آخر الأخبار

يا إلهي ما أصعب الفراق !

( ...لكن إنها مشيئة القدر )
لست أدري هل هي الحتمية أمْ المصادفة ،كانت سببا للقائي قبل أسبوعين من رحيل المهندس الشاب " أسامة " ابن صديقي الروائي الأديب المربي " سليمان سخية " أطال الله عمره .
عرفته يقطف من أوردة الليل مصباحا ،ليبني محطات في المدارات ، ويزرع دمه وقودا في ليالي الشتاء ، حين عمره البحر بلألاء الموج قبل أن يلفه الخريف ،حيث الآلام تعطر جنون الشمس ، وكانت معطرته حب الناس .لا أدري أن ثمة من يختصر المسافة ، وثمة نعي يظهر الفاجعة ، وقلمي يختزل الكلام في ليل عجوز يمتهن المداد في نهاية المشوار ، عبثا تطاوعني الحروف مابين رحيلك والتنقيب في أتون الذاكرة ، فأراك مثل كل البلابل في الواحات ، تفجر صمت اللحظات .لا أدري ما الذي جعلني أعتمد على البصر دون البصيرة ، لكن الراحل كان نبيها فقال :أولم تذكر يا عمّ أبا إسكندر كم قدمت لكم من الضيافة في منزل صديقك أبي أسامة ؟!.
صمت مليا ، وقلت لنفسي : " أخ كريم وابن أخ ذكي ".
وقفت على قدمي راغبا بأن أجاريه بالفتوة ،رغم أنني طويت خمسين خريفا ونيف ، كانت قبلاتي له دون علمي بأنها ستكون الأخيرة . كان لجرأته حيزا في ذاكرتي ، فربت على كتفه :" فرخ البط عوّام .
ولضيق الوقت كان اللقاء لدقائق وكم تمنيت لو دامت ساعات طوال ،ورغم ذلك كونت في ذاكرتي ملفات عن شخصية الراحل إلى ملكوت السماء ،المهندس " أسامة " ابن الثلاثين سنة ،كنت على أمل أن أراه مرة ثانية لكن مشيئة القدر جعلته يرحل إلى مستقر النجوم دون وداع .
سألت ذاتي : " أين رحل ابن الثلاثين ونيف ؟...ومتى موعد الإياب ؟.
تأتى لسمعي صوت أنين ...وبكاء ...وحفيف كف يمسح الدموع .لكن الصمت القاتل يثير الشجون ويعلن نهاية الفرح ، ويشير إلى كؤوس مترعة بالأشجان ، يومذاك لم أسأله إلى أين ستذهب وكم وددت السؤال . كل الاحتمالات تخبو وتموت ...لكن صورته ستبقى نبراسا في ذاكرتي ، و لا بد من الصبر حين تبدأ الأمواج رحلتها في هدأة الخوف ، وقد بكتْْ رحليك المواسم والعصافير يا ابن الثلاثين ربيع ، عذرا إن وقفت في هول اللحظات أتكلم مع ذاتي : " كيف يعبر الزمن ؟...فكل المحاريث والشطآن تبكينا في النهارات المشمسة والأمطار .
فلتسامحني الأحرف إن قصرت بحق الراحل الذي ترجل ...ولعلني أضيف شيئا جديدا ،ثمة إلهان في كياني متفقان في أن نحيا أو نموت هذا ليس خرقا لقوانين الحياة ،ومع أنه ليس من السهولة أن نحيا ، وليس من السهولة أن نموت أيضا .