آخر الأخبار

قناة الجزيرة... ويبدو...

لا شك أن موضوع هجرة المسيحيين هو من الموضوعات الحساسة والتي تحدث الآن ، ولكنها في الاساس ليست بنت اليوم، إنما هي قضية مضى عليها اكثر من مائة عام، فمن نهاية حقبة الخلافة (الامبراطورية) العثمانية حتى النصف الاول من القرن العشرين كان طابع الهجرة مسيحياً بشكل أساسي، وسبب الهجرة الرئيسي كان مايسمى "بنظام الملل" في الامبراطورية العثمانية، وما استتبع هذا النظام من قلاقل وازمات ونزاعات طائفية إسلامية ومسيحية، ومن ضيق مادي أصاب بعض المناطق في الامبراطورية العثمانية وهذا ما حدا ببعض المسيحيين الى الهجرة آنذاك، لكن اليوم أصبحت ظاهرة الهجرة خطيرة لان الذي يغادر لا يعود، وهكذا نخسرهم هنا (كبلد وليس كطوائف).

ولا شك أن الناحية الاقتصادية دافع من دوافع الهجرة إن لم تكن الأقوى لكنها ليست الوحيدة، فهنالك احساس بالخوف من المستقبل، لان المجازر التي وقعت في بدايات القرن العشرين في ايام العثمانيين تتراءى امامهم، وكأن المسلمين يستعدون لشن حملة اضطهاد على المسيحيين في اية لحظة، الامر الذي ينكره العقلاء، وكل من يفهم ما معنى الوحدة الوطنية والإخاء الديني والعيش المشترك، وهذا ما سأحاول تسليط الضوء عليه في سورية.

أعود الى البرنامج التلفزيوني التي عرضته قناة الجزيرة، وبادىء ذي بدء، علي أن اشير الى أن موضوع هجرة المسيحيين لا تتم معالجتها في خلال ساعة واحدة ولو كان ذلك مجرد تسليط الضوء لا أكثر، كما أن المذيع خلال استعراض معاناة المسيحيين في البلدان العربية تطرق الى الدول العربية كلها وشدد على المشاكل التي يعانيها المسيحييون فيها، ثم عندما تم ذكر سورية قال ما معناه انه يبدو ان المسيحيين في سورية مستقرين، واعتمد مقاربة ان وجود مسيحيين في مواقع حساسة في السلطة يعني ان الدولة تعاملهم جيداً .

لا يا سيدي، ليس قولك ما معناه "يبدو"، ولا وجود مسيحي في أقنية عسكرية عليا، هو ما يمنحنا الاستقرار، بل هناك عيش مشترك ومحبة للبلد، فكما قلتُ سابقاً، في سورية مثلاً، لا يدعو نائب الرئيس رؤساء الطوائف المسيحية لتهنأتهم بالعيد، بل يتكرم رئيسنا بشار الأسد فيقوم هو بمعايدة المسيحيين ويتوجه اليهم في إحدى الكنائس حيث يشاركهم فرحة العيد ويتناول الطعام معهم، وليسمح لي سيادة الرئيس أن أذكر كيف رحب به البطريرك أغناطيوس الرابع منذ ثلاثة سنوات حيث قال لسيادته أنه " لا شك ان الكنيسة التي نحن بها هي ملك لبطريركية الروم الأرثوذكس، إلا أنها ملك لسورية أولا وبما أنك رئيس البلاد فأنا أراها صغيرة أن أرحب بك لأنك أنت صاحب البيت" وبعد الغداء ولدى أخذ الصورة التذكارية توجه الينا الرئيس وقال لنا " كما قال غبطته، أنا أشكركم لأنكم قبلتم دعوتي على الغذاء "

في السنة التي تلتها قام الرئيس بشار الاسد بمعايدة المسيحيين ولدى اخذ الصورة التذكارية وقفنا على درج الدير وتوجه سيادته برفقة البطريركين نازلا الدرج حيث كنا نقف، ونظراً لكون البطريرك زكا الاول لا يستطيع النزول الا بمساعدة، فما كان من سيادته إلا أن تأبط ذراعه ليجعل غبطته يستند في نزوله الدرج على كتف رئيسنا، وهذا لم يحكه احد لي بل رأيته بنفسي من على بعد نصف متر ورأيت نظرة حب الأبن لأبيه.

لا شك ان وجودي كمسيحي مستشاراً لمفتي سورية لا يتم النظر اليه بعين الرضا من قبل البعض في سورية عامة، وفي مكتب المفتي العام حتى بشكل خاص، وذلك لمجرد أنني مسيحي، وأنا لا اقول هذا جزافاً بل عن يقين، كما أن بعض التصرفات الفردية في العمل والعيش تجاه المسيحيين لا تعكس فكر الرئيس ولا فكر المفتي ولا فكر الشعب السوري، وبغض النظر عن كيفية معالجتها فليست هي أكثر من كونها قراءة خاطئة لفكر سامٍ.

سيدي المذيع، لقد كان لضيفيك البطريرك صباح والمطران عطا الله حنا، زيارة الى سورية منذ مدة، هل يوجد مفتٍ في الوطن العربي كله يقيم مأدبة غداء على شرف رجل دين مسيحي؟، فكيف اذا قلت لك ان الطعام كان صيامياً احتراماً من مفتي سورية لضيفه البطريرك صباح (حيث كنا في الصوم المسيحي)، ولم يفكر سماحته أن البطريرك مسيحي، بل فكر بعروبته من خلال دفاعه عن القدس والمقدسات الدينية كلها.

فهل للهجرة المسيحية في سورية مسببات إسلامية؟

وهل بعد هذا تُقارَنُ سورية بـ "يبـــدو"؟

اللهم اشهد اني بلغت .

*مستشار مفتي الجمهورية العربية السورية