ليس هذا تاريخ سورية (1 )
مصطفى طلاس
نشرت «الشرق الأوسط» للكاتب غسان الإمام سلسلة مقالات عن سورية قبل استقلالها وما بعد الاستقلال. ولفت النظر في تحليلاته اصراره بأنه يتناول التاريخ غير المكتوب، التاريخ العاصف لخريطة سورية الطائفية التي تداخلت تداخلاً شديداً بخريطتها السياسية. وبمتابعة ما كتب يبدو وكأنه يحاول ـ بتشويه مقصود ـ كتابة تاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي الذي ارتبط بتاريخ سورية ما بعد الاستقلال. ويلاحظ ادعاؤه بأنه مجرد كاتب سياسي وصحافي يتوجه إلى ضمير وعروبة القارئ العربي، ويعترف ببساطة انه ليس مناضلاً سياسياً أو سياسياً محترفاً أو هاوياً وليس بمعارض أو مؤيد للنظام.
فهل هو حيادي حقاً؟ الواقع انه في مقالاته يصر بشكل غريب على الطرح الطائفي ويدعي انه حديث ضروري ان يفتح على مصراعيه بلا حرج أو عقد وحساسيات، وذلك لصالح بشار الأسد ولصالح الطائفة ولصالح سورية. لماذا هذا الاصرار على الطرح الطائفي وعلى التذكير بمقولات الاقليات العرقية والدينية والطائفية، خاصة عندما يتحدث عن الجيش؟ وهل يريد خلق الفتن بما يسميه بالاكثرية والاقليات مجدداً؟ ألا يكفي الوطن العربي تمزقه إلى كيانات قطرية حتى يصر على التذكير بالطائفية واشعال نارها في اقطار الوطن العربي؟ وهل المطلوب مثلاً تمزيق قطرنا إلى كيانات طائفية
تنفيذاً لمخططات الاعداء؟
لماذا يريد الكاتب تسمية الاكثرية والاقلية؟ ألا تجمعهما العروبة قبل ان تفرقهما الطائفية؟ ألم يكن نشوء حزب البعث العربي الاشتراكي هو الرد على الطرح الطائفي والعشائري في الوطن العربي؟ ألم يجمع البعث العربي الاشتراكي تحت لواء العروبة ما يسميه الكاتب بالاكثرية والاقلية؟ لماذا الاصرار على التذكير بالطائفية بدلاً من نسيانها والغائها؟ وهل التركيز
على الطائفية في سورية لمصلحة سورية العربية أم لمصلحة المخطط الصهيوني؟
بكل أسف اقول ان ما كتبه غسان الامام في سلسلة مقالاته تلك يذكرنا بكتابات المستشرقين المدسوسين لتشويه تاريخ سورية والوطن العربي. ولنبدأ في مناقشة ما ورد تحت عنوان «سورية: قراءة هادئة للخريطة الطائفية».
يذكر الكاتب ان نظام شكري القوتلي تصور ان هواجس الانفصال عن الوطن الأم تنتاب العلويين ودون اي حوار مع عقلاء الطائفة اجتاح النظام بالقوة العسكرية جبال العلويين في محافظة اللاذقية الساحلية.
من أين اخترع غسان الامام هذه الهواجس؟ وهل نسي ان عروبة سكان الساحل السوري اصيلة وليست محل شك؟ وهل نسي ان ثورتهم بقيادة الشيخ صالح العلي ساهمت مع ثورات المناطق السورية الاخرى في طرد المستعمر الفرنسي الذي فشل في انشاء دولة (الساحل السوري) وفصله عن سورية رغم وجود بعض العملاء المؤيدين لفرنسا من كبار العائلات الاقطاعية؟ وهل نسي البرقية
التاريخية التي ارسلها الشيخ صالح العلي إلى الحكومة الفرنسية في عام 1936 مع ستة من رفاق نضاله، وفي مقدمتهم المجاهد سليمان الأسد (والد
الرئيس حافظ الأسد) زعيم عشائر الكلبية والتي يطالبون فيها بالانضمام إلى الوطن الأم.
ونصحح هنا للكاتب معلوماته الطائفية التي يذكرها في مقالته. فالعلويون لا يعترفون بالمدعو سليمان المرشد، ولا يعتبرونه من الطائفة العلوية اصلاً حتى يشعروا بالمهانة بسبب شنق المرشد ـ كما يحلو للكاتب ان يذكر ـ ثم انه انه لم يحدث اجتياح قوات عسكرية لجبال العلويين، وانما ذهبت مفرزة من الدرك السوري لاعتقال سليمان المرشد في قريته وتمكنت منه بعد حصول بعض المقاومة. لقد كان على الكاتب ان يتأكد من صحة معلوماته قبل ارسالها إلى الصحف وحشو رؤوس قرائها بمعلومات سخيفة وخاطئة. ونقول له هنا ان من يرغب في كتابة التاريخ عليه ان يكون دقيقاً ومحايداً وبعيداً عن الاثارة في ما يكتب. فالعقيد محمد ناصر قُتل ليس لانه كبير الضباط العلويين وانما لانه كان يشكل منافساً على السلطة، كما ان المقدم غسان جديد لم يصبح كبيراً للضباط بحكم الاقدمية ـ كما يدعي الكاتب ـ فقد كان هناك ضباط اقدم منه من نفس الطائفة. ونوضح للكاتب ايضا ان سبب القتل كان خلافاً سياسياً بين الشيشكلي ومحمد ناصر الذي كان يتمتع بشخصية مميزة ويحظى باحترام كبير من معظم الضباط ولم يكن لاسباب طائفية..
