آخر الأخبار

ما الـذي قلـب «ربيـع دمشـق» إلى «ثـورة ريـف»؟

غروب يوم الجمعة، وبعد جولة دمشقية اقتصادية في دور رجال الاقتصاد السوري، ومقاهيهم، تصبح دمشق من أعالي فندق «فردوس الشام» عرضاً اقتصادياً ثلاثي الأبعاد لمبارزة قاسية فوق جسد المدينة. الشمس تسقط أرجواناً خلف جبل قاسيون البني فتحزّمه، وتصبح عشوائيات السكان الفقيرة على الجبل كفراشات على وجنة دمشق. ينظر «القاسيوني» إلى الجامع الأموي مسائلاً إسلامه والمشاريع التي تمرر تحته. فيطير حمام المدينة بين الحبيبين القديمين معاتباً. في عينه الأخرى، يطل الجبل متهيباً الفندق الضخم وسط الشام. إلى اليسار يقف مبنى «فور سيزنز» مستفزّاً كبرياءه. نفحة الفندق الخليجية، وأسواقه وترفه ومقاهيه ووكالاته، تستفزّ ماضي الجبل، الذي يكاد يبوح قائلاً: أنا التاريخ عند قدمي بدأ... فيردّ «فور سيزنز» مغيظاً: اقتلعني إن استطعت!
من لم يزر الشام قبل بشار الأسد، لن يعرف الانقلاب الاقتصادي الذي قام به الرئيس. من لم يمر على الحدود ليبحر بين مشاريع الإعمار الإماراتية، ويرى إعلانات «ماجد الفطيم» تحتل السماء، وملابس «آيشتي» تلف النساء، لن يدرك التغيير الجذري الذي عاشته سوريا خلال العقد الماضي.

مفرقعات نارية اقتصادية
هكذا يتجلّى «ربيع دمشق» مفرقعات نارية اقتصادية: مشاريع عمرانية تتناثر على ضفاف الطرق. كويتي وقطري وإماراتي وسوري يستثمرون. سياحة وقطاع خدماتي يكوّنان نفسيهما. قطاع مصرفي يبنى على أكتاف خبرات سورية ولبنانية ايضاً.
مديرة شؤون الموظفين في احد المصارف اللبنانية قضت ثلاث سنوات ذهاباً وإياباً في نهاية الأسبوع إلى منطقة أبو رمانة ذات الطابع المصرفي. عاشت في دمشق لتبني كوادر المصرف البشرية وتعدّها. كانت «نقّاش» البيروتية تروي من مقعدها على طريق الحدود في نهاية العام الماضي: إذا كان القطاع المصرفي اللبناني قد بنى نفسه خلال ستين عاماً، فقد استطاعت سوريا أن تلحق به خلال عشرة أعوام. المديرة البيروتية، لم تكن من المعجبين بالشام، بل قضت سنواتها في نوع من الانغلاق الاجتماعي والتذمّر من كل شيء: «عليك أن تشرح للنادل عشرين مرة كيف يعد الشطيرة. في القطاع الخدماتي والسياحي، الدولة سبقت الشعب، قبل أن تعدّه للنهضة».
... ودخل الخارج: شركات إعلان متقاطعة مع الشركات العالمية، وكالات سيارات تجتاح السوق، وامتيازات تتوزع بين «زارا» و«ماسيمو دوتي» إلى «أودي» و«مرسيدس». فنادق تزدحم في سياحة ملوّنة بين «الشادور» الإيراني الأسود والتنانير الأميركية القصيرة ونبيذ الأوروبيين. مراكز تعليم ومؤتمرات اشتركت مع الغرب. شريحة الدبلوماسيين نشطت في المجتمع حتى كاد كل رجل أعمال لم يجد باباً إلى السياسة يبحث عن الأبواب «الدبلوماسية» إليها.
اليوم، فنادق دمشق خالية، الشقر الإفرنج ما عادوا يزورون الأموي. المطاعم والفنادق والإعلان والتجارة والصناعة في ألم وكساد. ما الذي يحصل حقاً في الاقتصاد؟

