بطل اهتمامي بكرة القدم المحلية منذ وقت ناهز العقدين , لم أشاهد مباراة كاملة على التلفزيون طوال هذا الوقت , وإن كنت أسترق الأخبار عن الوضع العام كل مدة وأتبين منه وضع فريق المدينة فيه.
لأسباب , بعضهااجتماعي و رياضي يتعلق بالمستوى , وبعضها الآخر والأهم أسباب تتعلق بوضع الرياضة السوريةعموما .
فالرياضة في البلد , كما لا يخفى على الكثيرين , قد انحدرت لمستويات بائسة , ففيما مضى كانوا يشكون من قلة المال , والآن توفر المال ولكن ضاعت الرياضة واصبحت الأندية سوق بازار تحت مسمى قانون الإحتراف, ومن لديه القدرة على الشراء سوف يتوج حتما أما الأندية التي لا تنتمي للمراكز التجارية الكبيرة (كجبلة والجهاد وعفرين والجزيرة والفتوة وجزئيا أمية وحطين ) فسوف تبقى في مؤخرة الترتيب تتنافس على من سيهبط من بينها .
إن نظرة واحدة على جدول الترتيب تعطينافكرة عن الإمكانات المادية للأندية باستثناء ربما فريق واحد .
ولابد من أن يتساءل من يرى مباريات الدوري على التلفزيون لفريق مثل الشرطة مثلا, من المفترض أنه يمثل الشرطة في سوريا : كيف يلعب لاعب زنجي فيه , هل أصبحنا نوظف زنوجا في شرطتنا ؟!وكيف يلعب لاعب أجنبي في فريق الجيش العربي السوري , أليس هذين الناديين هيئات عامة تأخذ أموالها من الناس , فكيف لمشجع كرماوي أن يدفع ضرائب مثلا ليشتري به منافسه فريق الجيش لاعبا وبالدولار؟!
كان يجب قبل أن يسمح بتطبيق هذا القانون أن يدرس جيدا, ويسبقه تشريعات تنظم الرياضة بعد فتح (سوقها) , فكيف يدعي الإتحاد الرياضي العام ومكتبه التنفيذي مثلا أنهما هيئات شعبية , وجدت لجعل الرياضة شعبية كهواية وبنفس الوقت تبيح الإحتراف و البيع والشراء ؟!هل يسمحون مثلا لرابطة فلاحين باستيراد فلاحين هولنديين لزراعة الورد!؟ هذا تناقض كبير يجب حله على أعلى المستويات .
ولطالما قبلتم بالبيع والشراء , فهناك إذن ربح وخسارة , وأصبح الأمر تجارة , فأكملوا الأمر كما يجب وافتحوا باب المساهمة في الأندية" كهيئات مستقلة" للجمهور , وألزموا الأندية بتقديم كشوف مالية كما في كل المؤسسات التجارية ,وقدموا دعما للأندية فقيرة الإستثمارات , وقننوا هذا البازار بحيث لا يسمح إلا لعدد محدود من اللاعبين (المحترفين)بالتسجيل على كشوف أي نادي , والبقية يجب أن يلزم النادي بالسماح لأبنائه الذين تدرجوا في فئاته على اللعب ,وإلا ما معنى وجود دوري للشباب , فهؤلاء سوف يكتسبون الخبرة تدريجيا بدلا من جلوسهم على مقاعد الإحتياط طوال عمرهم . وبهذا تتاح للأندية الفقيرة أن يكون لها حظ بالمنافسة , وتحققون نوعا من عدالة المنافسة.
إن ناديا مثل جبلة سوف يظل محكوما كما أقرانه , بهذه المعادلة وسوف لن يقدر على الخروج من دائرة التهديد بالهبوط في ظل هذا القانون الذي لا يعترف إلا بالقوي ماديا .
نظرة واحدة لترتيب الدوري ترينا بوضوح أن الأندية الأربعة المهددة بالهبوط والتي هبطت العام الماضي تنتمي لهذه الدائرة التي تكلمنا عنها .
وهنا لا بد من أن يلح سؤال : طيّب , لماذا يكون جبلة هو الأكثر تهديدا بالهبوط هذا العام من أقرانه طالما أن ظروفهم متشابهة ؟
للإجابة عن هذا السؤال , لا بد لنا من العودة للماضي قليلا .
يذكر جيلي وأجيال تتقدمه , نادي جبلة أيام كان يلعب على ملعب البحر (كان الملعب شرق -غرب عكس كل ملاعب العالم وبدون مدرجات وكان الجمهور وقتها يشكل فعلا اللاعب الثاني عشر وذلك بتدخله المباشر أحيانا في اللعب حيث كان يقف على خطوط التماس تماما) , وأذكر كيف أن فرقا من لبنان ومنتخبات أخرى تأتي وتلعب مع جبلة على ذلك الملعب على الرغم من أن النادي كان يعتمد على مواهب فطرية وتبرعات من بعض الجمهور لكي يقف ويستطيع السفر للمدن الأخرى .
