الآدميّة.
فلتنطق أيّها القيظ
أيها الحجر المصقول
تحت وطأة زمن لا أسنان له،
تحت عبء جوع لا أسنان له !
غبار مسحوق بين أسنان هي قرون،
قرون هي الجوع ذاته.
أجبني أيّها القِدر المكسور ،
أيّها القِدر المنغمس في التّراب !
أبطرق عظم على عظم يولد النّور في فِكْرك؟
أم بفرك إنسان على إنسان؟
أم بفرك جوع على جوع
حتّى تولد الشرارة في النّهاية،
حتّى يزأر الصّراخ و تولد الكلمة،
حتّى يتدفّق الماء في النّهاية،
و تنمو شجرة بأوراق الفيروز؟
علينا النوم و عيوننا متيقّظة،
علينا الحلم بالأيادي.
فلنحلم أحلاما نشيطة،
أحلام أنهار تبحث عن مجاريها،
أحلام شمس تطفو في عوالمها.
علينا الحلم بصوت مرتفع .
علينا بالغناء حتّى تنبت للأغنية
عروق و جذور و أغصان و طيور و كواكب.
علينا بالغناء حتّى يولد الحلم،
حتى تخرج السنابل من ضلع النُّوم،
حتى يفور الماء الأنثوي،
و تحين القيامة بلون الدم،
حتّى يتدفق الماء العذب في النبع ،
لنرتوي و نرى أنفسنا و نعرف من نكون،
لنستعيد كل قوانا الخائرة،
ليعكس الماء وجوهنا و أشكالنا .
فالماء يحاور ذاته في وحدته الليلية.
ينادينا بأسمائنا.
علينا بالحلم بينبوع الكلمات
حتّى يكون بمقدورنا التحدّث عن أنفسنا
تحت الشجرة الشامخة،
تحت التماثيل و الأيقونات المَطريّة الحيّة،
حتّى يكون بمقدورنا أن نقول: أنا و أنت و نحن،
حتّى ننبس بضمائر بهية ،
حتّى نعرف أنفسنا و نكون أوفياء لأسمائنا.
علينا بالحلم بما قد مضى و بالينبوع الأوّل.
علينا التجديف نحو قرون خوالي،
إلى ما قبل الطفولة و ما قبل البداية،
ما قبل ماء التّعميد.
علينا تهديم الحواجز بين الإنسان و الإنسان،
أن نصل ما قد فصل من قبل .
فالحياة و الموت سيان.
كلنا قدّ واحد بوردتين توأمان.
علينا النبش لإجتثات الكلمات من أجداثها،
أن نحلم بما يخالجنا و بما يحيط بنا.
علينا أن نفكّ لغز وشاح الليل،
أن نقف في وجه ساعة الظهر،
أن ننزع عنها القناع،
أن نستحم في نور الشمس،
أن نلتهم الفواكه الليلية،
أن نفهم أبجدية الكواكب،
و نتهجّى كتابة الأنهار حرفا حرفا ،
أن نتذكّر دوما ما يبوح به الدّم،
ما يوشوشه التيار
وموج البحر
وتراب الأرض
وعبق الأجساد،
أن نعود من حيث بدأنا،
ليس إلى ثنايانا أو خارجها،
ليس إلى القعر أو إلى القمم،
بل في كل مفترق الطرقات و الانعطافات.
فالنّور يشدو بصخب المياه،
و بجلجلة الأوراق الكثيفة يغنّي الماء.
الفجر فضاء طافح بالفواكه،
الليل و النهار قد تصالحا بعد طول خصام،
يركضان كما النهر الوديع .
الليل و النهار يداعبان بعضيهما،
و تدوم المداعبات و تطول
كما بين حبيبين مغرمين.
وكنهر بلا نهاية و تحت أقواس عمرت قرونا،
تكرّ الفصول و يمرّ الرّجال
إلى بؤرة الأصل الآهلة بالحياة،
إلى الوجهة و المبتغى،
إلى ما قبل النّهاية و البداية.