مقهى «الوكلاء»
معالم «المفرقعات النارية « تظهر من المقهى وشكله ورواده. بالاستناد إلى اسمه، فإن المقهى واحد من سلسلة لها عشرات الفروع في دمشق وحولها. من الشعلان إلى باب توما إلى الصبورة إلى المزة، اسم السلسلة، «جيميني»، يلاحق العين وفناجين القهوة والمحارم المعطرة. لكن هنا في المزة، في مقابل ملعب الجلاء، فإن المطعم مسمّى تيمّناً باسم السيارة الأجنبية «اودي». دوائر إشارتها تحتل المكان والفناجين والإعلانات. لوحات المقهى صور لسيارات جديدة. الحلوى تقدّم معلّبة بإعلان. يسأل أحد المهندسين عن السيارة الجديدة في الحلوى، يتناول هاتفه الباهظ، يكلّم رجل المال الثاني، يسأله عن السعر ثم يعلن: «تمّت البيعة». هكذا فوق طاولة القهوة، يشتري المليونير سيارة مليونية أخرى، بينما تعرض شاشة «الإخبارية السورية» أنباء عن جمعة سورية جديدة واحتجاجها وسلاحها ودمائها.
على طاولة أخرى، تجلس ثلاثة عقول وجيوب اقتصادية أخرى توصّف الحال السياسي والقرارات وتشرح الأزمة. «انسداد الأفق، وانحسار العقل، والمشكلة الاقتصادية» تزيدها رمادية. تسأل عن «أسباب الحلول الخاطئة، أين العقل في هذه «العصفورية». «الوكيل الكبير» متمدد مالياً في استثمارات أخرى كثيرة. لماله مكان أيضاً في تلفزيون «الدنيا»، ولكن لا سلطة للممولين في قرارات المحطة إعلامياً، فينعطف الحديث إلى الأزمة الاقتصادية.
تحدّق عيونهم، تلوح أيديهم، تنشغل وجوههم بالهواتف والمواعيد والأوراق والاجتماعات. في عالم مالهم هناك، الأزمة تضغط على الخاصرة والعقل والضمير. هنا يتدخل ثلاثيني الأعمال الإعلاني الإعلامي، صاحب إحدى الشركات الرائدة سوريّاً وإقليمياً: «بدأنا ندخل جدياً في الأزمة الاقتصادية، وفي مرحلة تخفيض الأجور. هناك مشكلة الاضطرار إلى التسريح من العمل، فالموازنة لم تعد تحتمل». فيرد التجاري السياحي الحموي «أنا سبقتك، بدأت بالتسريح، كل من يملك وظيفة أخرى في الدولة استغنينا عنه، وإذا استمر الحال هكذا، سنستغني عن المزيد».

تشخيص المشاكل
رجال الأعمال والمال أصبحوا من شتى المناطق والمحافظات، تكوّروا في دمشق الغنية إلى جانب أسماء عائلات المال ونافسوها. مال ينفلش في الاقتصاد المستفيق. نهضة اقتصادية تدار تحت قيادة مجموعة غير متجانسة ومنقسمة على ذاتها. مستشار الرئيس للشؤون الاقتصادية وحاكم المصرف المركزي في جهة، ورئيس الحكومة ووزير المال في جهة أخرى. عائلات النظام وامتيازاتهم على ضفة، ورجال المال الوافدون على ضفة أخرى. انقسم المال بين التوجّهات والخلفيات: بعثية، ليبرالية، قومية، طمع ومطامع، أصحاب مشاريع، انتهازيون، فاسدون، وصالحون. كل الألوان تحت عباءة المبارزة الاقتصادية التي بدأها الأسد.
يشخّص رجل المال الأول العلّة: «سوريا تعاني من مشكلة انفجار سكاني سنوي تقابله بطالة. يرد رجل المال الحموي: «المشكلة في الريف، المشكلة في الخطة الاقتصادية التي قادها فريق غير متجانس، انقسم على ذاته». تتناقل ألسنتهم أطراف المشكلة المتمددة في العائلة والنظام، والحيتان الاقتصادية على ضفتيهما، والتي أصبحت الأحجار والنسمات في دمشق تعرفها وتعرف احتكارها. ما من حاقد على الحيتان الاقتصادية يضاهي بحقده، الرماديين. فالرمادية الاقتصادية «النخبوية» السورية، تعتبر أن عدم محاسبة هؤلاء، واستمرار نفوذ العائلة والحزب كجزء من نفوذ الرئيس، سيؤدي حتماً إلى الهاوية للجميع: النظام والاقتصاد والشعب والوطن.

