بقلم: باسيليوس زينو
طيلة فترة الثورتين التونسية والمصرية وبدايات الثورة الليبية كانت عيون السوريين تزداد احمراراً وأصواتهم تزداد حدةً وانفعالاً، ولم يكن حماسهم يقلّ عن حماس أشقائهم الثائرين، فنقلوا ساحات التغيير والتحرير إلى مساحات بيوتهم وصالوناتهم ومقاهي الشوارع وأسِرتهم وعلاقاتهم. لكنّهم كانوا مجمعين على ضرورة الإطاحة بالدكتاتوريات الهرمة، ويمكن فهم هذا الانفعال الذي يتعدى مجرّد كونه تضامناً على غرار التضامن مع المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، كما يتجاوز في حدّته مسألة رفض سياسات قادة تلك الدول المنتفضة، ليغدو بمثابة تعبير نفسيّ خارجيّ عن إحباطات السوريين الداخلية ويأسهم من أوضاعهم نفسها، فوجدوا في ما يحدث صورة متخيلة تعبر عن لاوعيهم وشعورهم المكبوت طيلة عقود تجاه نظامهم الشمولي الذي ينتفضون عليه متقمصين شخصية تونسية تارة فمصرية فليبية...!
كانت سلمية الثورتين التونسية والمصرية وحتى اليمنية نتيجة طبيعية لعملٍ طويل وجبار قامت به مؤسسات المجتمع المدني، والانفتاح على الثقافة الغربية التي ظلت لفترة طويلة مستهجنة ومنبوذة في كلٍ من ليبيا وسوريا، ولم يتم التعاطي مع مؤسسات وجمعيات حقوق الإنسان من قبل المسؤولين ورجال الدين -وحتى على المستوى الشعبي- إلا بمنطق السخرية والمقارنة الفورية الساذجة بين ازدواجية معايير بعض هذه المؤسسات في تعاطيها مع الانتهاكات الإسرائيلية والأمريكية ومزاعمها في الحرية وحقوق الإنسان، لتُنتهك "حقوق الإنسان" في البلاد العربية بشكل يوميّ وممنهج تحت ذريعة عدم أحقية أي مؤسسة أو دولة في التحدث أو في انتقاد ما يحدث طالما أنّ الإنسان (وحقوقه) خاضع للتدويل والسياسة!
عندما انتقلت شعلة الأحداث إلى درعا السورية، عقب خطأ في التعامل الأمني أعقبته سلسلة أخطاء على المستوى الإعلامي أدت إلى تجيش الفئات الموالية للنظام في مسيرات استفزازية ساهمت بشكل أو بآخر في تحريض عوامل الانتفاض -الموجودة أصلاً- في عدة محافظات، كانت شرائح كبيرة من سكانها قد هُمشت واضطهدت لفترة طويلة فرُفع سقف المطالب من إصلاح النظام إلى إسقاطه، وانقسم السوريون على أنفسهم، وضمن البيت الواحد، متخذين من التطرف والراديكالية الوسيلة الوحيدة للتعبير، الأمر الذي يتجلى في اللغة العنيفة والإقصائية التي يعتمدها الطرفان اللذان لا يتفقان إلا على إزالة أي طرف يدعو للحوار أو يرفض الانضمام إلى أحد الأطراف. لكنّ هذه الانقسام ليس وليد اللحظة، وإنما نتيجة طبيعية لمجتمعٍ محكومٍ وحاكمٍ في آنٍ واحد وفق عقلية السلطة الأبوية الهرمية، وهي خاصية تشترك فيها معظم المجتمعات العربية والشرقية بشكلٍ عام، فالأب كالله والحاكم يُمثل السلطة المطلقة، وهو مصدر القوانين والتشريعات، والناظم للعلاقات داخل البيت وخارجه وحاكم الزمان والمكان، يليه أهمية على التوالي -ولا استمرارية له من دونه- الإبن البكر والرسل والحاشية الممثلة بأجهزة الأمن والحزب. وليس شبح الطائفية أو الحرب الأهلية الذي تلوّح به جميع الأنظمة العربية في جانبٍ منه إلا أحد إفرازات التربية الاجتماعية (الدينية أو الإثنية) التي تبدأ في المنزل لتتجذر في المدرسة وتنمو