وكذلك بالنسبة للمقدم غسان جديد الذي قتل بتاريخ19/2/1957 وليس في عام
1958 كما ذكر الكاتب وكان سبب القتل تصفية حسابات مع العقيد عبد الحميد السراج (1).
ويلفت النظر ايضاً ما كتبه عن اجتياح الشيشكلي لجبل الدروز بدباباته وتبريره ذلك بأن الشيشكلي شك في ان الطائفة تعتزم الانفصال والانضمام إلى الاردن، مع ان الاجتياح تم لاسباب وامور لا علاقة لها بذلك (2) واضطر سلطان الاطرش على اثرها للجوء الى الاردن لاخماد نار الفتنة. ويكرر الكاتب ـ الذي يقرأ تاريخ سورية على مزاجه ـ اخطاءه ليذكر ان المرحوم العقيد عدنان المالكي كان رئيساً للاركان عند اغتياله، مع انه كان وقت ذاك رئيساً للشعبة الثالثة ومعاوناً لرئيس الاركان العامة في الجيش السوري.
ولا نعلم اسباب عودة غسان الإمام إلى النغم الطائفي عند ذكره لقصة اغتيال المالكي واصراره على الادعاء أن ثلة الاغتيال كانت تنتمي كلها إلى الطائفة العلوية، مع العلم ان التحقيقات والوقائع اثبتت ان ثلة الاغتيال كانت مكونة من مختلف الطوائف، وكان من ضمنها عناصر من مدينة دمشق ـ مدينة الكاتب ـ ونذكره ايضاً ان القاتل لم ينفذ عمله الاجرامي لانه كان علوياً، وانما لانه كان مؤمناً بعقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي المخالفة لعقيدة حزب البعث العربي الاشتراكي التي كان المرحوم المالكي مؤمنا بها. كما ان تقاطع المصالح بين الاستخبارات الاميركية والاستخبارات المصرية واكرم الحوراني ادى إلى حدوث الفاجعة الوطنية.
كذلك ان ما ذكره الامام حول ان وكيل الضابط فؤاد جديد انتظر عشر سنين ليخرجه صلاح جديد من السجن، بعيد عن الحقيقة لانه خرج بناء على طلبي انا من رئيس مجلس الثورة الفريق لؤي الاتاسي، إذ انني التمست له عفواً خاصاً ولم يتدخل صلاح جديد اطلاقاً في هذا الموضوع. «حماة الديار» والمؤسسة العسكرية في حلقة «سورية: الصراع التاريخي داخل المؤسسة العسكرية» لم ينس الكاتب الادعاء بأنه كاتب مستقل يجلس أمام شاشة عريضة ليرى المشهد امامه كاملاً وليس كالسياسي الملتزم أو المعارض المحترف الذي يفضل الشاشة الضيقة والرؤية من زاوية واحدة، ومعالجته للموضوع «حماة الديار» خير دليل على ذلك، كما يؤسفنا ملاحظة انه لا يستطيع الخروج عن الطرح الطائفي البغيض في افكاره ومقالاته كافة. والواقع اننا لا نرى اي مصداقية في وصفه «لحماة الديار» وادعائه «بانهم كانوا في الواقع جيشاً من الاقليات العرقية والدينية والطائفية».. أو «انهم كانوا خليطاً عجيباً من الارمن والشركس والعرب العلويين والمسيحيين».. فالحقيقة تؤكد ان ذلك الجيش كان يضم عسكريين من الطوائف كافة وليس فقط طوائف محددة.