وظلم ذوي القربة أشد مضاضةً
إذا كان رامي مخلوف، الذي ارتبط أسمه بالهيمنة الاقتصادية، اسماً واحداً، فهناك مثله أسماء عديدة تحت الضوء، من «غراواتي» إلى «الشلحة» و«حمشو» و«السمحة» و«الخولي» و«الجود». القربى جعلته المميز بين من حصلوا على امتيازات وتسهيلات لثرواتهم المتصاعدة، كما جعلته أول من استهدفته العقوبات الغربية.
الحقد على مخلوف عابر للمحافظات وربما قد لا يكون بريئاً لكنه محق. خلال جولة حماه مثلاً أطلق «الإخواني» الحاج وليد قصفه على مخلوف ومن معه، وابتعد عن مهاجمة الرئيس الأسد. هكذا يبدو، إن لاستهداف مخلوف بعدا،ً طائفياً أو غربياً، ولكن ذلك لا يمحو «الاحتكار» عن العائلة، و«الحق» عن معارضيها.
في الخلفية كان الفساد يستمر يومياً في الريف، متحالفاً مع «النهضة الاقتصادية» للنيل من المزارع كما للنيل من القطاع الزراعي، وللنيل من العامل كما للنيل من القطاع الصناعي. من اللاذقية إلى حلب ودمشق، ثمة شريحة موالية تمعن في تبرير الخطأ، حفاظاً على المصالح أو على الطائفة. هذه الشريحة ليست فقط من الطبقة المالية، وإنما في أوساط الشباب والشعب أيضاً. من حصّل من ثمار «النهضة الاقتصادية» وظيفة براتب عشرة آلاف دولار في قطاع الخدمات، لا يكترث إذا تسببت مشكلة الري في تهديد لقمة المزارع في درعا. ومن يرَ الاحتجاجات على انها «هجمة لاستلام الحكم المتطرف السني»، لا يتردد في فتح مجموعة «فيسبوك» بعنوان مستفز «رامي مخلوف نرفع لك القبعة»، قبل أن ترفع القبعات لدماء الشعب السوري وجراحه وظلمه.
تلك الشريحة المتطرفة في الموالاة، تلك الطبقة القريبة، وتلك الحاشية المقربة، تؤذي الأسد يومياً بحملة دفاعها عنه. الإعلام والبعث والعائلة، مثلث يصح فيه قول الشاعر اليوم: وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً على المرء من وقع الحسام المهنّد. فعند استعراض آخر إنجازات البعث والأمن والأنسباء (من عاطف نجيب مطلق الظلم والذل على اولاد درعا إلى الحوت الاقتصادي المخلوف)، يعلو الحق في الاحتجاج والمعارضة، وتهتز سمعة النظام اكثر.
أبو حافظ الكبير يشوّه
أبو حافظ الصغير
لكارهي مخلوف حجتهم ليستمروا في محاربته: الرجل ابن خال الرئيس. الخال، «أبو حافظ»، أشبع الشارع ذرائع لكرهه، من المصرف العقاري ومؤسسة التبغ. كان موظفاً في شركة الطيران السورية في قسم المحافظة، وبعد ان غدا صهره الرئيس، تولى محمد مخلوف الادارة العامة لمؤسسة التبغ والتنباك «الريجي» في سوريا عام 1972. ومن هناك، هيمن «أبو حافظ» الكبير على جميع العقود مع الشركات الأجنبية من التبغ ومعدّاته، ليتوسع منها إلى «السمسرة» في عقود الدولة مع الشركات الأجنبية. ومن بين أولاده الخمسة رامي، وهو الاقتصاد، وحافظ، الذي ينظر إليه الشارع على أنه المسؤول عن الضغط باتجاه الحل الأمني.
ومن الشارع والكواليس والهتافات وحاشية الرئيس، يستخلص السامع أن المشكلة ليست في رامي. المشكلة في «أبو حافظ» وتفرّعاته. وبينما هيمنت «راماك» و«شام القابضة» وغيرها من مصالح رامي على الاقتصاد، دخل أبو حافظ بحافظ إلى الجهاز الأمني وإدارته. الرجل متمدد في النفوذ والدولة. بين الأخوان مخلوف والأخوان الأسد والإخوان المسلمين، كيف تتخلّص سوريا من أزمتها الداخلية قبل الخارجية؟ كيف يعاد الحق لأصحابه؟ وكيف يعطى الشعب الهواء بعدما كاد يعلّبه «مخلوف» ويبيعه؟