في إطار التحزبات الدينية أو السياسية أو القبلية، منتجةُ "جندياً" أو "مجاهداً" مهيئاً في أي لحظة للانخراط مع "مثيله" الذي هو بالضرورة "صورة" تكاد تكون طبق الأصل عن أفكاره ومعتقداته، فلا مكان للثقافة "الفردية- Individuality" التي تتعامل مع الإنسان "كفرد- Individual" بل يتم الخلط المتعمد ما بين الفردية والأنانية، ويُهمّش الفرد والإبداع الفردي والهوية الفردية ما لم تكن ضمن الجماعة، وقد يصل التهميش حدّ الإقصاء الاجتماعي أو التصفية الجسدية، والمفارقة أنّ الجماعة تتخذ في علاقتها مع غيرها من الجماعات طابعاً فردياً مع هيمنة الطابع الاستبدادي المَرضي في علاقاتها مع بعضها، في ظل غياب دستور مدني وقانون مدني، وبالمحصلة غياب تام للمواطنة؛ سواء أكانت هذه الجماعة إثنية الطابع (كرد، عرب، أرمن، سريان، آشور، بدو...) أو دينية (إسلامية، مسيحية، يهودية، يزيدية...) أو طائفية (سنية، علوية، إسماعيلية، درزية، مرشدية، كاثوليكية، أورثوذكسية، بروتستانتية...) أو مزيجاً بين الإثنية والدينية أوالإثنية والطائفية (أرمن، سريان...).
وتتسم التربية في البلاد العربية ذات التعددية الثقافية، بتوريث ذاكرة انتقامية وعقلية ثأرية وكراهية لأفراد الجماعات الأخرى، رغم غياب تفسير سبب الكراهية أو دافع الانتقام المزعوم؛ فيتحول "العيش المشترك" إلى حالة من "التعايش المشترك" تختلف ديمومتها بحسب استقرار البلاد من الناحيتين السياسية والاقتصادية. ويتحول التاريخ من مجموعة من الأحداث التي تمت في "الماضي" إلى "سيرة ذاتية" تستقي منها كل جماعة ما تراه "دافعاً ومبرراً" للاقتصاص من إخفاقٍ أو إهانةٍ أو مجزرة أو نكوصٍ في الماضي، ومحاولة ردّه في "الحاضر"على ورثة "المتسبّب" الذين ولدوا بالصدفة تحت اسمه، الأمر الذي يُجذّر من "ثقافة الطائفية" في المجتمع على حساب "ثقافة المواطنة"، ويجعل منها كتلة سرطانية مهيئة في أية لحظة -بحسب مناعة جسد الوطن- للتحول إلى كتلة سرطانية خبيثة، كما يجعل العلاقة بين الجماعات سادية الطابع في حلقة دائرية مغلقة! وعلى ضوء ذلك يمكن فهم -دون تبرير- سبب ارتداد بعض المثقفين والعلمانيين السوريين أو اللبنانيين إلى طوائفهم والتمترس بشكلٍ غريزي تحت قوقعة السلحفاة الطائفية أو الإثنية عندما يدق ناقوس الخطر. أما من يتخذ موقفاً مخالفاً لموقف جماعته أو قريته ويرفض التمترس في قوقعته بين القواقع المتيبسة فإنه يتعرض للعزل والشتم والتهديد بالتصفية في أية لحظة! وكأنّ المواطن مخير بين "الاستبداد" أو "الطائفية " وبالتالي "الحرب الأهلية"، وهو خيار تفرضه السلطة دون أن يتمكن المواطن حتى من "حقّ الاختيار" بين السيّئ والأسوأ! حيث تلت موجة الاحتجاجات تضمينات وتلميحات حول طائفية الاحتجاجات بعد الإقرار والتأكيد على مشروعيتها على لسان المسؤولين أنفسهم، تلتها حملة منظمة في وسائل الإعلام الحكومية و"شبه" الحكومية وتعليق بوسترات وشعارات في كافة الشوارع، بحيث لا يمكن للعين أن تتفادها "كطائفتي سوري" و"لا للطائفية" و"لا للفتنة" وهي حقٌ يراد به باطل، فهي تُسهم بصرياً في التأثير على الدماغ وتسريب الفكرة الطائفية وجعلها أكثر من فكرة لتتحول إلى"أمرٍ واقع"!