وكانت مدارس جبلة الخزان الذي يزوّد النادي باللاعبين ,وكانت دورات الأحياء الشعبية , بطولات حقيقية , يتم من خلالها اكتشاف المواهب ,وأصبحت في أواخر السبعينيات هذه الدورات تجري بإشراف النادي .
ثم أتى رجل اسمه عبد القادر آت يحمل إجازة في الرياضة من لايبزيغ , وبدأ يصقل تلك المواهب الفطرية بشكل علمي مبتدئا بثانوية محمد سعيد يونس , التي كانت تضم ملعبا للسلة منار ليلا وملعبا شبه نظامي لكرة القدم وصالة حديثة للجمباز وأدوات ألعاب القوى وطاولات بينغ بونغ وسوى ذلك من أدوات الرياضة .
وبعد أن صعد الفريق للدرجة الأولى بداية الثمانينيات , توفي عبد القادر آت الرجل الخلوق والنبيل مبكرا تاركا وراءه فراغا كبيرا . واستلم الفريق رفعت الشمالي ومن يومها ارتبط اسم الرجل باسم النادي ومعه حصد الدوري أربع مرات وكأس الجمهورية ونافس مرارا على الصدارة .
طبعا استفاد جبلة ورفعت من عدة عوامل أهمها قرار حل فريق الجيش منتصف الثمانينيات وتوزيع لا عبيه على الأندية وكان أن عاد أبناء المحافظة إليها وكان نصيب جبلة الشكوحي وراغد خليل ,صحيح أن جبلة ضم لاعبين من أندية اخرى , ولكن الغالب أنه أتى بشبان وأتاح لهم الفرصة في النادي وأتت شهرتهم من خلاله .
يثير اسم رفعت الشمالي جدلا , ويثار حوله الكثير من الكلام , ويتراوح بين منتقد عنيف إلى مدّاح مغالي.
ورفعت ببساطة .. هو شخص يحب ناديه,ولكنه يحبه بطريقته , في قرارة نفسه يشعر بشعور مركب يعرفه كل من يحقق إنجازات وشهرة في الرياضة و في الحياة , فهو يشعر أنه ابن النادي وفي نفس الوقت هو والده وصانع إنجازاته.
هذا الشعور المركّب هو ما يؤدي بالمرء إلى الخلط وعدم تقبل فكرة التنحي وأن ما يراه هو الأصح وهو لمصلحة النادي , وقد يصل الأمر لحد اختصار المعادلة إلى : أنا النادي , وحين لا أكون لا يكون .
ينتقد الناس بعض التجاوزات التي سلكها رفعت سابقا في سبيل عدم هبوط النادي في موسمين أو ثلاثة , ويمكن الآن أن ننظر على هذا الأمر ضمن آلية كانت موجودة (وربما لازالت) في الرياضة السورية وهي مستترة احيانا وأحيانا مفضوحة وهي غير محصورة بنادي أو بشخص , وكان أن حمّل رفعت شخصيا من قبل اتحاد الكرة وزر كل أخطاء الرياضة السورية وكل الفساد الذي يضربها , وهذه حيلة قديمة معروفة , فقد كان لدى الفينيقيين مثلا عادة مشابهة : حيث كانوا كل عام يأتون بكبش ويأتي كل فرد بدوره ويحمله كل ما اقترف من آثام وأخطاء خلال العام , ومن ثم يطلقونه في مكان منعزل , أو يقتلونه برجمه بالحجارة , ليلاقي مصيره بعد أن تحمل عنهم كل الأخطاء , ومن ثم يقيمون الإحتفالات ويبتهجون بتطهرهم من هذه الأخطاء.
وهذا الطقس استمر حتى العصر الحديث في بعض المعتقدات .
لهذا كان رفعت ديكتاتورا ,ومن خلال خبرته وتجربته أصبح لديه قناعة أن ما يفعله هو الشيء الوحيد المفيد لناديه وسط ظروف غير متكافئة مع غيره من الأندية, وربما هذا من أسباب نجاحه , ولكن بالمقابل كان هناك الكثير من الضحايا في الطريق.
انتهت الرياضة المدرسية في سوريا ككل , وأصبحت الأندية تستسهل شراء لاعب جاهز بدلا من تنشئته منذ الصغر (لأنها قد تتعب عليه ومن ثم تخسره لمن يدفع له).
إن الأندية الكبيرة لن تعاني من فقدان هذا المصدر الهام , فسيظل هناك من يحلم من الشباب باللعب لها وهناك وفرة نسبة لعدد السكان وسيعوض النقص باختيار نخبة اللاعبين في سوريا ومن خارجها لتوفر السيولة اللازمة, ولكن ناديا كجبلة سوف يتأثر حتما بفقدان مورده الأساسي وسوف يحاول التعويض بالبحث عن محترفين ذوي موهبة وخبرة متوسطة وبأسعار رخيصة نسبيا.