الحل بين القهوة والشارع وقصر الشعب
«إعادة توزيع الثروة» هي العنوان في طاولة المهندسين في المزة. يتدخل رجل المال اللاذقاني: «الحل هو أن يضع رجال الأعمال مالهم في تنمية الريف، وفي مشاريع سكانية لمعالجة العشوائيات، وفي إنصاف الزراعة... الحل بعدما جمعت تلك الثروات، أن تعطى للشعب». آخر يزيد: «ما فعله بشار الأسد هو انقلاب اقتصادي على الدولة القديمة، وعليه أن يجاريه بانقلاب سياسي عليها اليوم. عليه هو أن ينقلب على من حوله، ليستعيد الشارع معنوياته». من جهة ثالثة، يصبح الحل اكثر جلاءً: الحل في إيقاف عقلية «المفاوضـة» مع الشــعب وتصوير النظام نفسـه دائماً على أنه الضحية. الفجوة بين الــشارع والحكومة آخذة في الاتساع. كأن القصر الآن يتعرّف إلى شعبه: يعطـــيه عفــواً عاماً، وإذا نـزل إلى الشــارع في اليوم الــثاني، تســـفك الدماء من الجانبين.
يسألون في وجوه بعضهم عن «الرئيس» الذي وثقوا به وساروا معه. يتساءلون عن قوّته اليوم، وعن إرادته على صنع التغيير الحقيقي. يتهامسون عن خطاب متوقع في الأيام القليلة المقبلة، فترتفع إراداتهم وعيونهم «الحل بالخروج من قيود الحصار والعودة إلى الشعب».
إذا كان الحموي والديري والساحلي والدمشقي والحلبي والحمصي والحوراني، غاضبين من الحاشية وليس من الرئيس، غاضبين من «العائلة» وليس من «الطائفة»، فالحل يكمن بإرضائهم. يهمس الرأس القيادي الرمادي بنبرة قاسية وخائفة: «الشعب هو الله، الحل بإرضاء الشعب لا بإخضاعه. لم الخوف من شعبنا؟ أعطه هواءً ليتنفس الصعداء... لا تعطه المساومات». على الرئيس أن يقود انقلاباً على نظام وعائلة ورثهما، ليعود إلى صورته القديمة، تلك التي آمنت انه «مختلف، مدني، قديس». عليه ان يعيد صورته القديمة التي كانت في الشارع وفي حرسه الجديد. عليه ان يخرج من العائلة والبعث والأمن، ليعود إلى الشارع. لن يصيبه العراء إذا خرج من تلك العائلة، فأهل الرئيس الحقيقيون هم الشعب السوري كله. وهؤلاء هـم الأولـوية. البـدايـة والنهاية في العقل والشعر الرمادي الثائر الحريص: «الشعب هو الله».
غدي فرنسيس
(السفير)