د. هايل محمد الطالب
كانت مصادفة بحتة، أن نلتقي في سهرتنا بعد حفل توقيع رواية الصديق محمد غفر (وادي العريش)، في اللاذقية بالفنان سامر أحمد، الذي لم نكن قد سمعنا به من قبل مطلقاً و الذي قدّم بصوته الدافئ والمتألّق مجموعة من الأغاني من ألحانه وكلمات شاعر غنائي أسمع به للمرة الأولى هو الشاعر عصام الخطيب، وفوجئنا أن الشاعر قد توفي منذ شهرين تقريباً، وخلّف وراءه نتاجاً فنياً أقول بأنه رائع جداً بعد أن استمعت له بصوت الفنان سامر أحمد الذي تملّك حقوق الكثير من ذاك النتاج الذي كان سيطوى، بموت الشاعر، لولا أن قيض الله له هذا الشاب المبدع، وقد علمت من بعض الأصدقاء أن الفنان فؤاد غازي قد غنّى له في نهاية ثمانينيات القرن الماضي أغنية عن الشام، وأن لديه بعض الأغاني في الإذاعة تنتظر الظهور، ما أريد قوله من كل ذلك، ودون مبالغة، أن في نتاج هذا الشاعر من الكلمة الراقية، والصورة الشعرية القريبة المتناول البعيدة التأثير، ما يكفل إعادة البريق للأغنية السورية التي تعيش في حالة مزرية، أزعم أن هذا الشاعر الضرير، قد كشف لنا عن نعمة فنية جلبها له فقد البصر، تتجلّى في الاختلاف في صياغة الجملة الشعرية للأغنية، عبر سبكها بعلاقات مدهشة ومبتكرة لم تعهد الأذن سماعها ، وهذا ما يعطي هذا الشاعر بصمة خاصة في طريقة صياغة الكلمات وتشكيلها، فالشاعر اعتمد الحسي الذي ينقل له بالكلام، لينقله إلى مخبر المخيلة الخاص والفذ الذي يتمتع به، لإبداع صور غنائية أزعم أنها مبتكرة، وخاصة أن تفتقدها المخيلة البصرية التي يغشها النظر والمشاهدة في أحايين كثيرة، وستسهم في تقديم مرحلة جديدة غنية في الأغنية السورية فيما لو قيض لها الظهور، وأتوقع أنه تقع على عاتق المسؤولين عن مهرجان الأغنية السورية، والمعنيين بأمر تطوير هذه الأغنية وإعادة الألق إليها ، مسؤولية تبني نتاج هذا الشاعر وغيره من المبدعين المهملين إعلامياً، وإنسانياً، والذين يأتون إلى هذه الحياة، بسلام، ويغادرونها بصمت دون أن يثيروا أي ضجيج، ودون أن يلتفت أحد إليهم، أو إلى نتاجهم وكأن شيئاً لم يكن، فيموت إبداعهم، ويبقى غيرهم ممن لا يمتلكون نصف موهبتهم متصدرين الشاشات والإذاعات، وفيما يلي سأورد أمثلة من كلمات أغاني هذا الشاعر التي غناها الفنان سامر أحمد،وامتلك حقوقها، وقام بتلحينها وتوزيعها ضمن إمكانياته المادية المتواضعة، وسأعتذر عن إيراد أمثلة أخرى وجدت أنها أجمل من هذه الأمثلة حفاظاً على الحقوق الفنية للشاعر، في عصر باتت فيه السرقة الفنية دارجة(موضة) بين الناس، مع الإشارة إلى أن الفنان سامر أحمد يعمل على تسجيل ملكيتها قانونياً، وسأبدأ بإيراد أمثلة على الموال الذي يسبق الأغنية، لنلاحظ مقدار الشعرية فيه، ولا سيما أنه يهتم بالصورة الفنية المؤثرة، ولا يقوم على السجع الإيقاعي فقط، يقول في جزء من أحد المواويل:
لفّي بقميصك تلج صنين وتعي
ومتل الحرامي غازليني ورجعي
ولوما القميص يلفّ تلجو عالهدى
كان القميص انشق من قهرو معي
ومن الأمثلة التي يلفها الشجن والوجع، عندما يمزج الأنوثة بمكونات الطبيعة، في تشكيل جمالي طريف، نقرأ:
خلّي الشعر مفلوش من فوق الصدر
تا تراقصو النهدات لمّا بتنهدي
شعرك فلجتو مثل ورقات الحبق
لمّا بتفلش حالها تلم النِّدي
ومن كلمات الأغاني التي تعتمد الطرافة، والجمال في تشكيل الجمل الشعرية، نقرأ قصيدة (متل القصب) التي يمازج فيها بين طول القصب وطول الحبيبة، في مشهد احتفائي، تتحول فيه جدائل المحبوبة إلى راقصات تحرك الريح خصورها،ويتحول الحبيب إلى حائك لغزل الحلم، في قميص الليل، الذي سيصبح فيه القصب سارقاً للمواويل، بكل ما فيها من شجن وبحة، من شجن الحبيب،والشمس ستغزل غزلها من الويل والآه،... يقول في كلمات الأغنية:
متل القصب متخصور وواقف على حيلك
وجدايلك ترقص عا جنح الريح والريح تحديلك
ميل على عنّات القصب ما أجملو ميلك
ميل على عنّات القصب لسكر وأغنيلك
غزلتك أنا أجمل حلم بالبال
وكل حلم بهل دني بدو غَزلْ
غزل الهوا وغزل الهنا وغزل الحرير وضمتو للشال
وغزل وغزل
غزل وقميص الليل
وخلّوا القصب يسرق مواويلك
ويلاحظ على كلمات الشاعر المرحوم عصام الخطيب أنها تحتفي بالفكرة الطريفة، ولا تهتم بالعرض، أو شعر القصة المفتعلة، فدائماً تجد الأغنية مسبوكة فنياً ومعتنى بالجملة الفنية التي تتناسب مع طبيعة الأغنية، ولكنها في الآن ذاته لا تتخلّى عن الشعرية العالية التي تداعب المتلقي، وتوصله إلى مرحلة التطريب، وفي ذلك انحياز للكلمة، والتواصل معاً، وربما يكون ذلك رداً جميلاً على ما يسود الآن من انحياز للإيقاع على حساب الكلمة، وبالتالي، فالشاعر الخطيب في كلماته يقدّم صورة رائعة للتناغم الجميل بين الكلمة واللحن، لاسيما وأنه قد امتلك الحس الشعري، واللحني معاً، فالكلمة تخرج من قلبه، لتداعبها يده على أوتار عوده.
أخيراً ربما في محاولة تبني مثل هذا النتاج، إخلاص لتراث الشاعر وإغناء للأغنية السورية التي فقدت بريقها في الفترات الأخيرة، ولاسيما إن علمنا أن فناناً مبدعاً يمتلك كل مقومات الأصالة في الصوت واللحن، هو الفنان سامر أحمد مستعد لتقديمه فيما لو وجدت الجهة التي تتبناه وتتبنّى هذا التراث، هل نسيت أن أقول إن المحافظة على نتاج المبدعين ورعاية الأصوات الأصيلة هي مهمة وطنية، وواجب يمليه الضمير، إذاً فلأقلها الآن، فهل من مستجيب؟!
(قاسيون)