بعد أن غادرت هي وطفلها مدينة قسرين ، لم أعد أسمع عنهما شيئا ، قيل لي أنها سكنت في مركز البلاد، أي بلاد إسرائيل كما تنص الخارطة السياسية لهذا العالم المتحضر، ومنهم من قاال أنها عادت إلى مدينة كييف في إوكرانيا بعد أن قرفت السكن هنا.........
لذلك فاجأني إتصالها وهي تقول لي: "حان الوقت لتخبره بالحقيقة، فغوركي يريد التجند في الجيش ووحدك تستطيع منعه عن ذلك... فهذه مسؤوليتك"
أمنعه وكيف لي ذلك ؟وقد عاش وتربى في هذه الدولة.. انزويت مثل مخدة سكنها البرد، في ركن الغرفة المظلمة.. وراحت الذكريات تعبث بي ،مثلما يلعب ريح صرصر بثمرة نسيها القطافون بين وريقات شجرة .... قبل عشرين عاما . في حارة "لامنوسفا" كما كنا نسمي السكن الجامعي.
وفي مطعم صغير شاهدتها تجلس لوحدها، تأخذ اللب وتشد كل جوارح الجسد. بقيت أنظر إليها مشدوها مدهوشا بفتنتها، حتى أني لم ألاحظ رفيقها الذي جلس بجانبها حتى سمعته يكلمني:
"عربي لماذا تنظر إلى صديقتي؟ وقهقه بالضحك... عرفت أنه سوري من لهجته الشامية ومن ضحكته التي جلجلت وكأنها تسخر مني ومنه، مما شجعني لأتقدم من طاولته مقدما نفسي معتذرا،وموجها كلامي له، بينما طرف من عيني كان ينظر إلى صاحبته: "أنا من الجولان العربي السوري المحتل". وكنا نحن الجولانين نقدم أنفسنا بهذه العبارة، وكأنها شهادة عز، نمنن الاخرين بها.
فأجابني وصدى ضحكته ما زال يرن بين جدران المطعم:"دعك من البخترة والبهورة... إجلس واشرب كأسا .. فأنا جولاني مثلك ولكني محرر .. ثم أضاف أنا من قرية "المنسية".... ولكنى نازح منذ كنت في بطن أمي..".
تصادقنا وصرنا لا نفارق بعضنا، ثم عرفت منه لاحقا أنه ُسمي على اسم والده عبد الرحمن، وأن والده مات قبل سويعات من حرب عام 1967 فجأة دون أن يلم به مرض، وهو مدفون في مقبرة القرية . كل ذلك قصته له والدته التي هُجرت وهي حبلى فيه، وعلى ظهرها كيس صغير من القمح ، بعد أن طردها الجيش الاسرائيلي بعد الحرب بأيام قليلة.
"وهكذا صرت نازحا .." قال بصوت مبحوح وكأن شجرة سرو محروقة علقت بين فكيه فصار يبصق حتى بلل قميصه ، وأكمل... جولاني، هل تعرف أن أول رغيف خبز أكلته في الشام ، كان من كيس القمح الصغير الذي حملته أمي في الرحيل.. كان طعمه كريها مليئا بالغبار ولكنه دسم ، مرضت بعده...
فسألته وانا أحاول منعه من التعثر والسقوط:" وأمك هل ما زالت على قيد الحياة ؟ فرد ببصاق فيه سخام ووسخ أسود
هي كذلك ولكنها مقعده .. ومصرة انها ستعود يوما ما إلى قريتها مشيا كما طردت منها. ثم ضحك بمرارة ... كنا وقتها نحاول المشي بإتزان في الشارع الرئيسى لمدينة كييف الذي ينتهي بمرفأ نهر الدنيبر، وأمامنا تطل ساحة فارغة كان يتوسطها تمثال للينين قبل شهور قليلة.
سألته قائلا :" انا لا أستوعب حتى الان لماذا إنهارت هذه الدولة العظيمة ؟وكيف تطاولوا على تمثال لينين وحطموه ؟ .. فقد أمنت الاشتراكية لهم الأكل والعمل والمسكن والعلم...
فرد علي :" الإنسان تواق إلى الحرية، في بطن خاوية أو شبعانة فالأمر سيان."
- سألته وهل تعتقد ان هذا ينطبق على كل الشعوب؟.
- فأجابني بإقتضاب مغيرا الحديث إني أدعوك للعشاء في شقتي.
في شقته شربنا حتى الثمالة ثم نام، بينما بقيت أنا وصديقته نتبادل الشرب والحديث حتى ساعة متأخرة من الليل. برد الرياح التي عبرت نهر دنيبر نحو شقته، جعلتنا نتدثر في غطاء واحد ونسترخي في مواجهة فجر، ضوؤه أسدل النعاس على عيوننا..
في الصباح إستيقظت متأخرا، فقد بقيت طول الليل أتقلب في فراشي وكأن شجنا يسكن حلقي
وحلما وحيدا يراودني.... وداعي له في المطار .. كان يبكي وهو يقول:"أعرف أننا لن نلتقي
ولكن طلبي الوحيد منك.. زر عبد الرحمن أبي في قريتي.... قبره هناك.. هكذا قالت أمي .. أما صديقتي فقد رحلت إلى اسرائيل مع الطفل.. هي يهودية، أنت ولا شك تعرف ذلك؟ هناك ، لا تتخلى عنها، ولا تتخلى عن الطفل.
هذا القدر الذي أجلناه، يلاحقنا، ساقول للطفل الحقيقة، ولكنه الان صار شابا ويكاد يصير جنديا
فكيف أقنعه...؟
بعد يومين عاودت الإتصال، وأخبرتني إنها في قسرين هي وغوركي . فأجبتها بأني لن أستطيع إخباره بكل الحقيقة. فقالت: "إفعل ما تريد ولكن أخبره شيئا.... فأنا لن أبقى هنا.. سأعود إلى كييف قريبا ..."
رافقتهما في سيارتي في طريق وعرة حتى وصلنا قرية مهدمة قريبة من خط وقف اطلاق النار ، نزلنا من السيارة ومشينا في خرائب القرية. تجاوزنا شجرة توت مثقلة بالثمار وشجرة جوزمعمرة ، حتى وصلنا بقايا مسجد مهدم، ثم انعطفنا يسارا في طريق ضيقة نحو تلة صغيرة محاطة بأسلاك شائكة، كتب على لافته ذات لون أصفر ، معلقة فوق الأسلاك ، حقل ألغام . فسألني: " هي مجرد مقبرة، فلماذا يحيطونها بالأسلاك ويزرعون الألغام فيها؟".
أشرت إليه دون أن أجيبه هناك بين الأسلاك أترى ذلك القبر ، هناك مكتوب عبد الرحمن ولد عام
1947 ومات شابا تاركا زوجته الحامل عام 1967.... أتعرف من هو المدفون هناك؟ .
ثم تركت بقية الكلام لأمه تسرده له باللغة الروسية.