جبلة والنواعير كان من المحتم أن يكونا من بين المهددين بالهبوط , نظرا لأحداث العام الماضي , فهما لم يخرجا من دوامة نفسية لاحقتهما من العام الماضي وهي اتهامها بالفساد, واصبح كل إنجاز لهما , ينظر له بعين الريبة وكل فشل ..فهو إنما انتقام للعدالة .
وصار الحكام يستسهلون ظلمهما,أو على أقل تقدير عدم محاباتهما , وايضا اتحاد الكرة , وهناك الكثير من الأمثلة .
والآن ...
حرصت على أن أذهب إلى ملعب جبلة في مباراة جبلة والطليعة , بعد أن سمعت في الراديو أن الطليعة قد سجل هدفا , وذلك بعد غياب طويل , ولأتأكد على الأرض كيف هو هذا الفريق وهل يستأهل أن يبقى في الدرجة الأولى أم لا .
دخلت بعد أن بدا الشوط الثاني بقليل , ورأيت فريقا يلعب بانتظام , ويهدد , ويصل للمرمى ولكنه لا يسجل ,وبالمقابل تسجل عليه أهداف بسهولة وبأخطاء سهلة وليست ناجمة عن ضغط الفريق الخصم ,ورأيت جمهورا عصبيا يشتم لاعبيه عند كل كرة ويشتم الفريق المنافس , ومن ثم عند تسجيل هدف لجبلة يشجع الفريق الخصم , ثم يجلس متفرجا طوال المباراة , حتى لقد كان مفعول حوالي 200 شخص من أنصار الطليعة أكبر وأقوى تأثيرا من مفعول خمسة آلاف متفرج.
لقد أصبح جمهور جبلة عبئا عليه , وحالته هذه .
ورأيت فريق الطليعة مدافعا , مناورا , يلعب على أعصاب الجمهور والفريق , ويستغل اندفاع حارس جبلة ليسجل هدفا لا طعم له من كرة تهادت من أربعين مترا باتجاه المرمى الخالي .
تناهى لسمعي أن البعض يطالب باستقالة المدرب والإدارة , وهذا إن حصل , هو مقتل للفريق ووصفة سحرية للهبوط .
قد تكون الإدارة شابة وغير خبيرة ,ولديها أخطاء ولكن فات وقت الإنتقاد ,إذ يجب أن يكون ذلك منذ بداية تعثر الفريق, يجب أن يقف الجميع معها ,ومن لديه كلام الآن سيجد الوقت الطويل فيما بعد ليقوله والمدرب لا يجب تغييره في هذه المرحلة, فالفريق يلعب ولكن العبء النفسي كبير , وسيستطيع أن يحقق شيئا إن تحرر من هذا العبء ومن ضغط جمهوره .
قد يقول قائل : ولم كل هذا التعب والتحليل , أمن أجل كرة قدم !!
فهل يستطيع شيء توحيد خمسة أو عشرة آلاف إنسان في هذه المدينة على حب واحد , وهل يوجد شيء يستطيع أن يدخل الفرح او الحزن لقلوبهم كما تفعل هذه الكرة.
لقد أصبح نادي جبلة إضافة لمدرجها وتلالهاالأثرية وأحيائها العتيقة وجامعها السلطان ابراهيم وثائرها القسام وأدونيسها , علامات فارقة تعرف وتعرّف بهم هذه المدينة .
ثم أليس من حق هذا النادي الصغير واحتراما لتاريخه الذي تجاوز النصف قرن وكان أحد أقدم الأندية السورية , أن يظل ويكون بمكان يليق به وبتاريخه , بدل أن يصبح هو وملعبه مكانا لشرب النراجيل وازدراد الأطعمة والتجارة بكل أنواعها , حين يلقى في النسيان .
هي ظروف تحد وإثبات للجدارة , وهي أوقات لنكران الذات وللبذل , وطالما أنكم تلعبون وتقدمون ليس هناك شيئا مخز أبدا ,ولا تحزنوا فهذا الوضع سيتكرر كل عام في ظل قانون الإحتراف هذا .
والمهم أنها فرصة لإثبات أن الفريق قد تخلص من العقدة المؤذية التي ورثها من العام الماضي , وأنه من أكثر الفرق ظلما هذا الدوري , والظلم يوّلد حافزا للصمود والتحدي , لا للإستكانه والخنوع.
ومن لديه جهدا وشيئا جيدا يجب أن يقدمه بلا تأخير , ومن لديه ولو قشة يجب أن يدفنها عميقا في الرمال , كي لا يزيد النار اضطراما .
المحن والأزمات تلد رجالها ...وهو وقت لولادة الرجال .