وقد نبّه المفكر الراحل مهدي عامل شهيد الطائفية إلى خطورة هذه المسألة في "الدولة الطائفية- ص121": "فمنطق الفكر الطائفي لا يسمح في الحقيقة سوى بواحدٍ من اثنين: إما الإبقاء على القائم، بتأبيد النظام وتأبيد أزمته، وإما الذهاب في منطق نظام القائم حتى نهايته، ونهايته تفجير النظام في مجتمعات طائفية متعددة...". ولا يمكن وصف النظام السوري بأنه نظام "علوي" فقد استفاد منه "فاسدون" من كافة الطوائف دون استثناء مثلما تضرّر منه "مواطنون" من كافة الطوائف، وهذا التوصيف بحدّ ذاته يحمل مضامين طائفية، وينهل متبنّي هذا الخطاب من ثقافة الانتقام التي أشرنا إليها والتي تتعامل مع التاريخ كسيرة ذاتية لتبرير نياتها الانتقامية، وتجلى ذلك أيضاً في بعض الشعارات والهتافات والدعوات الجهادية التي أطلقت في عدة مناطق سورية. الأمر الذي حرّك أكثر الغرائز بدائية وهي غريزة "الخوف" التي تدفع الفرد الذي يظن نفسه مستهدفاً إلى التقوقع مع جماعته التي تمثل قطيعاً يخشى زوال ما تبقى من سلطة القانون - الفاسد - وسيطرة "شريعة الغاب"!
وفي الوقت الذي تعتبر فيه بعض الفئات المنتمية إلى الطائفة الأكبر "عدداً" أنّ مسألة "استعادة السلطة المسلوبة" حقٌ مشروع، يتم تضخيم مشكلة التمايز الثقافي (الإثني أو الديني) لدى الأقليات لتتحول إلى مشكلة وجودية ومشكلة تأكيد للهوية والاستقلالية بدلاً من الاندماج والتعبير عن غنى المجتمع ووحدته، مما يؤجج عناصر الصراع والتفتيت والانقسام ضمن النظام الاجتماعي نفسه ليعبر بشكلٍ أو بآخر عن الصراع بين طبقات اجتماعية (أهل المدينة وأهل الريف والجبل)!
لا يبدو أن ثمة مخرجا للأزمة السورية مع الراديكالية المتصاعدة لكلٍّ من الطرفين المؤيد والمعارض للحركات الاحتجاجية ومع السعي الحثيث "لطوأفة - sectarianize " المطالب والحقوق المشروعة والأساسية للسوريين، وليس أمام السوريين "سلطة" و"شعبا" سوى تبني سياسةُ عقلانية واضحة وفورية، بدلاً من إحلال ثقافة الطائفية التي تعكس أمّية في الموطنة، وتكريس الكراهية واستحالة الحلّ عبر تراشق الاتهامات ورفع شعارات فضفاضة لن تبني وطناً بقدر ما ستخلق أرضاً بوراً تغطي سطحها قطعانٌ من السلاحف المتقوقعة!!
ويدرك الجميع واقعاً جديداً وهو "اللاعودة إلى ما قبل درعا"؛ فانتصار الخيار الأمني للنظام سيجلب كارثة دموية على السوريين، في حين أنّ انتصار الخطاب الطائفي سيترافق لا محالة مع كارثة الحرب الأهلية، لذا ينبغي على الحركة الشعبية الالتزام الصارم باللاعنف الذي ما زال غريباً عن المجتمعات العربية التي تتغزل ثقافتها بالموت والشهادة والانتقام وصليل السيوف، رغم أنّ المقاومة اللاعنفية قد أثبتت نجاعتها عبر التاريخ (غاندي، مارتن لوثر كينغ، مانديلا، الدالاي لاما، مبارك عوض...)، وعلى الحراك الشعبي أن يعزل ويحاصر أصحاب الدعوات الطائفية والانتهازيين الراغبين بالتزلج فوق أمواج الحرية مهما بلغت ضآلة تأثيرهم أو وجودهم على أرض الواقع، كي لا تُمنح السلطة ذريعةً لإجهاض حلمٍ كان ممنوعاً زهاء نصف قرنٍ تقريباً، كنا نستيقظ بعده وهراوة رقيبٍ أمنيٍ يرتدي جسدنا ويجعل منه كابوساً..!
(أوان)