ومع ذلك، ألم يكن هؤلاء مواطنين سوريين رفضوا الذهاب مع جيش المشرق إلى فرنسا عندما خيروا بذلك واختاروا البقاء في سورية والالتحاق بالجيش السوري الذي تسلمته السلطة الوطنية في عام 1945م، وليس كما ذكر الكاتب في عام 1946، لانه كما يظهر لا يفرق بين تاريخ تأسيس الجيش السوري في الأول من آب (أغسطس) 1945 وبين تاريخ جلاء آخر جندي مستعمر عن سورية في
17 نيسان (أبريل) 1946. ونذكر الكاتب بأن من وصفهم بـ «الخليط العجيب»
هم أنفسهم الذين قاتلوا العصابات الصهيونية حتى يوم توقيع الهدنة عام
1949 وانهم لم يقصروا في بذل الدماء والتضحيات دفاعاً عن سورية وفلسطين. ثم لماذا اصرار الكاتب على التفريق بين الغالبية الطائفية والاقليات الطائفية والاشارة الى «ان الرئيس شكري القوتلي كان يحث ابناء المدن السنية على الانخراط في الجيش الجديد» وحسرة الكاتب لعدم التجاوب مع هذه الدعوة «الا من قبل ابناء الريف»، الامر الذي طمس حقيقة تركيبة الجيش في جذوره الاساسية ومنع نظام القوتلي ان يتدخل بعمق لتغيير هذه التركيبة. هنا يجب ان نسأل غسان الإمام: هل الالتزام بالوطن، أو الانتماء للعروبة، تختلف شدته بين الغالبية الطائفية والاقليات الطائفية؟ وهل الانتساب للجيش يجب ان يكون حكراً على طائفة دون سواها؟ وهلاّ علم ان احد الاسباب الرئيسية لالتحاق ابناء الريف ـ وحسب زعم الكاتب ابناء الاقليات الطائفية ـ بالجيش هو الفقر الذي يعانيه ابناء الريف اكثر من ابناء المدينة ولأن تكوينهم الجسدي يسمح لهم بتحمل مشاق العمل العسكري اكثر من غيرهم؟ هل كان يجب منع ابناء الريف من الانخراط في الجندية حفاظاً على معنويات الكاتب وحساسيته تجاه الطائفية وزيادة امكانية تغير نسيج الجيش اكراماً له؟ ان «حماة الديار»، الذين يتهكم الكاتب منهم، لم يتوقفوا فحسب امام شاطئ طبريا الشرقي كما يذكر في مقالته، بل اجتازوا نهر الاردن واحتلوا مستعمرة مشمارها يردن (كعوش) رغم قلة الامكانيات التي وضعها نظام القوتلي تحت تصرف هذا «الخليط العجيب» وبإمكان الكاتب التأكد من ذلك والسؤال عن السبب الذي أُخليت بموجبه هذه المستعمرة من قواتنا عند توقيع اتفاقية الهدنة في عام 1949.
ونستغرب ايضا كلام الكاتب عندما يقول: «وهكذا بقي الجيش في هذه المرحلة بقيادة خليط من ضباط تقليديين مخضرمين من سنة واقليات..»، ونسأله ما هو انتماء الضباط الذين يريد لهم قيادة الجيش إن لم يكونوا من الاغلبية والاقليات؟ وفي نهاية مقالته يعود الكاتب إلى ذكر الانقلابات ليجدد حديث الطائفية عندما يقول: «اعدم ضباط الطوائف المتعاطفون مع الحزب السوري القومي حسني الزعيم»، ورغم عدم دقته في تصنيف هؤلاء الضباط سياسياً فاننا نسأله: لماذا زج اسم الطوائف في حديثه؟ ألم يكن هؤلاء الضباط من مختلف الطوائف، ومن ضمنهم سامي الحناوي بهويته السنية التي اشار اليها الكاتب في مقالته هذه؟ وهل كان الشيشكلي بعيداً عن هذا الانقلاب؟ ولماذا يصر على تكرار ذكر الطائفية وتغذية هذه التسميات في كتاباته بشكل دائم؟ ويمضي الكاتب في سرد احداث من فترة انقلاب اديب الشيشكلي، فيذكر ان الحزب السوري القومي شهد خلال حكم الشيشكلي القريب من انطوان سعادة، قبل مقتله، ذروة ازدهاره وانتشاره في سورية، وكان على الكاتب التنويه باهتمام الشيشكلي بانشاء حزب جديد في سورية هو ما سمي بـ «حركة التحرير العربي» اكثر من اهتمامه بحزب سعادة، كما ان ما ذكره من «ان صحوة الضمير لدى الشيشكلي دعته إلى حقن الدماء والانسحاب امام الانقلابيين الذين كان باستطاعته التغلب عليهم» يدل على السطحية وعدم التعمق في مثل هذه الامور، لان الشيشكلي عندما أرسل سرب الطيران لضرب المتمردين في حلب انضم سلاح الطيران إلى المناهضين لأديب الشيشكلي.. ان موقف الشيشكلي وطني ولا غبار عليه، ولكنه لم يكن له ان يصمد أمام موجة الانتفاضة العارمة لو قرر خلاف ذلك.
وكعادته يعود الامام في نهاية مقالته إلى لعبة الطائفية المفضلة لديه، فاكرم الحوراني «قد راهن على الطائفة العلوية الفقيرة في قلب المعادلة الاجتماعية ضد نظام السنة البورجوازي»، بينما تؤكد الوقائع ان الحوراني اعتمد على ابناء الريف الفقراء عموماً، وليس على طائفة معينة، في قلب المعادلة الاجتماعية ضد نظام الاقطاع بشكل عام، وليس ضد نظام السنّة (يحلو للكاتب كثيراً استخدام هذه الكلمة) ولم يكن هناك خلل بالتوازن
الطائفي في تعداد ضباط وصف ضباط وافراد الجيش حسب ما يدعيه الكاتب، وسجلات الجيش شاهدة على ذلك.