في محلات بيع الكتب في عالمنا العربي، تشْخَص أعين المرء على الرفوف، التي تحن برفق على كتب قد يجدها ذاتها بعد عام لانعدام من يشتريها ولو للتبني أو لتزيين أثاث المنزل إن ليس لتزيين العقل. من بين هذه الكتب نرى إصدارات لأدباء ومؤلفين معاصرين بالكاد تنفد رغم طباعة بضعة آلاف فقط من كل كتاب، وإذا نفدت، حينها يتيقن المرء أن صاحب هذا المؤلَف قد رحل إلى دار الآخرة. كأن المبدع عندنا لا يقاطع ذكرُه ذاكرتنا إلا إذا أمسى ذكرى.
هذه مشكلة يعانيها في المقدمة المبدعون أنفسهم، الذين إذا نالهم النزر اليسير من التكريم والحفاوة في حياتهم، فإنهم ينالون، من حيث لا يشعرون، القسط الوفير من ذاك التكريم والاحتفاء بعد رحيلهم. وليس في هذا المقام أي إنكار لجهود الجهات المعنية في إلقاء الضوء على المبدعين وتكريمهم ،لكن في الأمر شحاً، فيما العتب منْصب أيضاً وبشكل أكبر على الأفراد الذين ثلة منهم تتهافت على شراء الإصدار الأدبي حين حل أجل صاحبه، وكأن ميلاد الأديب هو لحظة وفاته .
مثلاً، تتناقل الألسن أبياتا شعرية، أو جُمَلاً ،تصلح حِكَماً، من دون أن تُنسب إلى قائلها، سوى القلة التي تحترم أن تنسب الأمور إلى أصحابها، وبعد الرحيل يدرك، أو يتذكر، الجَمْع أن الراحل هو من قال هذا وذاك، مثلما يَعْلمون حينها أن له إصدارات كانت شبه منسية على الرفوف، وتتمنى ملامسة الأنامل العربية لصفحاتها، وبعدها يبدأ مسلسل التنافس على ترديدها ولكن هذه المرة مع التباهي بمعرفة القائل.
الأمر ليس ببعيد أيضاً عن الفنانين - بالمعنى الحقيقي لا المجازي - الذين إذا بلغوا من الكبر عتيا ً، راحوا طي النسيان ،وكأنهم لم يثروا الساحة الفنية حيناً من الدهر بما أُنعِم عليهم من موهبة، فآل حالهم بعد شهرتهم إلى ما كانوا عليه قبلها، ولولا القليل من الإعلام الذي ينبش إرث الماضي الجميل، ويذكّر الناس بهؤلاء الفنانين الشائخين، لما عرف بهم سوى القريب و الجار القريب والمحب المخلص. وإذا انتقلت روح أحدهم إلى باريها، نرى الإعلام انتفض بقضه وقضيضه، للحديث والتحليل وإعادتنا قليلا ً إلى الماضي وإلى سيرة الراحل، وكأنه حُرّم على هؤلاء الشائخين، أن يكون محل تذكار في حياتهم .
إنّ ثقافتنا بشكلها العام متسمة بأطباع الحزن، ذلك جلي بالكثير من أشعارنا وموسيقانا، حتى في العظات الدينية وغير الدينية، ومن هنا لا عجب أن تكون لحظات الأحزان عندنا نابشة الذاكرة، حتى نتذكر الشاعر والكاتب والروائي والفنان والعالم والمقاتل، وكأن في زمن الأفراح لا متسع لتحريك الذاكرة، وكأنه لا يجوز تذكر المبدع إلا حين يصبح ذكرى.